العالم اليوم كلّه تقريبًا مشغول بالعدوان الروسي الذي شنّه هتلر الكريملين على أوكرانيا، والذي أدخل العالم ككل في مواجهة ذات طابع عالمي، حتى إن القول بأن حربًا عالمية ثالثة قد بدأت لا يبدو مبالغًا فيه، ولكن أطرافها اليوم، وبالأخص الطرف الأطلسي، تعلّمُوا من الحربين السابقتين دروسًا تمنع تكرار أغلاط تلك الحربين، ولذا صارت الحرب الراهنة تُدار بشكل يتفادى المواجهة المباشرة بين الأطراف الرئيسة فيها، كي لا تؤدي هذه إلى المواجهة إلى حرب نووية تدمّر للجميع.
للوهلة الأولى، قد يبدو أن العدوان الروسي على أوكرانيا قد أصبح الملفَّ الرئيس الشاغل اليوم للعالم، وأنه أحال إلى الظل بقية الملفات، ومنها ملف الحل السوري الذي لم يعد أحدٌ يوليه في اللحظة الراهنة أي اهتمام فعلي، ويبدو أنه قد أصبح في وضعية التعليق والتأجيل إلى إشعار آخر، ولا يبدو أن نهاية ذلك ستكون قريبة، وهذا يعطي نظام الأسد فرصة كبيرة لإعادة إنتاج نفسه وتعزيز سلطته وتسلطه على المناطق التي لم يخسرها، أو استعادها من القوى المعارضة، ولا يبدو حتى الآن، بعد أن أصبح عمر العدوان الروسي على أوكرانيا يحسب بالشهور، أيّ مؤشر يدلّ على تغيّر في الإستراتيجية الأميركية في سورية، أو على أيّ نية أميركية لإعادة تسخين الجبهة السورية لكي تكون عامل ضغط إضافي على روسيا.
والواضح أن أميركا تريد أن تركّز كل جهودها الراهنة حصرًا على مواجهة روسيا في أوكرانيا، وبحسابات متقنة تعتمد على تحالف بين أميركا وحلفائها الغربيين والدوليين لمواجهة روسيا على جبهتين، هما الجبهة العسكرية والجبهة الاقتصادية، بحيث تنحصر الجبهة العسكرية في أوكرانيا حصرًا، ويتم التركيز فيها على دعم أوكرانيا بالسلاح، لتمكينها من إحباط العدوان الروسي وإلحاق أكبر قدر من الخسائر الحربية بروسيا، ما يعني أن أميركا في الوقت الراهن لا تنوي فتح جبهات أخرى مع روسيا، وهي تكتفي بخوض هذه المواجهة بشكل مركز في أوكرانيا، بحيث تستطيع إدارة معركتها بقدر عال من التنظيم، فلا تبعثر جهودها في جبهات أخرى، وبالأخص الجبهة السورية البعيدة جدًا عن هذا المستوى من الوحدة والتنظيم، والتي تتشرذم فيها القوى المعارضة، ويغلب على أكثرها الطابع الإسلامي المتشدد أو المتطرف الذي لا تفضل أميركا التعامل معه، فضلًا عن أن هذه القوى المعارضة قد ضعفت كثيرًا، بعد أن تركتها أميركا وحيدة في مواجهة روسيا، منذ أواخر عام 2015 إذ كانت هذه القوى تسيطر على القسم الأكبر من المساحة السورية، وكانت على وشك إسقاط النظام نفسه، كما اعترفت روسيا نفسها بذلك. وقد أدى استفراد روسيا بالساحة السورية، وهي أحد أكبر قوتين عسكريتين في العالم المعاصر في المحصلة، إلى تدمير معظم قوة هذه الفصائل المعارضة، وقتل أو تشتيت أو أسر أكثرية مقاتليها، وانتزاع معظم المساحات التي كانت بحوزتها، وفي مثل هذا الوضع، لا يمكن الرهان على هذه القوى الضعيفة لإعادة فتح جبهة ساخنة سريعة، يفترض فيها أن تكون فاعلة بما يكفي لتشكل عبئًا عسكريًا فاعلًا على روسيا؛ حيث إن إعادة تأهيل قوى المعارضة السورية العسكرية، لإيصالها إلى مثل هذا المستوى، يحتاج إلى كثير من الحسابات والوقت والجهد والنفقات، وهذا لا يتوفر لدى أميركا في اللحظة الراهنة، التي تجد أن من الأجدى لها تمامًا الرهان عسكريًا على الجبهة الأوكرانية بشكل حصري!
وبالمقابل، الوضع الروسي نفسه في سورية لا يختلف كثيرًا عن الوضع الأميركي من هذه الناحية، فروسيا هي الأخرى ليست في وضع يسمح لها اليوم ببدء مغامرات في سورية، وليس من مصلحتها قطعًا إعادة فتح هذه الجبهة الآن، ولا سيما أنها تعاني بشدة في حربها على أوكرانيا التي لم تجرِ قطعًا كما كانت روسيا تتوقع، وفعليًّا فشلت فيها روسيا في تحقيق أهدافها التي تتجاوز أوكرانيا نفسها، لتكون معركة رابحة مع أميركا نفسها، بهدف إرغام أميركا على الاعتراف بندية روسيا على الساحة الدولية، والتعامل معها كقوة مساوية!
وفي وضع كهذا، يمكن القول أيضًا إنه ليس من مصلحة روسيا قطعًا تشتيت جهودها عبر تجديد المواجهة المسلحة في سورية، وبالأخص أن تركيا هي طرف رئيس في هذه المواجهة، وهي لم تشارك في العقوبات الاقتصادية المفروضة على روسيا، وليس من مصلحة روسيا إفساد العلاقة مع تركيا في الوقت الراهن، ودفعها إلى اتخاذ موقف معاد لروسيا، التي تعاني بشدة آثار العقوبات التي تفرضها أميركا والغرب وحلفاؤهما في العالم عليها.
أما إيران، فهي لا تستطيع وحدَها إحداث أي تغيير في الوضع العسكري السوري، وليس من مصلحتها القيام بأي تحرك من هذا القبيل، لأنها ستكون خاسرة فيه كثيرًا، فعسكريًّا هي لا تستطيع إحراز أي نجاح عسكري لا في إدلب (التي فيها تركيا المدعومة من الأطلسي)، ولا في شرق الفرات (التي فيها أميركا نفسها)، وإن أي مسعًى إيراني لتغيير الوضع العسكري في سورية يمكن أن يُفسد ما تحقق من تقدّم مع أميركا والغرب على صعيد الملف النووي الإيراني ورفع العقوبات عن إيران!
ومن ثم، يمكن القول إنه لن يحدث أي تغير عسكري في الوضع السوري على المدى المنظور، وكذلك الأمر سياسيًّا، فالحل السياسي السوري اليوم مؤجل إلى ما بعد الحل الأوكراني، أو بالأصح ما بعد نهاية المعركة في أوكرانيا، التي يمكن ألا تُنتج حلًا، وتُنتج وضعًا مشابهًا للوضع السوري، يتم فيه تقسيم أوكرانيا فعليًّا، بشكل غير رسمي. وفي مطلق الأحوال، الحلّ السوري بات مرتبطًا بشكل جد وثيق بالوضع الأوكراني، ولن يتم قطعًا بمعزل عنه، أيًّا كانت نتائج الحرب الدائرة فيه.
هذا يعني أن وقتًا طويلًا قد يمرّ، قبل أن يُعاد جديًّا تحريك الملف السوري بأي شكل من الأشكال، والمستفيد الوحيد من هذا الوقت الآن هو نظام الأسد، الذي سيجد أن الظروف قد وهبته كثيرًا من الوقت المستقطع المجاني لإعادة إحكام سيطرته على المناطق التي بقيت بحوزته، أو أعيدت إليه بعد التدخل الروسي العسكري المباشر، ولذا سيحاول هذا النظام إعادة الوضع في منطقة سيطرته إلى ما كان عليه قبل انطلاقة الثورة عام 2011. ومع ذلك، حتى هذه الفائدة لن تكون ذات قيمة مؤثرة، ولن تكون أكثر من فائدة آنية، يحصل عليها النظام في وضع تنشغل عنه فيه القوى الكبرى، فلا أميركا تهدده ولا روسيا تضغط عليه، وكلتاهما مشغولتان بمواجهة بعضهما البعض في أوكرانيا، ولكن إلى حين، وأيًّا كان ما يستطيع نظام الأسد فعله -سياسيًّا وأمنيًّا- في هذا الوقت، فلن يُحدث أي تغيير إستراتيجي في الوضع السوري، ولا سيما أن الوضع المعيشي ما يزال يتدهور بشدة في مناطق سيطرته، واحتمال حدوث انتفاضة أو حتى ثورة شعبية بسبب هذا التدهور يتزايد!
ولذلك، يمكن القول إن الوضع السوري، باستثناء احتمال ردة الفعل الجماهيرية العامة على الأوضاع المعيشية البائسة، سيبقى معلقًا بانتظار ما ستسفر عنه حرب روسيا على أوكرانيا! وأيًّا كان ما ستُسفر عنه هذه الحرب، والاتفاقية التي ستنتج عنها، إن نتجت، فالمؤكد أن هذه الحرب غيّرت بشكل جذري الوضع العام على المستوى الدولي، وأدخلت العالم في مرحلة جديدة من صراع القوى العظمى، وهذا ما سينعكس بشكل جوهري على عملية الحل السوري التي ستتأثر بشدة بهذا الوضع العالمي الجديد، ودرجة التوتر العالية فيه، فإذا كان مقبولًا القول قبل الغزو الروسي لأوكرانيا إنّ ثمة احتمالًا لأن تغض أميركا النظر عن دور روسيا في سورية، أو تتخلى لها عن سورية، مقابل بعض الشروط كضمان أمن إسرائيل وتقليص الدور الإيراني، ولا سيما الجانب العسكري منه، في سورية، إضافة إلى بعض الإصلاحات السياسية التجميلية، أو كان آنذاك أيضًا من الممكن توقع حدوث تفاهم أميركي-روسي يُفضي إلى حل أقرب إلى الاعتدال في سورية، فمثل هذه الأمور أصبحت الآن بعيدة، والصراع قد أصبح سيّد الموقف!
وهكذا يمكن القول إن الحل السوري المؤجل إلى ما بعد انتهاء الحرب في أوكرانيا على الأقل، من المحتمل أن يشهد تصعيدًا من الطرف الذي سيجد أن نتيجة المعركة في أوكرانيا غير مرضية له، والأرجح أن هذا الطرف سيكون هو روسيا، ولكن هذا ليس الاحتمال الروسي الوحيد، فقد تجد روسيا نفسها ضعيفة بعد هذه الحرب، بحيث لا يعود بمقدورها لا التصعيد ولا حتى الحفاظ على موقفها الداعم لنظام الأسد في مواجهة أميركا، إن قررت أميركا التخلّص من هذا النظام، وهذا احتمال درجته كبيرة!
لكن مع ذلك، فمن المحتمل أن يأتي التصعيد من الجهة الأميركية، إما كتعويض عن نتيجة غير مرضية في أوكرانيا، وهذا احتمال غير كبير، ولكنه مع ذلك يبقى محتملًا، أو، وهذا أرجح، بهدف تحقيق مزيد من الضغط على روسيا وكبح مساعيها للظهور بمظهر القوة الدولية المنافسة لأميركا، إن لم يكن الدرس الأوكراني كافيًا لذلك!
وعلى أي حال، الشيء الأكيد الذي سيحدث في الوضع السوري بسبب الغزو الروسي لأوكرانيا هو أن حالة التراخي الأميركية ستنتهي، وسيكون على أميركا أن تتخذ موقفًا على درجة عالية من الحزم ضد روسيا التي دفعت المجابهة مع أميركا وصعّدتها إلى درجات جد عالية وأبعاد خطيرة.
فهل سيكون هذا في مصلحة السوريين؟
هنا تتعدد الاحتمالات، وترتبط هي الأخرى بدرجة كبيرة بنتائج وتطورات المعركة في أوكرانيا، وأسوأ هذه الاحتمالات هو تجدد المواجهة العسكرية، لكنه الاحتمال الأقل، حيث إن مؤشرات المعركة في أوكرانيا تشير أكثر إلى فشل روسيا في تحقيق أهدافها الحقيقة من غزوها لأوكرانيا، والتكلفة العسكرية والسياسية والاقتصادية الضخمة لهذه المغامرة، ستجعل قيامها بمغامرات عسكرية أخرى في أماكن أخرى مسألة قليلة الاحتمال، ولا يبقى في مثل هذا الحال أمام روسيا إلا أن تلجأ إلى التشدد أو التعنت السياسي، وهذا نفسه لن يكون بمقدورها المضي به بعيدًا تحت وطأة العقوبات الاقتصادية الخانقة عليها والعزلة الدولية الكبيرة التي وقعت فيها، وفي حال فشل روسيا في أوكرانيا، كما سبق التنبيه، فسيكون لديها دافع كبير للتعويض في سورية، ولكن الفعل لن يكون محكومًا بهذا الدافع بل بالقدرة على القيام به، التي ستكون مستبعدة في حال الفشل الروسي في أوكرانيا المترافق بالعقوبات الاقتصادية الدولية الخانقة عليها.
ومع ذلك، فبين تشدد روسي أو تشدد أميركي محتملين، يبقى ثمة احتمال في أن تربط أميركا وحلفاؤها أيضًا الملف السوري بالعقوبات الاقتصادية المتخذة ضد روسيا، وتفرض عليها تنازلات في سورية مقابل رفع بعض هذه العقوبات. وفي الوقت الراهن، من الصعب التكهن بمسارات الأمور، إلا أن الأكيد هو أن الحل السوري المؤجل لم يصبح مؤجلًا وحسب، بل صار على الأرجح أكثر تعقيدًا على صعيد إنجازه، ولكنّ هذا الحل، وإنْ تأخر، لن يكون شبه حلٍّ تنال فيه روسيا المكاسب الأكبر، وينال فيه تابعها الأسدي حصته من ذلك، كما كان مرجحًا قبل أن تصل درجة التأزم في العلاقات الأميركية الروسية إلى هذا الحد الخطير! إنما سيكون حلًّا أكثر واقعية واعتدالًا، ويتضمن تغييرًا حقيقيًا في الوضع السياسي، وليس مجرد تسوية تتم فيها إعادة تعويم دكتاتورية الأسد مقابل بعض الإصلاحات الثانوية، فبعدما وصلت إليه الحال من تأزّم وتوتر مع روسيا، لن ترضى أميركا بأنصاف حلول تستفيد منها روسيا أكثر، بل على العكس، ستكون أميركا صارمة في مواجهة روسيا، ولن تقبل بتقديم تنازلات لها، وبدلًا من التنازلات ستلجأ إلى الضغوطات، بهدف الحد أكثر من نفوذ روسيا في سورية، وتقليص دورها على الصعيد الدولي.
وخلاصة الكلام هي أن روسيا قامت بمغامرة متهورة في أوكرانيا، لن تكون قطعًا هي الرابحة فيها، وهناك احتمالان، إما أن تخسر فيها خسارة رادعة، وهذا الأرجح، أو ألا تكون فيها خسارتها كافية، وهي هنا ستحاول التعويض في سورية وأماكن أخرى، ولكنها بالمقابل ستواجه مزيدًا من الصرامة الغربية والضغط الغربي، وهنا ستكون احتمالات فوزها أقلّ وأقلّ من مغامرتها الأولى، وهذا في المحصلة سينعكس بشكل سلبي على أوضاع كلّ أتباعها، ولا سيما نظام الأسد!
هنا قد يعترض معترض، وهذا ليس جديدًا قطعًا، بأن ما قيل يعني أن الرهان في الحل السوري المُرضي قد أصبح على أميركا، وهي دولة استعمارية لا يمكن الوثوق بها. ويُردّ على هذا ببساطة بأن الرهان لن يكون على أميركا في صنع الحل، بل في ردع روسيا التي تريد أن تفرض بالقوة أمرًا واقعًا لصالح نظام الأسد، أما المعارضة الديمقراطية، فمصلحتها النفعية تقتضي الدعم الأميركي الذي لا بديل عنه لمواجهة دعم روسيا لنظام الأسد، وبالمقابل أميركا لن يكون لديها أي مانع من حدوث تغيير ديمقراطي في سورية، ليس لأنها نصيرة للديمقراطية فحسب، بل من منطلق نفعي، لأنها تحتاج إلى بديل لنظام الأسد التابع والخادم لروسيا، وأميركا بالطبع لن تختار المتشددين والمتطرفين الإسلاميين كبديل لهذا التابع الروسي، فهذا ليس من مصلحتها قطعًا، وبالتالي فلا خيار لديها إلا دعم القوى الديمقراطية السورية!
فهل في هذا ما يعيب؟
إن كانت القوى الديمقراطية السورية في لحظةٍ ما ليس لديها بديل عن الدعم الأميركي؛ فمن الحماقة البالغة الرفض، بأي ذريعة، ولا سيما أن عدوها تدعمه قوة عسكرية كبرى كروسيا.
وختامًا نقول: إن الوضع على الأرض في أوكرانيا يُشير إلى أنّ وضع روسيا فيه ينطبق عليه المثل العربي القائل “على نفسِها جنَت براقش”، فهي فعليًّا قد فشلت في أوكرانيا، وتحاول حفظ ماء الوجه هناك، لكن هذا الأمر بدوره معرّضٌ جدًا للفشل. والنتيجة: بقدر ما تجعل حرب أوكرانيا روسيا أضعف، سينعكس ضعفها على وضعها في سورية. وبسبب حربها على أوكرانيا، ستواجه في سورية تغيرًا في الموقف الغربي، ليصبح أكثر صرامة وحزمًا من ناحية، وستكون من ناحية أخرى أقلّ قدرة على مواجهة هذا الموقف الغربي، بسبب استنزافها العسكري والاقتصادي والسياسي في هذه الحرب، وهذا ما سيؤدي في المحصلة إلى تغيير فعلي لصالح حلٍّ فعليّ في سورية!
جاد الله محمد _ مركز حرمون للدراسات