الحلّ الذي يتم تلفيقه في سوريا اليوم، محكوم عليه بالفشل، لأن طريق الديكتاتورية مسدود من حيث المبدأ، ولأن ما يحاك لسوريا لا يلبي تطلعات أي فئة من السوريين بمن فيهم الموالون، وإنما يقوم على تلبية مطالب الدول والقوى التي أبقت النظام حيّاً، وستنفجر الأوضاع في البلاد بعد زمن ليس بالطويل، ويبدأ نظام الأسد جولة جديدة من القتل، وسيعود السؤال اللعين ليطرح نفسه: ما البديل؟!
ستغري مشاعر النصر الزائفة، نظام الأسد الذي ينعم بدعم إقليمي ودولي، لممارسة المزيد من الصلف والفساد. ومع عجزه عن مواكبة التطور والتحولات الداخلية العميقة التي عصفت بالمجتمع، سيتعمق مأزق السكان الذين يقعون تحت سيطرته أكثر فأكثر، خصوصاً في ظل آليات النهب الخارجي، وسيواجه النظام، بعد خمس سنوات أو عشر، كتلة شابة قضت الحرب على كل آمالها وليس لديها ما تخسره، وأخرى مفعمة بالحيوية ولم تكتوِ بنار الصراع، وستجد من الغرابة بمكان أن تقبل بوضعها تحت فوهات البنادق في سجن مُزرٍ وبلا أفق، فيما العالم على مرمى حجر منها يزداد اتساعاً وانفتاحاً، وسيرغب هذا الجيل كما سابقه بتحقيق ذاته وتمرده، الأمر الذي سيواجهه النظام بالأسلوب الذي لا يجيد سواه وهو القمع الوحشي العنيف.
وحتى لو قرر بشار الأسد أن يتحول صُورياً، إلى شكل أقل وحشيّة، كما فعل عند توليه السلطة في مطلع الألفية، فإن بوابات الجحيم السوري الناقم ستُفتح عليه أكثر مما حدث في ربيع دمشق، وسيجد نفسه أمام مطالب تعجيزية، ستنتهي بطريقة أو أخرى إلى الصدام. وقد تشمل المواجهة هذه المرّة، قاعدته الطائفية ذاتها، وحلف الأقليات الذي يتستر به، بما أن هذه الفئات صارت فعلياً الغالبية في البلاد، وهي من يقع عليها الضرر الأكبر وتالياً عبء رفعه.
إزاء أي من هذين السيناريوهين المحتملين، سيكون أمام المجتمع السوري بدوره خياران جوهريان: الأول، أن يبقى ذرات غبار متناثرة لا يجمعها رابط وعاجزة عن الفعل، وبالتالي تكون البلاد مفتوحة على دورة دموية متجددة من العنف الفوضوي، الذي سرعان ما يتحول إلى حرب أهلية بين طوائف وإثنيات متناحرة، يفوز فيها من يملك السلاح والتنظيم العسكري. وهو هنا، إما نظام الأسد مرة أخرى، وهذا لن يكون مستغرباً إطلاقاً، فها هو يعاد تعوّيمه بعدما قتل مليون سوري واستخدم السلاح الكيمياوي. واما أن يتولى السلطة الإسلاميون المنظمون والمسلحون، وهذا احتمال أقل لكنه ليس مستحيلاً، فقد سُلّمت أفغانستان لحركة طالبان ولم ينهَر العالم. أما الخيار الثاني أمام السوريين، فهو أن ينظموا صفوفهم ليكسروا هذه الحلقة المعيبة، وينتجوا البديل المقنع، وهو بطبيعة الحال ليس شخصاً. فأي سوري متوسط الذكاء والأخلاق قادر على إدارة البلاد بطريقة أفضل من بشار الأسد، كما أن أي عنصر من النظام يستطيع أن يحلّ محلّه في القيادة. وإنما البديل المنشود هو جهاز سياسي بالدرجة الأولى، يستطيع أن يضطلع بدور قيادة البلاد على نحو سلمي وديموقراطي إلى ضفة الخلاص.
يحتاج البديل السياسي إلى حامل اجتماعي متمكن. وفي ما يبدو اليوم، فإن سوريا الواقعية خاوية على عروشها، تنهش قاطنيها الحاجة والبؤس والذلّ، إذ دمرت الموارد وهاجرت كافة الطاقات والكفاءات السوريّة، الشابة منها والمخضرمة، ولم يبق سوى حملة السلاح الذين لا يجيدون سوى القتل، بينما تنمو مؤهلات السوريين في بلدان اللجوء بشكل مضطرد، إذ يُقبلون بنهم على التعليم والمعارف الحديثة. وتشير تقديرات شبه مؤكدة إلى أن نحو 200 ألف طالب جامعي يتلقون علومهم في جامعات تركيا والاتحاد الأوربي، يتبعهم نحو مليوني تلميذ في المراحل الدراسية الأخرى، ومن المؤكد أنهم يكتسبون تعليماً أفضل من ذاك الذي كانوا يتلقونه في أزمنة سابقة أو يتلقاه أقرانهم تحت سيطرة النظام أو قوى الأمر الواقع الأخرى. إضافة إلى اكتساب مجمل اللاجئين، على نحو مضطرد، لشتى المعارف والخبرات الضرورية لإعادة بناء الدولة بأحدث المعايير المعاصرة في بلد صغير نسبياً مثل سوريا.
يحتاج إنجاز المهمة إلى عمل دؤوب ومستمر لخلق شبكات تربط اللاجئين السوريين وتعيد توجيههم نحو السياسة، التي لا يمكن أن تخلق قضية عامة من دونها أو خارجها، بحيث يصبح هؤلاء اللاجئون شعب سوريا الذي يقيم خارجها، غير المنقطع عنها في طموحاته وعمله. ومن خلال حراك هذه الشبكات وحيويتها، ستبرز الطبقة أو الفئة السياسية الجديدة، الأكثر كفاءة من كل ما سبقها، لتقود العمل والكفاح الذي يجب أن ينتهي إلى سوريا وفي داخلها.
إن الفرضيات السابقة حول انهيار الحلّ الذي يتم اصطناعه اليوم، بالضد من رغبة السوريين، ستحدث بالضرورة، وبصورة أسرع مما نحسب، عندما يتم تسييس اللاجئين وتأطير حراكهم وبلورته حول المطالب الوطنية الديموقراطية، وتمكنهم من اتقان استخدام أدوات الكفاح السلمي، الذي يخسر الديكتاتور في مضماره على نحو مؤكد.
سيكون من المحبط والمعيب حقاً أن يصل السوريون خالي الوفاض إلى لحظة ترنح وسقوط نظام الأسد، الآتية بلا ريب. ولن يكون لهم أي عذر لعدم تهيئة بديل قادر على تسيير أمور البلاد بسلاسة، بعد كل ذلك النضال الممتد لعقود، ومع توافر كل تلك الفرص والإمكانات غير المسبوقة التي ينعم بها نحو خمسة ملايين سوري في بلدان اللجوء المريح وظروفها المواتية، وفي الملجأ الأوروبي على وجه التحديد، والتي لم ينالوها مجاناً، بل بفضل عذابات الملايين من أبناء جلدتهم، الذين ما زال لهم على هؤلاء اللاجئين حق التضامن والمسؤولية الجماعية عن مصير البلاد وأجيالها اللاحقة.
عبد الناصر العايد _ تلفزيون سوريا