سيريا برس_ أنباء سوريا
في هذه اللحظات يشهد العالم ما يشبه الإجماع في الكونغرس الأمريكي على تعطيل فيتو الرئيس الأمريكي (الباقي في ولايته القانونية ثلاثة أسابيع) على قانون موازنة الدفاع الأميركية التي أرفق بها مشروع يتعلق بالرفاه العام ويقضي بتوزيع ٢٠٠٠ دولار لكل عائلة أمريكية لدعمها في تحمل أعباء جائحة كورونا ، وهذا بخلاف قرار الرئيس ترامب لمبلغ ٦٠٠ دولار فقط ، وليصوت أغلبية الأعضاء الجمهوريون إلى جانب أعضاء المجلس من النواب الديمقراطيين ، وكأنهم يشيرون إلى سقوط ترامب سياسيا قبل انتهاء ولايته الرئاسية مع حصول قرار مجلس النواب على أغلبية الثلثين ( ٣٢٢ عضوا ) بما فيهم أغلبية الأعضاء الجمهوريين . يحصل هذا بعد ان بلغ هذا اليوم عدد نزلاء المستشفيات الأميركية في حالة إسعافية بسبب الجائحة رقما قياسيا وهو ١٢٠ ألف نزيل وتجاوز عدد الذين فقدوا حياتهم لهذا السبب في الشهر الأخير ٦٦ ألفا ، أي ما يزيد عن الألفين بالمتوسط يوميا ، وذلك من بين ما يزيد عن مليون وثلاثمائة وخمس وثلاثين ألفا العدد الإجمالي لضحايا كورونا حتى الآن في الولايات المتحدة وحدها .
مما سبق ، يجدر إبداء الملاحظات التالية :
١ _ تهنئة الشعب الأميركي ، شعب ما يسمى اليوم ب” الرأسمالية الوحشية ” الأميركية، على انه دون تمييز بين عوائله ، في هذه المحنة على الأقل ، يتمتع ، على قدم المساواة، برعاية ” دولته ” ، دون تمييز عنصري أو طبقي، وهذه المساواة ليست بحكم القانون أو بفضل الأخلاق الإنسانية ، بالضرورة ، بقدر ما هي ب “فضل” فيروس كوفيد ١٩ على البشرية !
٢ _ يقابل هذه الفرحة الأميركية المعممة، في بلداننا المنكوبة، سورية بالأخص ، و ما يسمى بالعالم العربي ، على العموم شعور لايوصف بالألم والمأساة والنكبة العظمى غير المسبوقة التي تغرق بها شعوبنا العربية منذ سنوات وعقود من ” الحكم الوطني !!!” ” ( هذا إذا تجاوزنا قرونا من العبودية والامتهان تحت حكم محتليها الهمج الخارجيين والمحليين ) ، باعتبار هذه الشعوب ، في نظر حكوماتها و ” آلهتها الأرضيين ” ، القديمين والمحدثين ، ليست أكثر من حشرات دنسة لا تستحق غير الاستمتاع والتلذذ بقتلها وامتهانها بأبشع الوسائل ، حتى وهي قابعة بصمت وخنوع تحت السقوف المتواضعة التي قضت أعمارها لإشادتها ، ولا تستحق إلا التمتع بنهبها وتجويعها وتعريضها إلى الأوبئة وغوائل الطبيعة وتهجيرها وإبادة جميع عقولها ونشطائها المبدعين بإفنائهم وراء القضبان وفي غياهب الزنازين، أو في أحسن الأحوال ، التمنن عليهم بإطلاقهم إلى العراء حيث تحكمهم غوائل الطبيعة الغشماء من البرد والسيول والأوحال أو الحر الشديد و الجوع والمرض والعطش والافتقار إلى ابسط شروط الحياة، وما لايحصى من الحصارات ( والعنها ، حرمانهم من العودة إلى بيوتهم المتواضعة التي طردوا منها وان كانت مخيمات لجوئهم لاتبعد عنها اكثر من كيلومترات وتراها بالعين المجردة)، أو تركهم إلى أحلامهم بتمني خوض تجربة النبي يونس ، انتظارا للإنقاذ الإلهي الموعود ، باللجوء إلى جوف الحيتان، ” الأكثر أمانا ” من القلوب المفحمة بالسواد والحقد لطارديهم من أراضيهم ومآويهم الموروثة عن أجدادهم. هذا ما أصبح عليه حال شعوبنا المنكوبة التي لم تعد تسمع حتى كلمة العزاء والتعاطف وهي التي لايمر عليها يوم إلا وتفاجأ بأشنع التهديدات، وليس اقلها الحرق المتعمد لخيام اللجوء الذي يراد لها أن يكون” إلى الأبد ”، تكرارا لنكبة اللجوء الفلسطينية قبل ثلاثة أرباع القرن التي حصلت بقوة العالم المتواطيء مع دعاة الصهيونية العنصرية وإذنابهم المحليين، ما دامت هذه الشعوب ارتضت، مكرهة أن تكون من محكومي سلطات الأمر الواقع والحيتان المحتلين الأكثر همجية و شراهة وحقدا على البشر!
٣ _ بعد هذه المقارنة في تعامل السلطة مع الشعب مابين “وحشيتين” : وحشية الرأسمالية الاحتكارية المعاصرة ، ووحشية همجية ما قبل التاريخ الإنساني ( التي ابتليت بها شعوب بعض الدويلات العربية المعاصرة ) ننتقل الى التحليل الاقتصاد سياسي للنظام الاقتصادي و النقدي العالمي، الذي يعتبر النظام الأميركي ابلغ تجسيد له، وللنظام ” العربي! ” الأكثر تبعية له والتصاقا به، كواحدة من ” قرادات” ذلك النظام العالمي الوحشي .(“قرادات”جمع “قرادة” وهي الحشرة المقرفة التي تلتصق بقوة بجسد الأبقار لتمتص دماءها ، مع فارق إنها في مثالنا الراهن ليست هي التي تعيش على امتصاص دم الجسد الذي تلتصق به، بل هي تمد الجسد الذي تلتصق به بدماء الحياة التي يحتاجها، متفوقة بذلك بصورة استثنائية على جميع قرادات الأرض الأخرى المماثلة !)
والسؤال الأول والمركزي هنا : من أي خزانة مفتوحة لهم بلا حدود يأتي المشرعون والحكومة ووزارة الخزانة والاحتياطي الفدرالي الأمريكيون بالأموال لتغطية ولتمويل هذه “المكرمة” التي يوزعونها على الشعب الأميركي المحظوظ ، (دون حسد ، مع التمني بإمكانية تعميم هذه “المكرمة” على البشرية بالتساوي ، مع تمتع هذه المنحة بقيمتها الحقيقية المتمثلة بكمية السلع والخدمات التي تشتريها ، دون خشية من ان يطفئ التضخم هذه القوة الشرائية فور توزيعها ، لو تقررت، أو حتى قبل توزيعها ، كما يحصل في جمهوريات الموز العربية في العادة المألوفة !) .
الجواب على هذا السؤال يتمثل في جوهرة النظام الاقتصادي النقدي الوحشي العالمي. وهي ” الدولار الأميركي“، الذي أقيمت من اجل دعم اكتسابه صفة النقد العالمي، إضافة إلى صفته كعملة وطنية أميركية، كبديل للذهب والقيم الأخرى، مؤسسات ثلاث ، عالمية في مظهرها ، أميركية في جوهرها، وهي : منظمة التجارة العالمية والبنك الدولي وصندوق النقد العالمي .
لقد فرض هذه “الجوهرة ” على هذا النظام الاقتصادي النقدي العالمي لما بعد الحرب العالمية الثانية المندوب الأميركي ( وايت ) في مؤتمر بريتون وودز الذي عقده عند انتهاء الحرب المنتصرون فيها ، ممثلا للمنتصر الأوحد اقتصاديا وهو الولايات المتحدة الأميركية، بينما كان العالم كله ، وبالأخص الحلفاء الآخرون المنتصرون أيضا عسكريا ( بما فيهم الاتحاد السوفييتي بقيادة زعيمه ستالين _المنتصر الأكبر عسكريا )هم الخاسرون والمحطمون اقتصاديا وعمرانا بشريا ! وقد فرض وايت مشروعه الأمريكي الوطني، بإسقاط المشروع ، العالمي الرأسمالي، الذي تقدم به للمؤتمر صاحب النظرية الاقتصادية للرأسمالية المعاصرة .المندوب البريطاني جون مينرد كينز والذي كان ينص على إنشاء نقد عالمي يصدره بنك مركزي عالمي تساهم به مختلف الدول ويجري إدارته وتداوله عالميا بالمشاركة، وليس من قبل دولة واحدة على نمط الركائز الثلاث للنظام الاقتصادي العالمي المذكورة سابقا. أما لماذا سقط مشروع كينز في المؤتمر واقر مشروع وايت فالأمر راجع إلى أن من أهم نتائج تلك الحرب كانت حيازة الولايات المتحدة وحدها على ٩٠% من ذهب العالم والدمار الشامل للطاقات الإنتاجية والاقتصادات في الدول الأخرى واحتياجها للولايات المتحدة في كل شيء، من الحاجات الغذائية إلى المصانع والآلات الزراعية و إلى السلاح !
وكان العنوان الأبرز الذي فرضه على مؤتمر بريتون وودذ المنتصر الوحيد اقتصاديا ( الولايات المتحدة الأميركية ) هو النظام النقدي العالمي الذي يتولى فيه الدولار الأمريكي ، ( بناء على وعد ” قاطع ” من الولايات المتحدة بالتزامها إلى الأبد بتبديل الدولار بالذهب عند الطلب لكل راغب في العالم متى شاء وبسعر صرف ثابت وهو ما كان سائدا عند ذاك ٣٥ دولارا لاونسة الذهب، وهو الوعد الذي تنصلت منه وانسحبت كالشعرة من العجين في آب عام ١٩٧١ بقرارين اسميا ” صدمة نيكسون ” أصدرهما الرئيس الأميركي نيكسون بقطع العلاقة بين الدولار والذهب وإطلاق العنان للسوق بتحديد السعر بينهما حتى وصل آواخر السبعينات إلى ٨٠٠ دولار للاونسة، ومنذ قراري نيكسون يمكن وصف الولايات المتحدة بأنها اكبر دولة متطفلة بالإكراه على البشرية عرفها التاريخ ، بعد أن أصبحت تشفط من بحر ثروات العالم غير المحدودة كل ما تحتاج ووقتما تقرر بنفسها ودون اذن من أصحاب الثروة وان كانوا يتضورون من الجوع وهم يقرضونها ” قرضا حسنا !!!” لا عودة له كل ما تطلب ، مكرها أخاك لا بطل ) ، وأصبح الدولار يقوم عالميا بأداء وظائف النقد الرئيسة : معيار قيمة ووسيلة ادخار و اكتناز واحتياط ووسيلة تبادل وتداول وتوزيع ، وهذا إضافة لكونه عملة وطنية اميريكية يصدرها الاحتياطي الفدرالي الأميركي الذي يقوم بدور البنك المركزي الوطني _ العالمي ، ولكنه بخلاف جميع البنوك المركزية في العالم ، هو شركة خاصة والحكومة الأميركية هي زبونه ومدينه الوحيد، التي يصدر الدولار ويطبعه ويقرضه لها، وفق الطلب ، لتستخدمه كنقد أمريكي _ عالمي ، ولتتحكم بوساطته بالعالم ، اقتصاديا وسياسيا وعسكريا وحتى قيميا .
٤ _ والسؤال الهام الآخر هو: كيف وبأية قوة يتاح للدولار الأميركي القيام بهذه الوظائف على النطاقين الأميركي والعالمي ، بعد ان انقلبت الولايات المتحدة ، منذ أكثر من نصف قرن، إلا ما ندر من السنوات كسنوات رئاسة كلينتون (الذي ترك الرئاسة مع فائض في الميزانية الحكومية فقط)، من دولة فوائض الى دولة اكبر العجوزات ؟ إن القوة الشرائية للدولار لم تعد تعتمد على القيمة المتضمنة فيه، ولا على رصيدها الذهبي كما ولا على احتياطياتها من إنتاج وتصدير وفوائض وطنية، أو من نقود دول أخرى ذات قيمة وقوة شرائية، وهذا ماتكرس منذ حرب فيتنام أواخر الستينات، والولايات المتحدة تستر وتغطي عجوزاتها من امتصاص فوائض الدول والشركات والأفراد الآخرين المتخذة أشكالا دولارية أو من توظيف دول اخرى لفوائضها كاستثمارات في الداخل الاميريكي مساهمة بذلك في تغطية عجوزات ميزان المدفوعات والميزانية الأميركية، وقد أصبحت الولايات المتحدة بذلك اكبر ” قرادة !” عرفها التاريخ العالمي، وان عجوزاتها ودينها العام يتصاعدان بشكل سريع في السنوات الأخيرة بل يصبحان بصفتهما تلك مصدر تقبل وطلب متصاعد على الدولار الأميركي كنقد عالمي ، بقدر ما تزداد الدول الفاشلة في العالم المتحولة من دول مكتفية، بل ومصدرة وذات فوائض إلى دول وشعوب تتجرجر على بطونها متسولة من ناهبيها النفايات والفتات. وتصلح الدويلات العربية ان تعرض كأبلغ مثال على ذلك ! فحتى يوم كانت تتأهب للتحرر من الجيوش الاستعمارية كان لسورية ومصر ، مثلا ، فوائض وديون بل وقروض كبيرة على مستعمريها الإمبراطوريين وهم في سبيلهم إلى إنهاء استعمارهم لها، مكرهين أمام نضال شعوبها. بينما وبعد عقود من الاستقلال وحتى مع تشكل فوائض لديها ولدى كبار أرباب القمع والنهب والفساد فيها، طبعا من وراء حرمان شعوبها وتنميتها من ضروراتها الأساس نراها مع شقيقاتها الأخريات، تقف عارية أمام العالم، وقد دمرت كل ما لديها بأيديها، وأصبحت خاوية على عروشها وخزاناتها فارغة وعملاتها لا تساوي قيمة الورق الذي تطبع عليه وشعوبها، ماعدا ناهبيها وقامعيها، تموت من المرض والبؤس والجوع، وترفع أيديها مع ذلك، ضارعة لمن يمدها، بحجة إعادة أعمار ما دمرته وهي تتفرج بحبور مثل نيرون، على نيرانه وعلى زفرات أصحابه المنتهكة حقوقهم، تصعد إلى أذن الجوزاء، هذا ومتسلطو الأمر الواقع لا يستحون من بيع أملاك دولتهم وشعبهم متسولين لأبسط الضروريات القابلة للنهب طبعا، لإشباع من لم ولن يشبع ، مثل جهنم !!!
٥ _ ونعود الى الولايات المتحدة! لقد بلغ الدين العام الأميركي ما يزيد عن ١٨ تريليون دولار ( التريليون يساوي ألف مليار ) وذلك قبل اربع سنوات، مع بداية رئاسة دونالد ترامب، وهو ما يعادل الناتج المحلي الأميركي، أي ان مصدر جزء كبير من رفاه الشعب وقوة الدولة في أمريكا هو مديونيتها، وهذا المبلغ هو ما تراكم طوال التاريخ الأميركي السابق لرئاسة ترامب، ليقفز هذا الدين العام، وخلال سنوات حكم ترامب الأربع فقط، بنسبة الثلث إلى ٢٤ تريليون دولار، ويحصل هذا بالتوازي مع وفي ظل شعار ترامب “لنجعل أمريكا عظيمة مرة ثانية “! والذي قام ترامب ، بحجته، بفرض الضرائب على المستوردات الأميركية من العالم الخارجي، وبالأخص من الصين، وتراجعت أمريكا في عهده عن نظام التجارة الحرة ، الذي عملت عليه الولايات المتحدة نفسها مع منظمة التجارة العالمية التي كانت اكبر مؤسسيها بعد الحرب ، لتنقلب الى الحرب التجارية ضد العالم والتي يصر المفكر ورجل الأعمال العربي المعروف د. طلال أبو غزالة في السنتين الأخيرتين على توقع تحولها إلى حرب عالمية ساخنة أو على الأقل بين الولايات المتحدة والصين كطريقة وحيدة، براية، لتسوية الصراع الاقتصادي بينهما على مركز الدولة القائدة للعالم في القرن الواحد والعشرين ( ولست ممن يشاركون الدكتور أبو غزالة بان الحرب الساخنة هي الوسيلة الوحيدة للجلوس على الطاولة والاتفاق على تقاسم قيادة العالم ، لان طبيعة النظام العالمي الآن تفرض العمل بجميع الوسائل الأخرى لتقرير هذه المشكلة، كبديل للحرب التي أصبحت مستحيلة على الكبار ومقتصرة حصرا على الجهال الحمقى، أمثال المتنفذين”العرب”!
إذن أن عظمة ورفاه وبذخ أميركا دولة وشعبا، ومشروعات توسعية لا ثمرة لها في الفضاء وسباق التسلح وتكاليف هيمنتها على العالم الخارجي، مع التقدم العلمي التكنولوجي والعسكرة المفرطة، إن جزءا كبيرا من هذه التكاليف تدين الولايات المتحدة بها إلى العالم كله، وبالأخص أفقر فقرائه، وذلك بقوة ” قانون الشفط العالمي” (الشكل القسري والقهري المصطنع ل”قانون الأواني المستطرقة” ) ولا يغير من هذه الحقيقة التصريحات الفجة والمناقضة للحقيقة للرئيس الأميركي ترامب عن التكاليف الباهظة ( التريليونية ) التي تكلفتها الولايات المتحدة على حروبها الخارجية وبالأخص في الشرق الأوسط، ( خدمة وحماية لهذه الأنظمة والشعوب !!!)، وهي ليست في جوهر الأمر إلا مقايضة ضيزى بين الدولار الورقي الذي لا تزيد قيمته على الدولة والاقتصاد والمواطن في الولايات المتحدة عن تكلفة الورق الذي يطبع عليه ( ٤٥ سنت لورقة المائة دولار ) ، ولكنه مع ذلك تستخدمه الولايات المتحدة في تغطية كل ما تتكلفه حروبها الخارجية والحصول على كل السلع والخدمات التي تستوردها من الدول والشعوب الأخرى كمقابل حقيقي( منتجات عمل جسدي وذهني وثروات طبيعية ) من سلع أو خدمات تنتجها وتقدمها لها الدول والشعوب الأخرى مقابل دولاراتها الورقية، فقط لان هذه الدولارات الورقية تلبي طلبا عالميا اضطراريا لها بصفتها نقدا عالميأ .وبكلمة ، يمكن القول إن المشفوطات الأميركية من الأموال والثروات العربية بفعل الحروب والصراعات التي حلت بمنطقة” الشرق الأوسط وشمال إفريقيا” (وفق تسمية الأمم المتحدة ومنظماتها ) خلال ٤٠ عاما، منذ حرب الخليج الأولى بين العراق وإيران وحتى الكوارث المخططة للربيع العربي، المستحق والمشروع جدا في الأصل، المستمرة في التصاعد في العديد من الدول العربية منذ عشر سنوات ، والهادفة منع شعوبها من الظفر بما تتطلع إليه من العيش في ظل أنظمة وطنية متحررة من الاستبداد والفساد قادرة على الارتقاء بها إلى المشاركة الفعالة في إنتاج والاستمتاع بثمار التقدم الحضاري البشري، إن هذه المشفوطات لا تقل عن عشرة تريليونات دولار، وتعادل هذه المشفوطات الأميركية ضعف ما يدعي الرئيس الأميركي ترامب كذبا صراحا، إن الولايات المتحدة تكلفته على المنطقة دون أن تجني منه أية مكاسب مقابلة !!!
وسأطرح هنا معلومة ربما تساعد في إيضاح الفرق بين نظرتي ونظرة الرئيس ترامب، الذي يعز عليه أن تنقضي رئاسته دون حرب عالمية ثالثة، والذي في اليوم الأول لجلوسه في مكتبه البيضاوي، قبل أربع سنوات ، دعتني محطة تلفزيون الشارقة إلى مناقشة هذا الحدث على الهواء مباشرة، وقد بدأته بالحديث عن القرار رقم واحد الذي ظهر الرئيس ترامب على شاشات العالم وهو يعرض بعنجهيته المعروفة توقيعه عليه، وهو جالس وسط طاقمه العائلي والتشبيحي ( معظم من ظهروا بالصورة من الأعوان سرعان ما استقالوا أو أقيلوا)، مكررا صورة حكام العالم المتخلف، وكان نص القرار ” المفخرة ” الذي دشن به عهده وشعاره ” لنجعل أمريكا عظيمة مرة ثانية ”، هو منع دخول مواطني سبع دول، ست منها إسلامية، لأراضي الولايات المتحدة “الشريفة ”، وقد شمل هذا الحظر مقيمين بصورة شرعية بموجب الكرت الأخضر وأهلهم وبيوتهم في أمريكا، وصدف وجودهم في الخارج حين توقيع الرئيس الجديد لقراره القراقوشي وهم في المطارات العالمية بانتظار الصعود إلى طائراتهم، أو ربما كانوا في الأجواء ومنعوا عند وصولهم الأراضي الأميركية من الدخول الى بيوتهم الشرعية، وقلت : كنا نظن أنفسنا مبتلين لوحدنا بحكام يتخذون اخطر القرارات على البشر بطريقة ارتجالية وبدون دراسة مسبقة وبخلاف رأي أصحاب العلم والخبرة وإذ بنا نعزي أنفسنا اليوم بان رئيس اكبر دولة في العالم يتخذ قراراته بنفس الطريقة، وبالتالي يجب أن نتوقع أن العالم سيعيش خلال سنوات حكمه الأربع مع أكثر التوقعات سوداوية. وهذا ما كان مع فارق مهم وهو أن قاضيا أمريكيا فردا في إحدى الولايات الأمريكية عطل على الفور تنفيذ القرار الرئاسي الأميركي بسبب مخالفته للدستور الأميركي! وهذا ماكان لأحد في دويلاتنا، حتى ولا للشعب كله الذي يبدأ قضاتنا بقراءة أحكامهم الهميونية باسمه، أن يوقفوا القرار الرئاسي، بل حتى قرارات اخفض ممثلي السلطات الديكتاتورية القمعية، ولو خالفت بكل صفاقة الدستور، غير ساري المفعول عمليا!
أما المعلومة التي تكفي لوحدها لقلب ادعاءات ترامب فهي السؤال عن الطريقة التي قام فيها المحتل الأميركي للعراق عام ٢٠٠٣ بطبع كميات غير معروفة من الدينار العراقي الجديد خارج أي رقابة من أي سلطة كانت، غير سلطة الاحتلال الأميركي التي طبعتها، وما زالت غير معروفة الكميات والأماكن التي تخزن فيها في أنحاء العالم، والتي تقوم المافيات العالمية بالبحث عنها وشرائها وتجميعها، لغاية في نفس يعقوب، مادام لها قيمة مستندة إلى إمكانية استخدامها لشراء الإنتاج النفطي الجاري والاحتياطي المحفوظ في باطن الأرض العراقية لأكبر مخزون من أي سلعة في السوق العالمية المعاصرة حتى الآن.
ترى من يستطيع تقديم المعلومات الصحيحة عن هذه المسالة الخطيرة، والى أي وقت ستستطيع الجهة التي طبعت الدينار العراقي الجديد ( دولة الاحتلال وشركاها ) أن تستخدم ما طبعته من تريليونات تريليونات الدينارات العراقية في شراء كل ما تحتاج من سلع وخدمات مجانا دون أية تكلفة من قبلها.
٦ _ فهل تعود الولايات المتحدة ” دولة عظمى مرة ثانية” ولكن بمضمون جديد نوعيا، كأشد ما يحتاجه مستقبل البشرية ؟
بالنسبة للعالم، وانطلاقا من الواقع الراهن، نقول : هذا مستحيل في المستقبل المنظور وقبل أن يعود الدولار الأميركي مثل أي نقد وطني آخر، عملة وطنية مع دور عالمي مواز لوزن الاقتصاد الأميركي في الاقتصاد العالمي، مثل عملة أي بلد آخر، وتعود الولايات المتحدة عن دورها الحالي كأكبر دولة طفيلية ” قرادة !” إلى دولة طبيعية شريكة في الرفاه العالمي، إنتاجا واستهلاكا وهذا موضوع يحتاج إلى الكثير من الأبحاث والدراسات، إضافة إلى الترسانة الهائلة المتاحة منها حاليا ولكن على أساس منطلقات جديدة وفكر جديد.
أما بالنسبة للشعب الأميركي، فان اقل ما يقال الآن أن ترامب يخرج من البيت الأبيض، بخلاف توقع د.طلال أبو غزالة، غير المتهم بالتاك يد ، بانحيازه لترامب وللترامبية التعيسة الموؤدة، وإنما تأثرا بما تطفح به دراسات العديد من مراكز الأبحاث الأميركية، التي يعادل بعضها حجما، نصف دولة صغيرة متقدمة. واني لعلى قناعة بان الانقسام العمودي للمجتمع الأميركي إلى ما يمكن وصفه بأقلية وأغلبية، قد تكرس وأصبح واقعا، دون تجاهل حجم وقوة ٧٤ مليون ناخب أمريكي وقفوا إلى جانب ترامب ( ولا يهمه أن يكون عدد من انتخبوا بديلهم يزيد عن ٨٠ مليونا ) وما يزالون مصرين معه على الاستعصاء بالبيت الأبيض، ولو تطلب ذلك إعلان حالة الطوارئ أو إشعال الحرب الأهلية الأمريكية أو تفجير حرب مع الصين يظنون إنهم يمتلكون زمام تفصيلها وإدارتها وإبقائها في الحدود التي تناسب ترامب والترامبيين، أو القيام بانقلاب عسكري ( مما يتوجب توقعه بعد استقالة وزير الدفاع اسبر قبل إقالته لأنه لم يوافق رئيسه على رفض نتائج الانتخابات ، ليلحقه قبل ثلاثة أيام بطرد ٣٠ مسؤولا في وزارة الدفاع والاتيان بمن يحل محلهم من شبيحة ترامب المؤمنين بوجوب قيامه بانقلاب عسكري والاستعصاء بالبيت الأبيض، هذا وهو ينتظر نتيجة تصويت الكونغرس الأميركي في ٦/١/٢٠٢١ بالمصادقة على انتخاب غريمه رئيسا جديدا للولايات المتحدة)، وربما على عكس القاعدة القائلة أن الشعوب المحتلة تتطبع بطباع محتليها، سيرى العالم قاعدة جديدة تقول : إن الغالب المحتل يتطبع بطباع من يحتلهم فنستطيع الادعاء ولو لمرة واحدة ومؤسفة ، بان العرب استطاعوا تصدير مبدأ الانقلاب العسكري والاستعصاء بالسلطة إلى الولايات المتحدة كوسيلة للانقضاض على الديمقراطية، رغم عدم تعليقنا أي أمل خير على الديمقراطية الأمريكية، بشكلها الحالي وحتى على الفائزين فيها.
إن هذا الانقسام الأميركي العمودي مازال في بدايته، إلا انه يظهر بهذا الوضوح للمرة الأولى بعد الحرب الأهلية الأمريكية، ويظهر بطريقة غير قابلة للردة بل محكومة بتعمق هذا التوجه والانتقال من دولة عظمى تسخر شعبها والعالم قاطبة ومقدراتهم لخدمة مصالح شركاتها الاحتكارية الأخطبوطية والتوسع في الإنفاق على تكريس تفردها وهيمنتها العالمية القهارة، التي فقدت حتى مؤيداتها الاقتصادية الكمية، وأصبحت معتمدة فقط، لفرض هيمنها وأداتها الدولارية، على ميزانية لوزارة الحرب تعادل نصف الأنفاق العسكري العالمي ( ٨٠٠ مليار دولار )، وتشكل مصدر قلق وحروب واستنزاف طاقات وليست مصدر رفاهية وسلام في العالم، وبين دولة طبيعية تعمل بروح الشراكة والتعاون والريادة لقيام عالم يوفر جهوده ومقدراته الهائلة للرفاه الإنساني، والأميركي بالأساس، هذه المقدرات التي باتت تعاني من الاقتراب من النضوب، مما يحرم البشرية من التنمية المستدامة ويهددها بالافتقار إلى المناخ والبيئة الصالحة للحياة، وقد سحب ترامب الولايات المتحدة من اتفاقية المناخ وكل هذا ليحرم البشرية من الاستفادة من منجزات الثورة العلمية التكنولوجية الهائلة الراهنة والمقبلة، إننا على علم بأن ما يتطلبه بدء هذا التحول في الولايات المتحدة لم يتوفر ولو في أدنى درجة حتى الآن ؟
إن أمريكا في الوضع الراهن ، والدول التي تحرضها للسير لاتباع نهجها وتجرها إلى سباقات الهيمنة والتسلح والحروب، تمثل الثقب الأسود الهائل الذي يشفط ويهدر معظم ثروات ومقدرات الكرة الأرضية وثمرات عقول ونتاجات زنود شعوبها بشراهة ولاعقلانية هائلة، مستخدمة في عملية ابتلاع ثمرات جهود الشعوب الأخرى، التي تعاني الاستنزاف والإفقار المتزايد، الدولار الورقي الأميركي، ومستخدمة كذلك الحروب والمؤامرات، والتمكين للمرتزقة وحكام الأمر الواقع المحليين المعادين لحقوق شعوبهم، ودون أن تنعكس حصيلة ذلك الشفط الهائل ايجابيا حتى على مستوى معيشة الشعب الأميركي نفسه، الذي يعاني في أغلبيته ما يعانيه البشر في كثير من الدول، بل ويعيش عند مستوى اقل بدرجات ملموسة مما هو ممكن له، ومما هو متاح لشعوب العديد من الدول المتقدمة، تلك التي تنهج على العكس سياسات الاهتمام بمعيشة سكانها ومستقبلهم وتميل إلى التشارك مع بقية العالم، في السعي لبناء عالم يسوده التقدم والسلام .
ولقد كان لجائحة كورونا ” الفضل ” في الكشف عن حجم الأنانية البالغ في عالم الأقوياء المعاصرين، وبالأخص الولايات المتحدة إلى درجة تنفير حتى شريكاتها الأوربيات، إذ طغى قولها “أنا أو ليكن من بعدي الطوفان”.
٧ _ ولكن وكما يقول الفكر التقدمي بدءا من فكر ابن خلدون الذي ينطلق من مسؤولية العوامل الداخلية أولا عن التخلف والعبودية، والذي انطلق منه المفكر الجزائري مالك بن نبي في قوله : لا يمكن للاستعمار أن يحصل لولا وجود شعوب قابلة للاستعمار ! وحتى فكر كارل ماركس الذي يعتمد التجريد العلمي للكشف عن أسباب كل شيء في البنية الداخلية للظاهرة وعن تطورها من خلال العلاقة الجدلية لتناقضية بين عناصرها ( قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج الاجتماعية ) .
كذلك نقول: لا يمكن لعالم التقدم والسلام أن يقوم مادامت الشعوب قابلة للتواطؤ مع مستبديها المحليين لإعانتهم على الإمعان في إذلالها وشفط مقدراتها وثمرات عملهم، ليقايضوا ما شفطوه بالورق الأخضر الذي ما يلبثوا أن يودعوه مباشرة بعيدا عن عيون و ايدي شعوبهم ، هناك في الملاذات، غير الآمنة باي شكل عند مصدريه، بدلا من ضخه في عروق الاقتصاد المحلي، منبعه ومصدرة الأول، لإشباع حاجات الشعب ومتطلباته ، مغرقين شعوبهم ، من اجل النجاة (بأجسادهم النتنة وأرواحهم النجسة) في مزيد من الإملاق والصراعات الفتاكة والتخلف والانحطاط والاندثار !
فأين تكمن ” المؤامرة ”، ومن أين يجب أن يبدأ الإصلاح لرتق “الثقوب السوداء لثروات الشعوب ” ؟
د.عارف دليلة_ الرافد