كان الأمر يتطلب عدة أيام، كي تتوضح خلفيات ودوافع تصريحات مندوب السعودية الدائم في الأمم المتحدة، ضد نظام الأسد، منذ أسبوع، والتي جاءت مفاجئة في توقيتها، ونبرتها التصعيدية. فالحكم على استقرار الموقف السعودي، حيال الملف السوري، والمعادلات التي تحكمه، يتطلب التريث.
وفيما أرجع كثيرون نبرة الممثل الدبلوماسي السعودي، التصعيدية، إلى استياء الرياض من “تعنت” الأسد وعدم تقديم أي تنازلات في العملية السياسية السورية بجنيف، أو عدم اتخاذه لخطوات جدية على صعيد تخفيف النفوذ الإيراني الراسخ في دمشق، يبدو أن القراءة التي قدمها عمر رحمون، عضو هيئة المصالحة، والمقرّب من مخابرات النظام، هي الأدق. ففي سلسلة تغريداته التي أعقبت تصريحات المندوب السعودي، أشار إلى دور السعودية المتكرر في إجهاض أنشطة المعارضة المسلحة بسوريا، وكذلك في لجم المعارضة السياسية والعمل على التحكم بها، مشيراً إلى علّة الغضب السعودي الأخير في عبارة “زعلانين من صديقنا وعم يفشوا خلقهم فينا..”. أما “الصديق” الذي “زعلت” منه السعودية، فهو إيران. والردّ السعودي شمل سلسلة إجراءات من بينها، التلويح بعرقلة مسار الانفتاح الرسمي العربي على نظام الأسد.
وبخلاف البروباغندا التي سادت على لسان بعض المراقبين خلال الأيام القليلة الفائتة، في تحليل تصريحات المندوب السعودي، بوصفها تعبيراً عن “موقف السعودية الثابت” من جرائم نظام الأسد بسوريا.. يمكن العودة إلى التاريخ القريب جداً، للتذكير بأن السعودية سبقت دولاً عربية عدة، في المجاهرة علناً بقبولها باستمرار الأسد على كرسي الحكم. ففي تصريحات لولي عهد السعودية، محمد بن سلمان، لمجلة “التايم” الأمريكية، في العام 2018، قال الأمير السعودي إن “الأسد باقٍ في السلطة”، مضيفاً أن “من مصلحته، ألا يدع الإيرانيين يفعلون ما يريدون في سوريا”.
تؤشر تصريحات الحاكم الفعلي للسعودية، المشار إليها أعلاه، وذلك قبل ثلاث سنوات من اليوم، أن المشكلة من وجهة نظر الرياض لم تكن يوماً في “الزعيم” الذي يقف “فوق هرم من جماجم الأبرياء”، بقدر ما تتعلق بالنفوذ الإيراني في المنطقة، وتحديداً، في الملف اليمني.
إذ لم تمضِ أيام على تصريحات المندوب السعودي الحادة ضد نظام الأسد، حتى خرجت المناكفات الإيرانية – السعودية إلى العلن، دون أن يفلح “لقاء مجاملة” بين وزيري خارجية البلدين، في باكستان، في الحد من التصعيد الدبلوماسي، والعسكري غير المباشر، المتبادل، بينهما.
وفيما وجدت طهران في وفاة سفيرها بصنعاء، فرصة لتسجيل نقاط دبلوماسية على السعودية عبر تحميلها مسؤولية تأخير عملية إجلاء السفير حالما تدهورت حالته الصحية.. كانت الرياض تستهدف مطار صنعاء الدولي، وتخرجه من الخدمة تماماً، بعد أن استخدمته ميليشيات الحوثي في إطلاق الطائرات بدون طيار، إيرانية الصنع، التي تستهدف الأراضي السعودية.
أما عن أسباب التصعيد الأخير بين الطرفين؟ فيرجع ذلك أساساً إلى فشل الحوار السعودي – الإيراني في الوصول إلى نتائج بنّاءة لحل الخلافات بين الطرفين، وبصورة خاصة في الملف اليمني، الذي شهد مؤخراً تصعيداً ميدانياً نوعياً. ومنذ انتهاء جولة الحوار الرابعة بين الطرفين في أيلول/سبتمبر الفائت، مروراً باللقاء “الأمني” في عمّان، والذي رفضت السعودية صبغه بطابع رسمي، فشلت مساعي عقد جولة حوار خامسة بين العاصمتين.
ويمكن تحديد الخلاف الرئيس والأكثر حدّة بين الطرفين، في اليمن. ففي حين ترى إيران أنه ليس من حق السعودية “التدخل” في الشأن اليمني، ترى السعودية أن من حقها تقرير من يحكم، في خاصرتها الجنوبية الرخوة. وفيما تستخدم إيران حلفاءَها الحوثيين لإثخان أمن الأراضي السعودية بالانتهاكات عبر “المسيّرات” الإيرانية، تصوّب الرياض على مساعي الانفتاح العربي على الأسد، حليف طهران.
ما يهمنا في سوريا، مما سبق، جانبان، الأول: أن التصعيد السعودي ضد الأسد، كردٍ على المناكفة مع طهران، بالتزامن مع انفتاح الإمارات على النظام وإيران معاً، يؤكد أن القراءات التي ترى أن التطبيع مع الأسد، عربياً، سيحد من النفوذ الإيراني بسوريا، وأنه أزعج إيران، هي قراءات غير دقيقة، بل وربما معكوسة. إذ أن الانفتاح “العربي” على الأسد، يخدم المصالح الإيرانية، بل وهو مرغوب إيرانياً، بدليل أن السعودية استخدمت التصويب على هذا “الانفتاح”، بهدف إزعاج إيران، بصورة أساسية.
أما الجانب الثاني الذي يهمنا في تداعيات المناكفة الإيرانية – السعودية المفصّلة أعلاه، فهو مداها وآثارها على المشهد السياسي السوري. وهنا نستطيع القول، إنه إن لم يحصل اختراق في الحوار والتفاوض مع طهران، على أحد المستويين، الإقليمي (بين السعودية وإيران)، أو الدولي (مفاوضات إحياء الاتفاق النووي الإيراني في فيينا)، حتى آذار/مارس المقبل، فهذا يعني أن السعودية ستنضم إلى قطر في رفض استعادة نظام الأسد لعضويته في جامعة الدول العربية، وهذا يعني خسارة البعد المعنوي للعودة إلى النظام الرسمي العربي. وهو الأثر قريب الأمد.
أما الأثر بعيد الأمد، لتعثر مساعي الحوار الإقليمي والدولي مع إيران، فسيكون تسخين جبهات الحرب غير المباشرة في أماكن تماس أخرى مع إيران في المنطقة (غير اليمن)، قد تكون سوريا إحداها.
أمّا في حال حصل اختراق، وهو وارد بشدة، على المستوى الدولي (مفاوضات النووي الإيراني بفيينا)، فسيُعاد حينها خلط الأوراق من جديد، لنرى اصطفافات وترتيبات إقليمية جديدة، ستخلق بدورها، آثاراً مختلفة على المشهد السياسي والميداني السوري.
إياد الجعفري _ الطريق