في كتاب: (التخلف الاجتماعي مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور) يفسر لنا الكاتب الدكتور: مصطفى حجازي الكثير من واقعنا قبل الثورة وأثناءها وبعدها، فيوضح لنا أن ( القهر ) أحد أهم مسببات التخلف الذي نعاني منه، ويتجلى القهر منذ الصغر عندما يخشى الرضيع مثلاً من مفارقة أمه، أو يخشى الطفل من قصاص أبيه…
وتتفاقم حالة القهر لديه عندما لا يحسن والداه التعامل معه فيفرطان في القسوة عليه ولو بهدف التربية ( كما يعتقدان) إذ يختزن الطفل حالات القهر هذه.
ومع تقدمه في السن يتعرض الإنسان لقهر متعدد كقهر رب العمل، رجل البوليس، الحاكم المستبد، إذ لا يجد الإنسان تجاه هذا التسلط سوى الرضوخ والتبعية والوقوع في مركز الدونية كقدر لا يستطيع دفعه، وقد يتطور لديه إحساسه بالقهر ليصل إلى مرحلة فقدانه لإنسانيته، وانعدام الاعتراف بها وبقيمتها، إذ يتحول إحساسه بذاته ليصيح كأنه (شيء) لا (إنسان)…
وتتجلىى علاقة السيطرة والتسلط بين الأب وأبنائه، الرئيس ومرؤسه، بين الرجل والمرأة، بين الكبير والصغير، بين القوي والضعيف، المعلم والتلميذ، رجل الأمن والمواطن، حتى الحب تتجلى فيه أحياناً هذه العلاقة السلطوية رضوخ المحبوب وتسلط الحبيب… إلخ
ويمر القهر بثلاث مراحل:
أولاً: مرحلة القهر والرضوخ:
وفيها يتجذر في عقل المتسلط أن الضعيف لا يستطيع إدارة أموره، أو التحكم بنفسه ومن واجب القوي السيطرة عليه (برزت هذه الفكرة جلية في فيلم الأنيميشن Horton Hears a Who إذ يسمع الفيل صوتاً قادماً من الوردة ويقتنع أن هناك كائنات ضعيفة تعيش عليها ومن واجبه الحفاظ عليها والسيطرة عليها وإدارة شؤونها) …
في هذه المرحلة يساعد الضعيف في المزيد من قهره إذ يقتنع أنه ضعيف، فيزدري نفسه وينقم عليها، ويتهمها بالجبن والتقصير، ويرى في القهر الذي ينزل عليه أمراً يستحقه فيرضخ للقوي، ويكون هذا الرضوخ أحد الأشكال ليضمن لنفسه بعض الإحساس بالأمان
ويتفاوت إحساس المقهور بين الاستسلام التام للقوي وبين العدوانية الخفية تجاه حالته، وتتشكل لديه عقدتان خطيرتان هما:
عقدة النقص، وعقدة العار..
عقدة النقص:
يجد فيها الإنسان نفسه متخلياً عن المواجهة منسحباً مستسلماً، طالباً للسلامة خوفاً من سوء العاقبة، أو يائساً من إمكانية الظفر والتصدي، فاقداً الثقة بنفسه، وبذلك يفقد أهم سماته الإنسانية المتمثلة في قدرته على التغيير الفعال، ويبقى رهيناً للانتظار لحل سحري يرفع عنه التسلط فيزول من تلقاء نفسه، أو ظهور مخلص يخرجه مما هو فيه، ويتعمق لديه شعور الخوف، الخوف من كل ما هو جديد، يخشى التجريب ويتمسك بكل ما هو تقليدي ومألوف..
ويعمل المتسلط على تعزيز عقدة النقص لدى المقهورين وتغذية العجز لديهم، حتى لا يتخذوا زمام المبادرة لأي تغيير..
عقدة العار:
هي نمو طبيعي لعقدة النقص، فالإنسان المقهور يخجل من ذاته ويعيش حياته كعار وجودي يصعب احتماله، إنه يعيش في حالة دفاع دائم ضد افتضاح عجزه وضعفه، فيعيش وهو يحاول إخفاء كرامته المهدورة ، فتجده يكرر في خطاباته عبارات من نوع: بقاء الرأس مرفوعاً، العزة والكرامة وغيرها يستخدمها كحالة دفاعية ليحافظ على ذاته… حتى إننا نجد في المجتمعات المتخلفة يربط الرجل المقهور مثلاً شرفه بالكائن الأضعف منه وهي هنا (المرأة) فيسقط عاره عليها، ويصل به الأمر أحياناً أن يجعل القتل مبرراً تحت ما يسميه جناية الشرف، محاولة منه للفت النظر عن السبب الحقيقي لهدر كرامته، وهو سيطرة النظام الاستبدادي عليه في أغلب شؤون حياته، في الوقت الذي نجد فيه الإنسان العزيز غير المقهور يربط شرفه بما يتمتع به هو من امتيازات وإنجازات، بالإضافة لبسط سيطرته هو على المستضعفين الأقل منه ضعفاً إذ يشعر عندها بالمتعة ساتراً بذلك نقصه وعاره….
ومع عقدتي النقص والعار يضطرب إحساس المقهور بالزمن فتتضخم لديه آلام الماضي وتتأزم معاناة الحاضر، وتنسد آفاق المستقبل، الأمر الذي يزيد حدة التوتر لديه، ويجعله ردود أفعاله متطرفة، مما يقربه من حد الانفجار
كيف يهرب الإنسان المقهور من قهره؟
غالباً لا يجد الإنسان المقهور من حل لما هو فيه إلا الهروب إلى الماضي ، أو الغرق في ممارسات تنسيه واقعه: كالمخدرات ، والسحر والخرافات، أو التمسك بالعبادات الظاهرية : الذكر والزار (القفز والرقص على قرع الدفوف)، أو اجترار الألم في تصوير الواقع المؤلم والاستمتاع بدور الضحية، والذي يتمثل في الأغاني الحزينة والمواويل التي يجتر بها ماضيه وواقعه
ومن المهم أن نعلم أن جميع وسائل الهرب واجترار الألم لا تحل المشكلة ولا تسمح للإنسان المقهور الاحتفاظ بتوازنه النفسي
الأمر الذي يوصله إلى المرحلة الثانية :
ثانياً: مرحلة الاضطهاد:
في هذه المرحلة يكون الإنسان قد وصل إلى درجة عالية من التوتر الانفعالي، ويبدأ بالتفتيش عن مخطئ يحمله وزر العدوانية المتراكمة داخله، فهو لا يكتفي بإدانة ذاته بل بحاجة لإدانة الآخرين ووضع اللوم عليهم، وهنا يصبح الاعتداء بالنسبة له مشروعاً لأنه يتخذ طابع الدفاع عن النفس، وتحطيم الصورة غير المقبولة عن ذاته، والإفلات من ذله، لذا فأقل نزاع بينه وبين أحد يأخذ أبعاداً مضخمة وغالباً ما ينتهي بمأساة، والمشكلة هنا أن الذين ينزل عليهم غضبه أو نقمته ليسوا هم الأعداء الحقيقيين بل يمكن أن يكونوا من أقرب الناس إليه ( عائلته – أصدقاؤه…)
ثالثاً: مرحلة التمرد والمجابهة:
هنا يكون العنف هو السبيل الوحيد ليتخلص المقهور من عقدتي النقص والعار، وليتخلص من خوفه، وينأى بنفسه عن الكسل والاتكالية والاستسلام، وليرد إليه اعتباره في نظر نفسه، إذ يجد في العنف السبيل الوحيد ليعبر عن نفسه وعن حقه في الوجود، وهذا ما يسميه علماء النفس رد الفعل الذي يتلخص في الخيار بين الفناء أو المجابهة، فالكائن الحي يهرب عندما تكون هناك فرصة للنجاة، ولكنه عند انعدام هذه الفرصة يتحول الضعف إلى قوة، فيستميت في الدفاع عن وجوده، وهو بذلك ينتصر على ذاته قبل انتصاره على قوى القهر…
وهنا تتغير دلالاته عن ذاته من سلبية مطلقة إلى إيجابية مطلقة، ومن أشد درجات التبخيس إلى أقصى درجات التقدير، وبدل عقدة النقص تبرز عقدة التفوق والاستعلاء، وبدل العجز والاستسلام تبرز عقدة الجبروت، فيزدري كل قيمه السابقة، ويشعر بالحاجة لكسر كل القواعد التي حكمت حياته، وتسود في هذه المرحلة مشاعر التفاؤل المفرط ، وهنا يقع في مطب النتائج السريعة، إنه يريد أن يرى النتيجة بأقصى سرعة ليعيد توازنه واعترافه بذاته، الأمر الذي يكون عائقاً في كثير من الأحيان بينه وبين بلوغ هدفه لما تحتاجه مواجهة القهر من نفَس طويل ومدة زمنية … كما يقع في مطب آخر وهو قلب الأدوار إذ يتحول الإنسان المقهور هنا إلى متسلط فيمارس هو البطش والتعالي والتعسف ويستغل قوته في التحكم بالآخرين، وكذلك يقع في مطب عشائرية العمل الثوري إذ تفتقد ثورته للنظريات الثورية وتكون مجرد ممارسة عنفية ترفض واقع القهر الذي كان عليه، الأمر الذي يجعل تمرده يتسم بالتخلف وعدم قدرته على التغيير الحقيقي…
انتهى
برأيي الشخصي هذه المراحل الثلاث وما ينجم عنها من عقد هو تسلسل عام لكل ثورة تحدث في حياتنا سواء على نطاق حياة الفرد أو المجتمع ، سواء فيما يتعلق بثوراتنا الشخصية في حيواتنا الخاصة أو ما يتعلق بشعوبنا تجاه ما نتعرض له من قهر سلطوي تمارسه الأنظمة علينا …
ويحضرني هنا قول الفيلسوف “نيتشة” في كتابه: الحكمة الشريرة: ( الآلامُ المديدةُ والكبيرةُ تُربي الطاغيّةَ في الإنسانِ.)
الكاتب: سهير اومري/ سيريا برس