تالا الشيخ _ sysria press
وصل العديد من المسنين السوريين إلى تركيا في أعقاب حملات التهجير القسري، بعد أن فقدوا عائلاتهم وأملاكهم في القصف على مدنهم وقراهم، يبدؤون حياتهم من الصفر دون قريب أو معيل، وهناك آخرين تقطعت بهم السبل بعد وعود بلم شمل من أقارب لهم في أوروبا، لايستطيعون الوصول إلى مراكز الرعاية أو مقدمي الخدمات،وهذه الفئة المستضعفة والمنسية لم تستهدف في برامج منظمات المجتمع المدني ولم تدخل في دائرة اهتمامهم.
يمثل كبار السن وفق المفوضية السامية لحقوق الإنسان والمسنون، شريحة كبيرة و متنامية من سكان العالم، فقد تجاوز نحو 700 مليون شخص الستين من عمرهم. وفي العام 2050، سيتخطّى عدد الأشخاص الذين تجاوزوا الستين، ولأول مرة في تاريخ البشرية، عدد الأطفال في العالم. ووفق بيانات دائرة الهجرة التركية، يعيش في تركيا ما يناهز ثلاثة ملايين و654.866 لاجئاً سورياً، منهم ما يقارب 114511 ألفاً من المسنين يندرجون تحت الفئة العمرية التي تتراوح بين 60_ 90 سنة.
في بيت بأزقة إسطنبول يعيش ” أبو أحمد” الذي تجاوز السبعين من عمره، بسكن شبابي لا يصلح للعيش يغمس الخبز بالشاي ويأكل معتذراً بأن ليس لديه أسنان تساعده على مضغ الطعام، ويلهج لسانه بالدعاء لأهل الخير ممن يهتمون ببعض من شؤونه، ومنهم شيخ مسجد بالقرب من مسكنه، يعطيه كل يوم (10) ليرات مقابل كنس فناء الجامع الصغير، ولضيق الحال يجمع “أبو أحمد” بعض الحاجيات المستعملة التي يرميها أهل الحي الذي يقطن به، ويبيعها بالبازار بسعر بخس لا يغطي حاجاته الأساسية من مسكن ومأكل وفواتير وأدوية.
تهجّر “أبو أحمد” من بلدته في ريف دمشق، وحيداً بعد أن فقد زوجته وأولاده السبعة بغارة جوية، ووصل إلى إسطنبول بعد جهد وعناء، ولم يوفق بإيجاد عمل بسبب كبر سنه، ما جعله يعيش في عزلة اجتماعية إضافة إلى أن حاجز اللغة وجهله بالطرق والمواصلات وقلة المعلومات، جعلته عاجزاً عن الوصول إلى رعاية طبية أو أي من الخدمات التي تقدمها منظمات المجتمع المدني.
حول العزلة الاجتماعية التي يعيشها المسنون يقول الخبير في علم النفس الديناميكي الأستاذ “فراس الجندي”: العزلة الاجتماعية تعني قلة التواصل الاجتماعي، وعدم الاحتكاك مع الآخرين في بناء العلاقات الاجتماعية حيث تؤدي إلى الشعور بالوحدة، فلا يغادر المسن منزله لفترات طويلة، ولا يمكنه الوصول إلى الخدمات أو الأنشطة المجتمعية، ويصبح لديه اتصال ضئيل أو معدوم مع الأصدقاء والعائلة والمعارف.
بحسب بيان منظمة الصحة العالمية، يرتبط التمييز على أساس السن بضعف الصحة البدنية والنفسية، وزيادة العزلة الاجتماعية والوحدة، وزيادة انعدام الأمن المالي، وتدني نوعية الحياة، والوفاة المبكرة. كما يوجد وفقاً للتقديرات نحو 6.3 ملايين حالة اكتئاب في العالم تعزى إلى التمييز على أساس السن.
ويشير “الجندي” إلى أنه، عندما نرى واقع كبار السن الذين وقعوا بين مطرقة العزلة الاجتماعية وسندان التهجير نتيجة غياب كل أشكال الرعاية الصحية والنفسية، وعدم تمكن هؤلاء من الاندماج في المجتمع لعدم قدرتهم على تعلم اللغة الجديدة، إضافة إلى معاناتهم في الحرب ومن ثم التهجير،فالمُهجر قسرياً يجد صعوبة في الدخول إلى عالم المجتمع الجديدوهو كثيرا ما يطوي تحت جوانحه شعوراً بالحنين للوطن الأصلي.
برامج رعاية المسنين السوريين
في حديث خاص إلى “سيريا برس“، تقول “نسرين الريش“، رئيسة مجلس إدارة منظمة” جنى وطن”، أن هناك الكثير من المسنين السوريين في تركيا يعيشون في مناطق مهمشة وشعبية، ولا تقدم لهم الرعاية والخدمات التي يحتاجون لها، لعدم وجود برامج خاصة تستهدف هذه الفئة، ولا يستطيعون الحصول على كرت الهلال الذي تقدمه الحكومة التركية بدعم من الاتحاد الأوربي لعدم توفر الشروط المطلوبة لديهم، كونه خاص بالعائلات التي لديها على الأقل ثلاثة أطفال، وبالتالي نرى أن هناك تمييز على أساس السن في البرامج والخدمات التي تقدم من الحكومة ومنظمات المجتمع المدني.
في آذار/مارس 2021، نشرت منظمة الصحة العالمية بيان أشارت فيه، إلى أن شخصاً من أصل اثنين في العالم يتبع سلوكيات تمييزية على أساس السن، ووفقاً إلى التقرير الصادر عن كل من منظمة الصحة العالمية، ومفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، وإدارة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية التابعة للأمم المتحدة، وصندوق الأمم المتحدة للسكان، تسرّب التمييز على أساس السن إلى العديد من مؤسسات المجتمع وقطاعاته، بما فيها تلك التي تقدم الرعاية الصحية والاجتماعية، في أماكن العمل ووسائط الإعلام والنظام القانوني.
ولا يوجد بحسب “الريش” منظمات سورية في تركيا مختصة بتقديم خدمات ورعاية المسنين، والجمعيات التركية لا تستهدف فئات المسنين من السوريين، لعدم قدرتها على الوصول لهم بشكل مباشر، معتبرين أن المسنين يحملون بطاقة الحماية المؤقتة “الكملك” وبإمكانهم الاستفادة من الخدمات التي تقدمها الحكومة خدمياً، أو الحصول على الرعاية الطبية ومراجعة المشافي، متناسين الصعوبات التي تمنع كبار السن من ذلك، وهي غالباً تتمثل بعدم قدرته على التواصل بسبب اللغة، وجهله بالخدمات التي تقدم له، وصعوبة الوصول لها، فهم بحاجة لناس قريبة منهم تساعدهم على قضاء حوائجهم.
وتشدد “الريش” على أن فئة كبار السن من الفئات المهمشة بالكامل، وخاصة أن بعضهم يحتاج إلى رعاية خاصة لاتتوفر إلا في دور مسنين، والمعلومات المتوفرة عن دور رعاية المسنين التركية قليلة وعموماً لم نسمع عن دار رعاية مسنين تستقبل السوريين، وهذا مؤشر على قصور من المنظمات التركية والسورية على حد سواء في الاستهداف المباشر لطالبي الرعاية من المسنين.
مسنون يتمنون الموت
السيدة “أم هشام” (56 عاماً) تتعالج من اكتئاب حاد أصيبت به منذ عامين نتيجة الظروف الصعبة المحيطة بها على حسب تعبيرها، فهي تعيش منذ أربع سنوات في سكن للبنات بمدينة اسطنبول،منتظرة الالتحاق بزوجها الذي هاجرإلى أوروبا، تقول إلى “سيريا برس” أن لدى زوجها مشاكل قانونية تعرقل سفرها له، وتعيش على مبلغ ضئيل لايكفي حاجاتها الأساسية، وتشير إلى أنها سمعت عن عشرات المنظمات التي تهتم بالأيتام والأرامل والناجيات من المعتقلات، ولكنها لم تستطع الوصول إلى منظمة تقدم الخدمات للمسنين.
منذ عام تعرضت “أم هشام” لكسر في الحوض ما استدعى حاجتها إلى رعاية طبية خاصة، تقول بحزن “ربنا لاينسى أحد، وضع في طريقي بنات بالسكن وجيران أولاد حلال اهتموا فيني وساعدوني، لكن أنا ضاقت الدنيا بعيوني، البني آدم بدون أهله وعائلته لا قيمة له، صعبة كتير يحملك الغريب، كنت كل يوم أتمنى الموت وأرجع استغفر ربي”.وتضيف “أم هشام” أن لديها بنت أخت في أورفا، ولكن تعقيدات السفر لحاملي “الكملك” وصعوبة الحصول على إذن سفر منعها من رعايتها، وتمنت لو أن هناك دار مسنين قدمت لها الرعاية بفترة مرضها.
بحسب “الجندي” حينما يخفق الفرد في محاولاته للحصول على الدفء والعلاقات الحميمة، فأنه يعزل نفسه ويبتعد عن الآخرين، ويفقد عقلانية التفكير ويتشوش واقعه، ما يسبب له أمراض نفسية تجعله عاجزاً عن تحقيق الحاجات والطموحات، ويصاببالاكتئاب نتيجة الفشل في إرضاء أي من هذه الحاجات،حيث يرى كبار السن أن عالمهم الشخصي يتضمن صعوبات كبيرة تمنعهم من الإنجاز وتحقيق أهدافهم، نتيجة المواقف الضاغطة وعدم الكفاءة، وينزع إلى أن يربط خبراتهبالنظرة السلبية لذاته ويعتبر نفسه منبوذا نتيجة نقص عقلي أو مادي أو خلقي في ذاته.
ويعتبر المسن نفسه غير مرغوب فيه، ويعتقد أن الصعوبات سوف تستمر ودون نهاية، ولا يرى أمامه سوى الإحباط والحرمان والمصاعب والمزاج الاكتئابي.لذلك لابد من إيجاد مفهوم يمثل الحد الأدنى للعدالة، وهي نوع من تكافؤ الفرص بين أفراد المجتمع،وكذلك العمل على خلق مؤسسات تهتم وتقدم الرعاية لهذه الفئة من الناس، فالعزلة الاجتماعية والتهميش الاجتماعي لفئة معينة من المجتمع يتعارض مع مبدأ العدالة الاجتماعية أو الفرص المتكافئة بين أفراد المجتمع. بحسب الخبير النفسي.
انتهاك حقوق الإنسان للمسنين
تُعرف الأمم المتحدة، إساءة معاملة المسنين بأنها “فعل واحد أو متكرر أو غياب الإجراء المناسب، الذي يحدث في أي علاقة يكون فيها توقع الثقة التي تسبب الأذى أو الإحباط لشخص مسن”. يمكن أن تتخذ إساءة معاملة المسنين أشكالًا مختلفة مثل الإساءة البدنية والنفسية والعاطفية والجنسية والمالية. كما يمكن أن يكون نتيجة إهمال مقصود أو غير مقصود.
الالتزامات تجاه كبار السن متضمنة في معظم معاهدات حقوق الإنسان الأساسية. إلاّ أنّه ما من صك دولي مخصص لحماية حقوق الإنسان لكبار السن. ولم يولِ المجتمع الدولي الاهتمام الكافي للعقبات التي تعيق تمتع كبار السن الكامل بحقوق الإنسان الخاصة بهم.بحسب مفوضيّة الأمم المتّحدة السامية لحقوق الإنسان والمسنين.
تزامن اليوم العالمي “15 حزيران“، للتوعية بشأن إساءة معاملة المسنين هذا العام مع حدثين مهمين. الأول هو بداية عقد الأمم المتحدة للشيخوخة الصحية (2021-2030). يمثل هذا بداية عشر سنوات من التعاون المتضافر، مع مختلف أصحاب المصلحة لتحسين حياة كبار السن وأسرهم ومجتمعاتهم. والثاني هو المعلم العشرين للجمعية العالمية الثانية للشيخوخة والاستعراض والتقييم الرابع لتنفيذ خطة عمل مدريد الدولية للشيخوخة. وتتيح فرصة لتوليد زخم متجدد للعمل الدولي للنهوض بجدول أعمال الشيخوخة، وفق “الأمم المتحدة”.
تنص المعاهدات الأساسية في القانون الدولي لحقوق الإنسان على مبدأ عدم التمييز، ومنها الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري، والاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو). واعتمدت الجمعية العامة مبادئ الأمم المتحدة المتعلقة بكبار السن، وفيها 18 استحقاقاً تتعلق بالاستقلالية والمشاركة والرعاية وتحقيق الذات والكرامة، وشددت على أنه يجب توفير فرص للمشاركة والإسهام في أنشطة المجتمع للراغبين والقادرين من كبار السن، وأن تتاح لهم إمكانية الاستفادة من موارد المجتمع التعليمية والثقافية والروحية والترويحية. إضافة إلى وجوب معاملتهم معاملة منصفة.
التمييز القائم على العمر من منظمات المجتمع المدني، حكم على شريحة عريضة من المسنين السوريين في تركيا بالاستسلام للشيخوخة وأمراضها دون رعاية أو خدمات، وجعلهم من الفئات المهمشة التي تعاني الإهمال، لذلك لابد من إنشاء خدمات دعم للمسنين، وإجراء مراجعات لبرنامج وسياسات منظمات المجتمع المدني، وتعبئة الموارد البشرية والمادية اللازمة، فليس بالرصاص وحده يموت الإنسان، بل بالوحدة والعزلة وغياب الاهتمام.
تالا الشيخ _ سيريا برس
“تم إنتاج هذه المادة الصحفية بدعم من “JHR“صحفيون من أجل حقوق الإنسان”.