syria press_ أنباء سوريا
تبدو الحاجة إلى التنوير في المجتمعات الإسلامية ضرورة مهمة، وتأتي أهميته نتيجة عدم القدرة على تجديد البنية الاجتماعية في مستوياتها الفكرية والسياسية، وانعكاس ذلك على التطور الانساني عموماً، وتحديداً في النظرة للمرأة، إذ تحدد هذه النظرة، مستوى الفاعلية الاجتماعية، ومقدار الهدر الانساني للطاقة البشرية، وأثره في تطور المجتمعات الإسلامية. ولهذا لا يمكن وضع تصور حقيقي، لأسباب تخلف البنية المجتمعية العربية الإسلامية، بدون تسليط أقصى ما يمكن من إضاءة فكرية، تأخذ جوهرها من البنية ذاتها، عبر تغيراتها المتعددة في أزمنة مختلفة.
معنى التنوير
لا شكّ أن مصطلح التنوير في الفكر الغربي الأوربيEnlightenment يشير إلى الحركة الفلسفية، التي بدأت في أوربا في القرن الثامن عشر الميلادي، وهو يشير إلى المذهب العقلاني، أي الاستخدام العام لعقل الإنسان في جميع القضايا، وتبنّي شعار “لا سلطان على العقل إلا للعقل”. لكن التنوير في الفكر العربي الحديث، “يأخذ معناه من معنى الوعي بالحاجة إلى التقدم وإلى الإصلاح والتجديد واليقظة والنهضة”[1].
هذا المعطى الفكري غير كافٍ لفهم التنوير في حركته الطبيعية، فلا يمكن تغيير بنية الخطاب الفكري الاسلامي بعملية صدمه بخطاب فكري غربي فحسب، بل يبدأ التغيير من تحديد البنية الاجتماعية السياسية، التي تلعب الدور الرئيس في تفعيل خطاب التنوير أو عرقلته.
وحين نتحدث عن التنوير الإسلامي وعلاقة ذلك بوضع المرأة، فنحن لا نتحدث عن تنوير شكلي، يتعلق بمظهر المرأة وما ترتديه أو تضعه على رأسها، بل نتحدث عن حقوقها كإنسان وكيف ساوى الله بآياته بين الجنسين بآيات صريحة واضحة. أي بمعنى آخر، وتحديداً بما يخصّ حقوق المرأة في المجتمع الإسلامي، فهذه الحقوق لا يمكن تحديدها وفقاً للنص الديني الثابت، لأن الله وضع ناموس الحركة النسبية في الأشياء والحيوات، فكيف يمكن تثبيت النص، وهذا التثبيت مخالفٌ لقوانين إلهية تجد نفسها في الحركة الدائبة.
إن فهم التنوير بالمعنى العميق لدلالته، يعني فهم حدود الإعاقة الاجتماعية والاقتصادية وقبلهما الإعاقة السياسية والفكرية، وهنا يتمّ تسليط الضوء على التمييز الحقوقي الانساني بين الجنسين، هذا التمييز لا يمكن اعتباره لمصلحة الرجل في المجتمع، لأنه ببساطة تمييزٌ يسبب هدر طاقات نصف المجتمع، أو يكيّفها لمصلحة رؤية منغلقة عن حركة الواقع والحياة.
لقد قرأت الدكتورة نوال السعداوي الرؤية الغربية لحقوق المرأة في المجتمع الإسلامي، هذه القراءة، لم تأت تماهياً مع خطاب غربي، يقرأ واقع المرأة من السطح الاجتماعي، بقدر قراءتها في العمق، فالسعداوي ترفض فكرة أن الإسلام دين يعادي حقوق المرأة كإنسان، ألم يقل الله بشأن المساواة بين الرجل والمرأة:
{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا } [النساء : 1]
هذه الرؤية دفعت السعداوي أن تقول: “إنكم يا معشر الأساتذة الغربيين، تحرضوننا للخروج على ديننا، والتمرد على ثقافتنا وحضارتنا، وتزعمون أن الإسلام يعادي المرأة وحقوقها، وقد اطلعت على أمور كثيرة لديكم من التمييز والتفرقة والنظرة الدونية للشعوب الأخرى، وهو ما لا يمكن أن نجد له مثيلاً في ديننا، ولا في ثقافتنا ولا في تقاليدنا”[2].
حركات التنوير والمرأة
يبدو أن بعض التنويريين الأوائل، لم يستطعيوا قراءة النص الديني حول مساواة المرأة مع الرجل في الإسلام بعمق، فظهر التنوير لديهم بخصوص حقوق المرأة، وكأنه متعلق بمسألة حجاب المرأة، دون محاولة معرفة الشروط السياسية والاجتماعية والفكرية التي تحكم حقوق المرأة بصورة عامة.
إن العمل على الشرط الحقوقي من زاوية دينية، يتطلب رؤية عميقة لسببية النص الديني وقت نزوله، حيث لا نص ذا قيمة بدون شرطيه الموضوعيين الذاتي والموضوعي، وباعتبار أن النص القرآني تنزيلٌ من عزيز حكيم، فهو نصٌ يأخذ بالسببية في كل ما يتعلق بشؤون الانسان المتغيرة، وهي الشروط السياسية والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية والفكرية.
ولهذا، لا يمكن القبول بقراءة مشروطة بزمان ومكان محددين، أي في سياقها الموضوعي الخاص بها، على أنها قراءة صالحة لكل الأوقات، وهذا ينفي بالضرورة صلاحية اجتهادات، أو قراءات مقاربة للنص الديني، ظهرت في أزمنة، ترتكز على درجة منخفضة من التطور الاجتماعي العام.
حين نقول درجة منخفضة من التطور الاجتماعي، فنحن نقصد درجة التطور في البنى الاجتماعية، التي بالضرورة تفرز حاجاتها السياسية والاقتصادية والثقافية، وهذا أمر طبيعي، هذه الدرجة لها محددات اقتصادية وسياسية وفكرية تختلف من مرحلة إلى أخرى تبعاً لحاجة التطور النابع من التغيّر في تكوين البنى الاجتماعية.
إن قراءة تنويرية سطحية، لا يمكنها معرفة أنساق البنى المتحكمة بتخلف حال المرأة، لأن حريتها الانسانية التي وهبها الله لها حقٌ لها، هذا الحق تراجع نتيجة قراءة فكرية خاصة للدين، استندت إلى تفوق الذكورة على الأنوثة بالمعنى البيولوجي، وتمّ توسيع هذه الرؤية لتشمل حقوق المرأة السياسية والاجتماعية والثقافية.
هذه الرؤية، تساعد في فهم التنوير بصورة صحيحة، فموضوع حجاب المرأة مثلاً، تمت إثارته من قبلُ في وقت لم تُدرس علاقة تخلف المرأة وأسبابها العميقة الفاعلة بهذا الحجاب، من أجل فكّ الارتباط بينهما، أي بين تخلف المرأة والحجاب.
إن الاعتقاد بوجود هكذا علاقة، لن يساعد في حلّ مسألة درجة التخلف التي تحيا المرأة المسلمة في عصرنا في دائرتها، فالحجاب لا علاقة له بالتخلف، وكذلك نقض الدين ورفضه بصورة تنمّ عن جهلٍ عميق بصيرورة تطور المجتمعات العربية، والتخلف يحدث في البنى المجتمعية، وهذه البنى في حالة تخلفها تفرز حاجاتها المعبّرة عنها وعن ضرورة استمرارها، وهذا يجعلنا نقول “قضية الحجاب كانت تعبّر عن رفضٍ لاضطهاد المرأة وعزلتها وحرمانها من التعليم بحجة الحجاب“[3].
لهذا تبدو الحملات ضد الحجاب التي تقوم بها حركات نسوية ونخبٌ ثقافية ترتبط برؤى فكرية حادة، حملاتٍ لا تعمل من أجل تحرر المرأة بصورة واقعية وحقيقية، لأن هذا التحرر يرتبط بشروط ذاتية تخصّ المرأة وثقافتها ووعيها التاريخي لنفسها، وتخصّ درجة التطور الاجتماعي وآليات عملها.
فإذا قلنا بتحرر المرأة، فنحن نقصد تحرر وعيها وعقلها من أسر العادات والتقاليد والشروط السياسية، التي تحجبها عن العلم والمعرفة وشغل مراكز في القرار الاجتماعي والسياسي، وهذا هو جوهر أي تنوير ديني أو فكري يخصّ المرأة المسلمة، أي جوهر تمثّلها لإنسانيتها، وفق ما خلقها الله عليه، أي التنوير الديني خصوصاً، والتنوير الفكري عموماً، هو مفتاح باتجاه أخذ المرأة لحقوقها، التي تساعد في ردم هوّة التطور الاجتماعي العام بكل أنساقه، إذ “هناك من يدعو لانتقاص حقوق المرأة سواء بما يتعلق بدورها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، أو انتقاص حقوقها بالتعليم والثقافة وغير ذلك”[4].
المرأة بين النصّ القرآني والاجتهاد فيه
تسود ثقافتنا المعاصرة ثقافةٌ دينيةٌ، تنتمي إلى مراحل سابقة لمرحلتنا بأكثر من ألف عام، هذه الثقافة التي ارتدت لبوساً خاصاً بتفسير القرآن، أو مقاربة النص القرآني، وفق شروط الواقع آنذاك، يحاول كثيرٌ من المحافظين الانغلاق على نصوصها، لأنها تحقق لهم ارتواءاً فكرياً، تُرضي فيه قدرتهم على عدم محاكمة النص ومعرفة شروط عمله، كما أنها تحقق لبعض آخر ضرورة تبعية المرأة للرجل وقوامته عليها، دون فهم حقيقي لمفهوم القوامة.
إن الشراكة بين المرأة والرجل هي قانون طبيعي، وبدون هذا القانون، لا يمكن لمجتمع بشري، أن يتكوّن بصورته الطبيعية، وإن ما حدث من اختلال في علاقة الشراكة هذه، أساسها الرئيسي في مجتمعاتنا الاسلامية، هو القراءة غير المنصفة للنص القرآني، وبالتالي يتم حرف المعنى وتزوير الحقيقة في هذا النص، لأن التزوير في هذه الحالة يلعب دور تبرير قمع الناس، ومنهم بالأخص المرأة، ,لهذا يمكن القول أن “التزوير على الدين ذاته، هو أحد مفاتيح قمع الشعوب، وتسخير الآلة الوعظية ضدهم، وتعديل قيم الحقوق التي تضع الحكم تحت مساءلة الضمير الأخلاقي بصورة مستمرة، والمحاسبة الشعبية”[5].
لقد قال الله تعالى في محكم تنزيله:
{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ ۚ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَٰلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا ۚ وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 228].
وقد قرأ المفكر التنويري قاسم أمين، أن مجرد تعليم المرأة وتثقيفها، لا يكفل لها التحرر، فنرى لإعداد المرأة للعمل بقصد كسب رزقها، إذ في العمل، تكمن الضمانة الوحيدة لحقوق المرأة.
ويعتقد أمين أن الشريعة الاسلامية هي أول قانون ساوى بين المرأة والرجل، لكنه يذهب إلى أبعد من ذلك حين يقول: “الحرية أساس التقدم البشري، وحرية المرأة أساس كل الحريات الأخرى، فعندما تكون المرأة حرّة، يكون المواطن حرّا”[6].
إن التنوير الاسلامي أمامه معركة شرسة، فهو مضطر لأن يكون ضرورة قصوى لتفكيك التخلف وتبديد الاستبداد من واقع العالم الإسلامي المعاصر، وهذه المعركة تحتاج منه أن يقوم بإزاحة جهل فكري عظيم بُني باسم الدين الإسلامي، هذا الجهل بنى لنفسه قلاعاً من الأمراض الفكرية والاجتماعية، وتحديداً حيال المرأة المسلمة المعاصرة.
لهذا يأتي قول الله جلّ جلاله:
{ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 21].
التنوير وتحرر المرأة ضرورة
يتوقف التنوير كمفهوم على قراءة النص القرآني في شرطيه الزماني والمكاني، وهذه القراءة، تسمح للفكر بالتعامل مع نسبية الظروف السياسية والاجتماعية، لكل مجتمع إسلامي، في كل مرحلة من مراحل تطوره، ووفق هذه النظرة الموضوعية ذات الاتجاه العلمي، يمكننا القول إن فكرة تحرير المرأة يجب أن تأتي من داخل صيرورة التطور الاجتماعي العام بكافة أنساقه السياسية والاقتصادية والثقافية، وليس من تقليد أي حالة تحرر أخرى لها سياقها وصيرورتها الخاصين بها.
إن تحرير المرأة بالمعنى العميق لفكرة التحرير، يجب أن يرتبط بتحريرها والرجل من واقع قوانين سياسية واجتماعية وفكرية، تفرض عليهما الاستبداد، والقهر الاجتماعي، والاقتصادي. أما الدعوة إلى تحرير المرأة بمفردها، فهي دعوة تجهل أن الرجل والمرأة هما قطبا الحياة الانسانية، وبالتالي فهذان القطبان متى أصاب أحدهما عطبٌ فلا بدً أن ينعكس هذا العطب على حياة الآخر.
“إن تخلف المرأة وحرمانها من حقوقها الاجتماعية والسياسية والثقافية، التي هي جزءٌ مهمٌ من صميم إنسانيتها، من أبرز وجوه الأزمة الحضارية الشاملة في مجتمعات المسلمين”.
إن قراءة تخلف وجهل وظلم المرأة لا يمكن أن تكون قراءة صحيحة بغير رؤيتها في سياق تطور المجتمعات الإسلامية، وهذا يعني رؤية هذه المجتمعات في شرطيها الزماني والمكاني، وفق درجة التطور الاجتماعي العام، ولهذا تبدو مسألة احتجاب المرأة وكأنها عملية استعباد لها، فكيف نمنع عنها العلم والحياة والثقافة وشغل مراكز القرار في حالة احتجابها، وتحويلها إلى حالة (حريم) ارتبطت فكرتها بعصور الانحطاط بتاريخينا، ولهذا يرى قاسم أمين: “أن إلزام النساء بالاحتجاب هو أقسى وافظع اشكال الاستبداد، وأن حجب المرأة مرتبط بعصور ملكية الرجل للمرأة”[7].
إذاً، تحرر المرأة أو تخلفها ليس مرجعه القرآن الكريم، وهذا يستدعي البحث في أصل هذا التخلف والظلم الذي لحق بالمرأة المسلمة، وكيفية إنهاء هيمنته على حياة المجتمع. حيث ترى ريتا فرج: “أن دراسة أوضاع النساء في الأديان التوحيدية، وخصوصاً الإسلام، ركّزت على وضع المرأة بين الأبوية الدينية، والأبوية الاجتماعية”[8].
نحن إذاً أمام أبويتين واقعيتين، تتحكمان بتداخلهما غير المنطقي بحياة مجتمعاتنا، هاتان الأبويتان هما الأبوية الدينية والأبوية الاجتماعية، فالأبوية الدينية مصدرها إلاهيٌ أما الأبوية الاجتماعية فمصدرها يرتبط بنمط الانتاج الانساني عبر التاريخ، والذي أعطى الرجل السيطرة على وسائل الانتاج الاجتماعي ومن بينها المرأة، ولهذا لا بدّ من فصل الأبويتين عن بعضهما، لنتمكن من رؤية كل واحدة منهما في سياقها الطبيعي، فلا يجوز المساواة بينهما، لأنهما من مصدرين مختلفين، الأول إلاهيٌ، والثاني بشريٌ.
وفق هذه الرؤية، يمكن فهم الاجتهاد في مراحل اجتماعية، مرّت بها مجتمعاتنا الإسلامية، “فالمرأة التي صنعها الفقه التقليدي (تعدد الزوجات، الحضانة، الميراث) بنى عدته على منظومة أبوية صلبة تجاه النساء، فهو لم ير في المرأة إلا صورة الجسد، في وقت ساوى النص القرآني بين الرجال والنساء”[9].
إن تلمس وجود منظومة أبوية اتحد بها الفقه الديني التقليدي، في مرحلة من مراحل سابقة، مرّت بها المجتمعات الإسلامية، صار يتطلب الفصل بين المنظومتين، وهذه مهمة تنويرية، كذلك هي دعوة إلى استعادة قيم التنوير وتغيير الذهنية العربية المعاصرة
ولهذا تربط فاطمة المرنيسي بين الديمقراطية وتحرر المرأة والتنوير، فهي تعتقد أن سياسة معادة المرأة التي تمارس في العالم العربي تشوّه سمعة العرب والمسلمين في الأوساط العالمية، لذلك فهي تعتبر أن “التراث الذي يُحدّد عادة ببداية عصر التدوين (213ه) إلى زمن سقوط الأندلس كان في مجمله إنتاجاً ذكورياً بما في ذلك تفاسير القرآن والسنة، ولم يكن للمرأة أي مساهمة في إنتاج هذا التراث، الذي عطّل دورها في بناء المجتمع”[10].
أنسنة التنوير وعلاقته بالمرأة
إن بقاء المرأة المسلمة والعربية رهن شروط الخطاب الفقهي التقليدي، الذي لا يعبّر عن الجوهر الديني، الذي وضع الله المرأة فيه كإنسان مساوٍ للرجل يعطّل تحررها. فالنص القرآني وحّد بين الرجل والمرأة ناتج العمل الواحد، قال الله تعالى:
{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} [الزلزلة: 7-8].
إن توحيد ناتج العمل بصورة لا تقبل اللبس والتأويل بين الرجل والمرأة في نص قرآني، ينفي أي اشتراطٍ آخر على حجبها عن التعلم والتثقف وكسب الرزق وشغل مراكز القرار السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي مثلما يشغل ذلك الرجل.
قال الله تعالى:
{وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۚ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا ۖ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ ۚ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [النساء: 32].
إذاً، لا يمكن أن يقوم التنوير بدوره في تحرير المرأة والرجل بدون تحريرهما معاً، من أسر فقه ديني، له علاقة بمرحلة تاريخية لم تعد موجودة، هذا الفقه لم يقارب النصوص القرآنية التي تساوي بين الرجل والمرأة أو بين الذكر والأنثى على مستوى انسانيتهما، ومسؤوليتهما كل عن نفسه في عمله وتحصيله ودوره في بناء المجتمع المتطور.
إن التنوير الإسلامي الذي لا يقوم على مفهوم تحرير العقل الإنساني لن يكون بمقدوره تحرير الانسان، سواء الرجال أم النساء، فما دامت العلاقة بين قطبي المجتمع علاقة خلل في الحقوق والواجبات، فهي علاقة غير إنسانية، وبالتالي تقوم على الاستغلال الذي يرفضه رب العالمين،
{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97].
ختاماً
إن التنوير ضرورة في دفع الأمور نحو نصابها الطبيعي الذي رسمه لها الله، هذا التنوير في جوهره العميق ينطوي على إنسانية باعتباره يوحدّ في المسؤوليات والحقوق والواجبات، بين قطبي الانسانية الرجل والمرأة، يقول مالك بن نبي: “إن إعطاء حقوق المرأة على حساب المجتمع، معناه تدهور المجتمع، وبالتالي تدهورها، أليست عضواً؟.
لكن بن نبي يعتقد أن تحديد مهمة المرأة في المجتمع ينبغي النظر إليها وهي تسير منسجمة مع المشكلات الاجتماعية الأخرى في سبيل تقم المدنية، ولهذا يقول: إن “مشكلة المرأة مشكلة انسانية، يتوقف على حلها تقدم المدنية، فلا يكون حلها بمجرد تقليد ظاهري لأفعال المرأة الأوربية، دون النظر إلى الأسس التي بنت عليها المرأة الأوربية سيرها”[11].
إن تحرير المرأة من خلال قوة تأثير التنوير في البنى الاجتماعية سيجد أمامه مصاعب كبيرة، ولهذا فإن “العقبات أمام التنوير لا تتوقف عند المؤسسة الدينية والممانعة الشرسة، التي تبديها جماعات الإسلام السياسي فحسب، بل تمتد إلى السلطات السياسية التي تبدو في أفضل الأحوال غير معنية أو متحمسة للتنوير، وفي أسوئها مناوئة له وعرقلة لجهود نشره”[12].
إن تحرير المرأة لن يكون يسيراً بغير معركة تحرير المجتمع من قيود التخلف ونمطية الذهنية السكونية للمؤسسة الدينية والسياسية، التي يهمها عدم تغيير الواقع القائم، كي لا تنتفي مصالحها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية عبر لبوس فكري ديني لا ينتمي لجوهر الدين الإسلامي الحنيف.
أسامة آغي _ مركز أبحاث ودراسات مينا
___________________________________________________
المراجع:
[1]– مصطلح التنوير: مفاهيمه واتجاهاته في العالم الإسلامي الحديث – الدكتور عبد اللطيف الشيرازي – 16 شباط 2005.
https://www.iifa-aifi.org/wp-content/uploads/2015/02/3.pdf
[2]– المرأة وحركات التنوير – د. زياد أبو لبن – الدستور الأردنية 11 يوليو 2016
[3]– لماذا يحاربون التنوير الإسلامي – مهنا الجبيل – العربي الجديد 9 أبريل 2019.
[4]– قاسم أمين.. تحولات في قراءة واقع المرأة – محمد جبريل – موقع حفريات 31/1/2019
[5]– الزواج والطلاق والحجاب من وجهة نظر رواد التنوير الإسلامي في القرن العشرين – 4 أغسطس 2014
[6]– المرجع السابق.
[7]– المرجع السابق.
[8]– فرانس 24 – حوار مع ريتا فرج: الفقه الأبوي لم يرَ في المرأة إلا الجسد – 7/3/2021
[9]– المصدر السابق.
[10]– فاطمة المرنيسي من وراء حجاب السوسيولوجيا – العربي الجديد 1 ديسمبر 2015.
[11]– المرأة في مرآة المفكر مالك بن نبي – البيان – الخميس 22/4/2021
https://www.albayan.co.uk/MGZArticle2.aspx?ID=5905
[12]– لماذا التنوير – عمران سلمان – 12 فبراير 2021 – الحرة