من بين رزمة من الرسائل المُثقلة بالبروباغندا والشعبوية والميل للعَسكَرة، التي استهدف رأس النظام، بشار الأسد، توجيهها لجهات داخلية وخارجية، خلال كلمته قبل أيام أمام ثلة من الضباط بقواته المسلحة في الأكاديمية العسكرية العليا بدمشق، تستحق واحدة من تلك الرسائل وقفة مطوّلة، نظراً لأهميتها على صعيد توخي توصيف دقيق لطبيعة العلاقة بين نظام الأسد، وحليفه الروسي تحديداً.
وبعيداً عن نبوءات الأسد بحروب وهزائم أخرى للأميركيين، وما يعنيه ذلك من استمرار الحاجة لحالة الاستنفار القصوى للسوريين، بهدف “الصمود” في هذا العالم “المضطرب”، يبدو أن رفض الأسد تحويلَ المؤسسة العسكرية إلى مؤسسة “محترفة”، أكثر ما يتطلب القراءة والتحليل.
كيف يصف الأسد “الجيش” بأنه “مؤسسة” ومن ثم يرفض أن يكون “محترفاً”، فألف باء “المأسسة”، تعني الاحتراف؟!
فرأس النظام قال في كلمته: “لذلك هم يريدون جيشاً محترفاً وغير مسيس لكي تتحول العسكرية من رسالة وطنية إلى مجرد مهنة كأي مهنة أخرى”.لكنه لم يوضح من يقصد بـ “هم”؟ ولماذا يتناقض “الاحتراف” مع “الرسالة الوطنية” المفترضة للجيش؟ والتساؤل الأبرز: كيف يصف الأسد “الجيش” بأنه “مؤسسة” ومن ثم يرفض أن يكون “محترفاً”، فألف باء “المأسسة”، تعني الاحتراف؟!
أتبع الأسد عبارته السابقة، المثيرة للجدل، بعبارات أخرى تستهدف التورية، كي تصل الرسالة لمن يقصدهم، في حين يعجز آخرون عن فهمها. فحينما يقول إن “الجيش” حينما يصبح “محترفاً”، فهو “بالتالي يصبح.. ليس جيش الشعب لأن جيش الشعب يجب أن ينتمي لانتماء الشعب، يتبنى عقيدة الشعب ويدافع عن مصالحه”، فهذه العبارات هي مجرد محاولة للتعمية على القصد من العبارة التي سبقتها.
ذلك أن أبرز الجهات التي كانت تسعى فعلاً لتحويل “الجيش” إلى مؤسسة “محترفة”، هم الروس.يدعم ما سبق، نظرية أيدها عدد من الباحثين العرب والسوريين، حول فشل موسكو في مساعيها لإعادة تأهيل “الجيش السوري”، بقصد تحويله إلى “مؤسسة” أكثر “احترافية”، لأن بشار الأسد قاوم ذلك خشية أن يكون تحويل “الجيش” إلى “مؤسسة حقيقية”، مقدمة للانقلاب ضده.
ويؤيد ذلك أيضاً، تقرير نشره معهد الشرق الأوسط –معهد دراسات أميركي-، في تموز/يوليو الفائت، تحدث فيه الكاتب السوري، عبد الله الغضوي، بالاستناد إلى بعض المصادر الخاصة، عن تفاصيل محاولة روسية بدأت عام 2018، واستهدفت تعزيز حالة “المأسسة” في الجيش، ومكافحة الفساد وحالة “التطييف” و”التسييس”، داخل أروقته.
وبدأت تلك المحاولة، بحسب التقرير، بتعيين روسيا للعميد “آصف الدكر”، على رأس فرعٍ مسؤول عن مراقبة تحركات ضباط الجيش والأمن. كما عينته رئيساً للجنة مكافحة الفساد. وقاد الدكر المقرّب من روسيا، حملة اعتقالات واسعة طالت ضباطاً من الحاضنة الشعبية للنظام، يحتلون مناصب حساسة، بتهم فساد.ويوضح الكاتب الغضوي، وفق مصادره، أن تلك المحاولة الروسية لقيت تمرداً داخل “الجيش”، بدعم إيراني، وأن النظام شعر بالقلق من المشروع الروسي، فعمل على إجهاضه، عبر مزيد من “تطيييف” الجيش.
ويخلص التقرير المشار إليه، إلى أن روسيا فقدت الرغبة في العمل على إعادة تأهيل “الجيش السوري”، من جراء مقاومة الأسد بدعم إيراني، فقررت القبول بالوضع الراهن، وخسرت فرصة السيطرة المطلقة على القرار العسكري والأمني، وحتى السياسي، في سوريا.
وفي نفس الاتجاه، تذهب دراسة نشرها مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، في آب/أغسطس المنصرم، تحت عنوان “سلسلة القيادة والأوامر في الجيش والقوات المسلحة”، إلى أن بشار الأسد يسعى قدر الإمكان للتقليل من تأثير حلفائه، الإيرانيين والروس، على “الجيش”، ومحاولة الإيحاء بمركزية التحكم في سلسلة القيادة والأوامر، التي ما تزال تحت سيطرته، رسمياً. لذلك عمل على القيام بتعيينات دورية لعدد من قادة المناصب العسكرية، بهدف تخفيف أثر الشبكات التي يتم نسجها حول كل منصب.
وإن كانت دراسة “عمران”، قد أشارت إلى أن الأسد لا يتحكم بصورة كاملة بتعيينات سلسلة القيادة وتدفق الأوامر ضمنها، وقد يخضع للتوازنات مع الحلفاء بحسب ما تقتضيه الحاجة.. إلا أنها أشارت في الوقت نفسه، إلى أن طبيعة النظام المركّبة، التي تتداخل فيها العصبية العائلية والطائفية مع الشكل الأمني، ساهمت في تجاوز سلسلة القيادة الرسمية والآلية البيروقراطية لتدفق الأوامر في المؤسسة العسكرية، لصالح ولاءات واعتبارات مختلفة.
روسيا كانت تستهدف فرض نفوذها المطلق على “الدولة السورية”، بصورة تسمح لها بالتحكم بقرارها السياسي، حتى لو كان ذلك على حساب الأسد ذاته
النقطة الأخيرة بالذات، هي التي يعنيها الأسد بـ “التسييس”، خلافاً لما قد توحي به الكلمة نظرياً. فـ “التسييس” يعني الارتباط بالسلطة. تلك السلطة العائدة لآل الأسد. أي أن الأسد يقولها صراحةً، إنه يريد أن يبقى “الجيش” مؤسسة “مسيّسة” لصالحه، بدلاً من أن يتحول إلى مؤسسة “محترفة” مهمتها حماية الحدود الخارجية، وحفظ أمن البلاد، وليس أمن السلطة.
بطبيعة الحال، لا تختلف الأهداف والرؤى الروسية حيال إعادة تأهيل “الجيش السوري” كليةً مع الأسد. لكنها لا تتطابق مع رؤيته بالكامل، أيضاً. فروسيا كانت تستهدف فرض نفوذها المطلق على “الدولة السورية”، بصورة تسمح لها بالتحكم بقرارها السياسي، حتى لو كان ذلك على حساب الأسد ذاته. وهو ما يُعتقد أن الأسد نجح جزئياً، في تجنبه، أو ربما ما يزال يقاوم ذلك.
وهو ما تحدثت عنه دراسة “عمران” المشار إليها آنفاً، حينما قالت إن اتخاذ القرار العسكري والأمني داخل بُنية النظام، عملية غامضة ومُعقدة، نظراً لتركّز كل الصلاحيات في يد “رئيس الجمهورية”، إضافة إلى البُنية المركّبة من العصبية الطائفية والشكل الأمني، مقابل تدخل الحلفاء العسكري.
لا ينفي ما سبق، وجود نفوذ روسي – إيراني داخل “الجيش”، لكن ذلك النفوذ، على الصعيد الروسي تحديداً، ليس كافياً كي تفرض موسكو ما تريد، كُليةً، على الأسد. في حين يعمل الأخير، جاهداً، على حماية مكتسبات عائلته ضمن أقوى ركائز الحكم في سوريا، في منازلة باردة مع الروس، تبدو نتائجها حتى الآن، لصالح رأس النظام، والعائلة الحاكمة.
إياد الجعفري _ تلفزيون سوريا