أصبح مصطلح “التلاعب النفسي” الذي يُعرف أيضاً تحت مسمى “التلاعب بالعقول” (Gaslighting) مترسّخاً بشكل كبير في الثقافة الأجنبية، وتحديداً الأميركية، منذ العام 2016، غير أن ذلك لا يمنع وجوده في مختلف الثقافات والمجتمعات، لا سيما في بعض المجتمعات العربية التي يسيطر عليها الطابع الذكوري والتمييز الجندري، حيث يعتقد العديد من الرجال أنه يحق لهم بسط نفوذهم وسيطرتهم على شريكتهم، زاعمين أنهم “الجنس الأقوى”.
وهكذا تتحول العديد من العلاقات الاجتماعية إلى خداع، وتصبح العلاقات الجنسية سامة لكونها مبنية على الكذب والوهم وفبركة الحقائق.
التشكيك في الواقع
“دعني أهتم بالأمر، فأنتَ/تِ لا تعرف/ين ما تفعله/ينه”، “أنتَ/تِ حساس/ة للغاية”، “توقف/ي عن المبالغة في ردود الفعل”، “استمر/ي في تخيّل الأشياء”، “ليس هذا ما حدث، يبدو أن ذاكرتك تتراجع”، “أنتَ/تِ مجنون/ة”.
لا شك أن مثل هذه التعليقات قد تقوّض ثقتنا بأنفسنا وبإيماننا بما نعرفه. أكثر من ذلك، فإن الشخص الذي يتفوّه بها يتعدى على إحساسنا بالهوية، وكلما سمعنا مثل هذه العبارات الجارحة، كلما اهتزّت ثقتنا بأنفسنا، وبات الطرف الآخر متحكماً بواقعنا وباسطاً نفوذه وسيطرته على كل جانب من جوانب حياتنا.
في الواقع، إن التلاعب النفسي هو مصطلح مقتبس من عنوان فيلم ظهر في العام 1944، ويروي قصة شابة تدعى باولا، يدفعها زوجها غريغوري للاعتقاد بأنها تعاني من مرض نفسي يجعلها تتخيل أشياء وتقوم بتصرفات غريبة.وفي التفاصيل، يقوم الزوج المخادع بذرع بذور الشك في ذهن شريكته بطريقة منهجية، كأن يضع مثلاً ساعته في حقيبتها ومن ثم يتهمها بالسرقة، كما يقنعها بأن الأضواء خافتة في الوقت الذي كان هو من يخفّف الإضاءة، وكل ذلك بهدف وضعها في مستشفى للأمراض العقلية والاستيلاء على ثروتها.
تتمسك باولا برأيها، لكنها تخوض معركة خاسرة أمام الزوج الذي يقوّضها مراراً وتكراراً حتى لا يكون لديها خيار سوى استبدال حقيقتها بأكاذيبه.وعليه، كان تلاعب الزوج قوياً بما يكفي لجعل شريكته تشكك في واقعها وفي صحتها الذهنية.إذن، تنطوي ظاهرة “التلاعب بالعقول” على جعل الطرف الآخر يشكك في واقعه وفي ذاكرته، ويوهمه الشخص المتلاعب بأنه يبالغ في ردود أفعاله تجاه حدث ما، كما يقدم له أفكاره على أساس أنها “حقيقة مطلقة” غير قابلة للنقاش، وذلك عن طريق عدة خطوات: رسم الهدف في البداية، بناء الثقة والسلطة (أو الاستفادة من الثقة القائمة)، تفكيك إحساس الضحية بالثقة في نفسها ببطء من خلال الشك والتساؤل أو عن طريق التلاعب بعناصر البيئة المادية (تحريك أو إخفاء الأشياء ثم إنكارها)، في نهاية المطاف، يؤدي هذا إلى حرمان الضحية من استقلاليتها وجعلها تعتمد على المتلاعب لكونه “مصدر الحقيقة”.
تنطوي ظاهرة “التلاعب بالعقول” على جعل الطرف الآخر يشكك في واقعه وفي ذاكرته، ويوهمه الشخص المتلاعب بأنه يبالغ في ردود أفعاله تجاه حدث ما، كما يقدم له أفكاره على أساس أنها “حقيقة مطلقة” غير قابلة للنقاشفي هذا الصدد، أشارت بايج سويت، الأستاذة المساعدة في علم الاجتماع في جامعة ميشيغان والتي تدرس التلاعب النفسي في العلاقات وفي مكان العمل، إلى أن التلاعب النفسي يشمل استراتيجيات التلاعب بالعقل للأشخاص المسيئين.
ومن خلال انكبابها على هذه الظاهرة، لاحظت سويت أن هذه الأساليب تكون فعالة بشكل خاص عندما “تكون متأصلة في عدم المساواة الاجتماعية، لا سيما الجندر والجنس، وتبرز في العلاقات الحميمة القائمة على السلطة”، مشيرة إلى أنه في العادة يقوم المتلاعب بجعل ضحيته تعتقد بأنها تعاني من الجنون.
وأوضحت بايج أن التلاعب النفسي “يجعل شخصاً ما يبدو أو يشعر بعدم الاستقرار، وبأنه غير عقلاني وغير موثوق به، مما يجعله يعتقد بأن ما يراه أو يختبره ليس حقيقياً”.
لذلك، يمكن القول إن “التلاعب بالعقول” هو سلوك “خبيث” لكونه يجعل الضحية تعاني من الإرباك والقلق وفقدان الثقة بنفسها وبتصوراتها الخاصة، الأمر الذي يكون مدمراً لكل من مشاعر تقدير الذات والقدرة على الانخراط في الرعاية الذاتية.
كيف يبدو شكل التلاعب النفسي الذي يتخذ طابعاً جنسياً؟
في حوار أجرته مع موقع رصيف22، أوضحت المعالجة النفسية المتخصصة في العلاقات الزوجية والجنسية، مها نصرالله، أن التلاعب النفسي هو شكل من أشكال الإساءة العاطفية والنفسية، بحيث يتضمن سلوكيات معيّنة من قبل المعتدي، تجعل الشخص الذي يتعرّض للإيذاء يبدأ في التشكيك في نفسه وفي خياراته وواقعه.والحقيقة، إن التلاعب النفسي يدور في أساسه حول القوة وقد يصدر من شريك رومانسي أو صاحب عمل أو أحد أفراد الأسرة، أو أي شخص آخر في موقع القوة والسلطة.بمعنى آخر، قد يعمد بعض الأفراد إلى التلاعب النفسي بغية اكتساب القوة وبسط سيطرتهم على الآخرين. قد تنبع هذه الحاجة للهيمنة من النرجسية أو جرّاء الشخصية المعادية للمجتمع، أو غيرها من الشخصيات التي تسعى إلى اكتساب النفوذ والقوة على حساب الآخرين.
أما بالنسبة للتلاعب النفسي الجنسي، فيتعلق بالتحكم في السرد الجنسي والنشاط الجنسي للشخص الذي يقع ضحية له، أما الهدف الأساسي فهو جعل الضحية تشكك في واقعها الجنسي.يتم تحقيق ذلك غالباً عن طريق إعادة تشكيل الواقع، والقول للآخر على سبيل المثال: “هذا ما تريده أنت، وليس أنا”.ففد أشارت إحدى الدراسات الصادرة في العام 2020، إلى وجود رجل كان يجعل شريكته تشرب الكحول لدرجة أن تصبح غير قادرة على التركيز على محيطها، ومن ثم ينتهز الفرصة ويمارس الجنس الشرجي معها.في صباح اليوم التالي، كان الشريك يؤكد للمرأة بأنها هي التي أرادت ممارسة الجنس الشرجي وطلبت منه فعل ذلك.
“إذا كانت الخيانة الزوجية جزءاً من التلاعب النفسي، وكانت الممارسات الجنسية غير محمية، فإن فرص الإصابة بالأمراض المنقولة بالاتصال الجنسي تزداد، وسيكون الشخص الذي يتم التلاعب به جنسياً هو الطرف الذي يتم إلقاء اللوم عليه إذا ظهرت العدوى المنقولة جنسياً”.
وعلى الرغم من أن الجنس الشرجي ليس شيئاً ترغب فيه أو تفكر فيه عادةً، غير أن الضحية كانت تعتقد بأنها فكرت وتصرفت بشكل مختلف عن طبيعتها بسبب تأثير الكحول.
وبعيداً عن الهدف المتمثل في إعادة صياغة الواقع، يسارع الشخص المتلاعب إلى تجاهل مشاعر أو مخاوف الشريك/ة، ولا يعمد إلى تقديم أي اعتذار، كما يتجنب المناقشات الطويلة، إذ كلما تحدثت الضحية أكثر، كلما زادت فرصتها في التحدث مع نفسها في نمط المنطق والتوصل إلى نتيجة دقيقة بخلاف الواقع، وبالتالي يجد المتلاعب بأنه من المهم أن يسيطر على المحادثة وينهيها بسرعة حتى لا يتسنى للضحية التفكير بصورة عقلانية بما حدث بالفعل.بالإضافة إلى ذلك، يقوم المتلاعب بوضع كل اللوم على الضحية وتحميلها مسؤولية كل شيء.
ففي المثال السابق الذي ورد في الدراسة، قام الزوح بإلقاء اللوم على شريكته، وأقنعها بأنه لو لم تكن في حالة سكر لما انخرطا في سلوكيات جنسية من هذا القبيل، وبذلك يصبح الشعور بالذنب سلاحاً قوياً في يد المتلاعب.
ماذا يمكن على المرء فعله في حال وقع ضحية التلاعب النفسي/الجنسي؟
لا شك أن التعرف على التلاعب النفسي الجنسي هو أمر حيوي للصحة النفسية والجنسية.
من هنا، يجب التعرف على هذا السلوك السام على حقيقته وإدراجه ضمن الإساءة النفسية، كما يجب التعامل معه بطريقة مباشرة، وإلا يمكن للمرء أن يفقد قدرته على المضي قدماً في حياته العاطفية والجنسية والتحكم في تطوير ذاته من الناحية الجنسية.
وفي أحد الاستطلاعات، أجمعت جميع النساء المشاركات على أن التثقيف الجنسي ساعدهنّ على إدراك طبيعة شريكهنّ واكتشاف سيطرته وخداعه، كما دفعهنّ ذلك إلى التحدث مع شخص مقرّب عن سلوكيات الشريك، لجهة التقليل من أهمية احتياجاتهنّ أو حتى اتهامهنّ بتزييف الواقع.
بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يؤدي التلاعب النفسي الجنسي إلى زيادة المخاطر الجنسية، بحسب تأكيد مها نصرالله: “على سبيل المثال، إذا كانت الخيانة الزوجية جزءاً من التلاعب النفسي، وكانت الممارسات الجنسية غير محمية، فإن فرص الإصابة بالأمراض المنقولة بالاتصال الجنسي تزداد، وسيكون الشخص الذي يتم التلاعب به جنسياً هو الطرف الذي يتم إلقاء اللوم عليه إذا ظهرت العدوى المنقولة جنسياً”.
من هنا، أكدت نصرالله أن هناك أشياء يمكن القيام بها لمحاربة التلاعب الجنسي، كالتحدث مع الشريك/ة بشفافية وصراحة، بخاصة وأن هذه التصرفات ليست بالضرورة نابعة عن وعي وإدراك، إذ هناك احتمال بأن يكون الشخص المتلاعب غير مدرك لما يفعله.
أما في حال كان الشخص المتلاعب يعلم جيداً ما يقوم به، فعندها يجب طلب المساعدة المهنية، بخاصة وأن التلاعب النفسي الجنسي قد يكون غطاءً للاعتداء الجنسي، كما يجعل الضحية تفقد قدرتها على التحكم في جسدها ورغباتها، الأمر الذي يجعلها تشعر بأنها لا تملك قبضة قوية على أي شيء آخر.
في نهاية المطاف، قد يضطر المرء إلى إنهاء العلاقة العاطفية لوضع حدّ للتلاعب، ولكن عليه أن يعي بأنه إذا كان يتعرض للتلاعب الجنسي، فهذا ليس خطأه وذنبه، فالتلاعب النفسي، في جوهره، شكل من أشكال الإساءة النفسية ولا يجب أن يُلقى اللوم على كاهل الشخص الذي وقع في فخ التلاعب النفسي الجنسي، بل يتعيّن على هذا الأخير الإسراع في تحرير نفسه والخروج من العلاقة السامة بأقل قدر ممكن من الخسائر النفسية والجسدية.
المصدر: رصيف 22