في الأسبوع الأخير هدد ألكسندر لافرنتييف، مبعوث بوتين إلى سوريا، على الأقل مرتين بإيقاف المساعدات الأممية من معبر باب الهوى، حيث ينتهي التفويض الممنوح للأمم المتحدة في العاشر من الشهر المقبل. في الوقت نفسه، حذرت منظمات أممية عدة من الكارثة الإنسانية المقبلة، فيما لو أوقفت المساعدات عبر الحدود، إذ من المتوقع أن يعاني من المجاعة ما يزيد عن ثلاثة ملايين سوري مستفيدين منها هناك.
كانت موسكو من قبل قد استغلت مقعدها الدائم في مجلس الأمن لتقليص عدد معابر المساعدات والمستفيدين، واستخدمت موضوع إغاثة اللاجئين كورقة ابتزاز. أما الغرب الداعم لإبقاء المساعدات فلم يقابل التهديدات بالمثل، وأبسط ما يمكن فعله التلويح بإيصال المساعدات من خارج آليات الأمم المتحدة، وعدم الرضوخ تالياً لشروط موسكو.
فحوى التهديد الروسي: إما تسليم المساعدات كلها لسلطة الأسد، لتقوم بتوزيعها باعتبارها السلطة الشرعية، أو قطع المساعدات عبر باب الهوى. المسألة ليست في غيرة موسكو على تكريس شرعية الأسد، التي لن تُكرس بهذه المساعدات، بل هي في معرفة موسكو أن هذه السلطة ستستخدم سلاح المساعدات من أجل الابتزاز والتجويع. إنها بمطلبها تستأنف سياسة الأسد المعلنة، فعلى مداخل المناطق التي كان يحاصرها فيما مضى عمد جنوده وشبيحته إلى كتابة الهدف من الحصار بوضوح شديد: الجوع أو الركوع.
من المؤكد أن وقاحة شبيحة الأسد في ذلك الشعار غير مسبوقة، على الأقل لجهة إشهاره واستخدامه ضد محكوميه. إلا أن ابتزاز العالم برغيف الخبز هو اليوم واحد من الأسلحة الروسية في الحرب الأوكرانية، وتابعنا خلال الأسبوع الأخير تصريحات لقادة غربيين تطالب بإعادة الملاحة الطبيعية في البحر الأسود لتتمكن أوكرانيا من تصدير الحبوب، بينما تصر موسكو للسماح بذلك على إزالة الألغام البحرية كافة، ما قد يُفهم منه تسهيلاً لقواتها كي تهاجم الموانئ الأوكرانية.
خارج الحسابات العسكرية الميدانية، ما لا ينبغي نسيانه أن روسيا منذ العدوان على أوكرانيا تخضع لعقوبات تخرجها من النظام المالي الدولي، وتعيقها عن تصدير الحبوب أيضاً. بعبارة أخرى، تساهم العقوبات الغربية في أزمة الخبز الحالية على مستوى العالم، وتحديداً فيما يخص فقراءه الأكثر تأثراً. إن شحّ المعروض من الحبوب، قياساً إلى الطلب عليه، وارتفاع سعره سيؤديان إلى أزمة غذاء حقيقية تطال عشرات الملايين حول العالم، وفي هذه الظروف لا يُستبعد أن يتضاءل الاهتمام “الضعيف أصلاً” فيما لو قُطعت المساعدات عن ثلاثة ملايين سوري بواسطة معبر باب الهوى.
وعندما نتحدث عن تضاؤل الاهتمام، عن قلة حساسية حكومات الغرب أو انعدامها، ربما ينبغي الإشارة إلى أن قلة الحساسية في الظروف الحالية غير متجهة فقط إلى شعوبنا. في الغرب نفسه، تسارعت حزم العقوبات على روسيا، ما أدى إلى ارتفاع الأسعار، وهذا أضرّ فوراً بالشرائح الأفقر ضمن المجتمعات الغربية. ارتفاع الأسعار دخل كمادة في السجالات السياسية الداخلية، من دون وجود برامج فعلية لتخفيف آثارها على أفقر المتضررين، بمعنى أن الحكومات تعاقب بوتين جزئياً بلقمة عيش مواطنيها.
من المستحسن تصويب العبارة الأخيرة، فبوتين الذي تفاخر بتأثير العقوبات على الغرب أكثر من تضرر بلاده لن يتأثر بالعقوبات، لا هو ولا طبقة الأثرياء المحيطة به. التأثير سيكون بدءاً من فقراء الروس، وإذا استمرت العقوبات طويلاً فسيمتد تأثيرها إلى الطبقة الوسطى. الرهان على أن الشرائح الواسعة ستنقم على سياسات بوتين، ثم ستنتفض عليه لتغييرها من أجل رفع العقوبات، هو رهان جُرِّب بعزلة روسيا أثناء الحرب الباردة، وبالعقوبات عليها بعد احتلال القرم، وفي الحالتين لم تظهر بوادر الانتفاضة الموعودة.
أما الظن بأن بوتين سيرأف بحال مواطنيه، ويتراجع عن سياساته من أجل رفع العقوبات الغربية، فلا يبتعد كثيراً عن الظن بأن بشار الأسد سيقدّم “تنازلات” لإصلاح نظامه بهدف رفع العقوبات. على مقربة في المكان والزمان، شهد العالم آثار العقوبات على العراقيين أيام حكم صدام حسين، وكيف كانت القصور الرئاسية المبالغ في فخامتها تُبنى في حين يجوع عموم العراقيين. وشهد العالم بعدها إقرار برنامج “النفط مقابل الغذاء” لتفادي الكارثة الإنسانية، إلا أن فضائح الفساد المرتبطة بذلك البرنامج كانت تتقدم بأشواط على فوائده.
اليوم، في اللوحة العامة، تهدد موسكو بوقف المساعدات الغذائية عن ثلاثة ملايين سوري خارج سيطرة الأسد، والنسبة العظمى من الواقعين تحت سيطرة الأخير يعانون أيضاً من خطر المجاعة ومن وطأة العقوبات الغربية. تصدير الحبوب من روسيا دونه حاجز العقوبات المالية الغربية، وتصدير الحبوب الأوكرانية دونه إغلاق الموانئ بسبب الهجوم الروسي.
في نموذج عن التعاطي الغربي، وصف أمس جزيب بوريل “مسؤول العلاقات الخارجية في الاتحاد الأوروبي” عرقلة روسيا تصدير الحبوب الأوكرانية بأنها جريمة حرب حقيقية، ويجب أن تُحاسب عليها. منوّهاً بأن المرء لا يستطيع أن يتخيل ملايين من أطنان القمح عالقة في أوكرانيا، بينما يعاني الناس في باقي أنحاء العالم من الجوع. قد نسمع كلاماً مشابهاً في جلسة مجلس الأمن للبت في مصير المساعدات إلى سوريا، كلاماً محقاً يلقي بالمسؤولية على موسكو، ولا يقدّم رغيفاً لضحايا السياسة الروسية.
إذا أخذنا اللوحة الكلية، فإن استخدام التجويع كسلاح، أو كبديل عن الحرب، هو اليوم أوضح وأكثر تعميماً من أي وقت مضى، وكأن شعار “الجوع أو الركوع” بات قدوة للعالم. لا تُستثنى من ذلك العقوبات الغربية التي بلا شك تضر بإمكانيات أنظمة على التوسع أو على الحرب، لكن ضررها يتعدى ذلك الهدف إلى إفقار وتجويع ملايين من الفئات الأكثر ضعفاً وتهميشاً.
ولئن كان سلوك الأنظمة القمعية معروفاً ومتوقعاً، لجهة عدم الامتثال جراء الضغوط الاقتصادية فهذا يرتّب على الحكومات الغربية مسؤوليات أخلاقية تجاه ضحايا العقوبات. إن هذه السياسات تستحق الإدانة من موقع الانحياز إلى أفضل ما في قيَم الغرب، إذ من المفهوم أن يتشابه الحكام الأسديون هنا أو هناك، وألا يكترثوا بمصائر شعوبهم، بقدر ما هو مطلوب ألا تكون سياسة الغرب “على نحو غير مباشر أو غير متعمد” شريكة لأولئك الطغاة في سحق الشعوب بدءاً من لقمة العيش.
عمر قدور _ المدن