أفرزت الحالة السورية التي أعقبت انطلاق الثورة حالة من الفورة الإعلامية، إذ كثُرت المنصات الإعلامية والعاملين في حقل الإعلام سواء من الأكاديميين أو النشطاء أو ممن وجدوا في الإعلام مهنة لهم في ظل الفضاء المفتوح، ساهم في ذلك عاملين هامين:
الأول هو السوشال ميديا وانفتاح الفضاء الإعلامي على الجمهور وبالتالي سهولة الوصول للمتلقي ومعرفة التغذية الراجعة، دون المرور بما يسمى إعلامياً حارس البوابة، حيث لا رقيب على الكلمة سوى ضمير كاتبها.
الثاني هو المال السياسي والذي أغدق على مؤسسات إعلامية كثيرة حتى تحولت إلى ناطقة باسم الجهات التي تدعمها.
هذه الحالة وإن كانت صحية من جهة انتشار المعلومة ووصول الخبر للمتلقين , إلا أنها أفرزت حالات من الاستخدام غير اللائق المشروع للكلمة , كما عززت خطاب الكراهية واستخدام الإعلام كإحدى أدوات الصراع البيني، ما أدى لزيادة التنافس والشرخ المجتمعي.
هذا التحول برسالة الإعلام وهو أمر طبيعي في حال الصراعات إذا بقي ضمن الضوابط الإعلامية والأخلاقية والقانونية وإن كان بالحد الأدنى، وبغية ضبط العملية الإعلامية حتى لا تنجر لخطابات قد تؤدي للانقسام، كان لابد من إيجاد ضوابط ليست رقابية على الكلمة ولكن حارسة لرسالة الإعلام من خلال إيجاد أنظمة للتعامل مع الانفلات الإعلامي غير المنضبط.
على الرغم من أن الإعلام السوري المستقل /المعارض/ والذي انطلق مع بداية الثورة السورية، كان دائماً يقترب بشكل كبير من المهنية والموضوعية ويحاول قدر الإمكان الابتعاد عن الخطاب التقليدي لـ “إعلام السلطة” وبالتالي ابتعاده عن الخطاب التحريضي وخطاب الكراهية واستخدام صيغ التمجيد والدفاع عن انتهاكات السلطة، بل على العكس فقد انتهجت المؤسسات الإعلامية نهجاً جديداً وغير مألوف للمتلقي في تطبيق عمليات النقد والنقد الذاتي، ومع ذلك وبغية الوصول لصيغة أكثر مثالية فقد كان البحث عن ترابط ما بين المتلقي والجهة الإعلامية كان لا ُبدَّ من اتخاذ خطوات أخرى.
من هنا جاءت مبادرة ميثاق شرف للإعلاميين السوريين في إطلاق نظام للشكاوى وتشكيل لجنة لاستقبال الشكاوى حول المحتوى الإعلامي وخطاب الكراهية متضمنة عدة أهداف.
هدفها الرئيس هو تعزيز ثقافة المساءلة لدى الجمهور من جهة ونشر الوعي بنظام الشكاوى بين المؤسسات الإعلامية.
وبالتالي الوصول لجمهور يمارس حقه برفض الانتهاك بحقه من قبل المؤسسات الإعلامية، وثقافة تقبل النقد والشكاوى من قبل هذه المؤسسات.
هذا النظام هو أحد الوسائل المهمة للتخفيف من الانتهاكات بحق جمهور المتلقين سواء كانت هذه الانتهاكات مقصودة أم لا.
ويتم ذلك دون وجود حالة وصائية على المؤسسات الإعلامية، لكن بذات الوقت توسيع الحالة الرقابية وتحويلها إلى سلوك شعبي دون التدخل بعمل هذه المؤسسات بل على العكس مساعدتها في الوصول إلى أعلى حالة من الشفافية والنزاهة وتحري الدقة في الخبر والمعلومة، وإضفاء حالة من التوازن بين المؤسسة الإعلامية والمتلقي.
ولعل أبرز ما جاء في التعليمات التنفيذية لنظام الشكاوى هو ما يتعلق بطبيعة عمل اللجنة وكيفية إصدار قراراتها وكيفية تطبيقها حيث وحسب التعليمات التنفيذية فإن اللجنة تستمد سلطتها من المرجعيات الأخلاقية والأعراف المهنية لمهنة الصحافة وجميع قراراتها ذات إلزام أخلاقي وأدبي وهي غير ملزمة قانونياً.
مما يعني أن عمل نظام الشكاوى الهدف منه تعزيز الرقابة الذاتية دون التلويح بالعقوبات الإجرائية، مما يدفع الصحفي أو المؤسسة لإجراء مراجعات ذاتية لسياساتها التحريرية لتواكب متغيرات الواقع الإعلامي والعملي على الأرض، مع زيادة المعرفة لدى الجمهور، وزيادة الإدراك لدى المتلقي حول حقوقه، مما يعني زيادة هذه المؤسسة في معرفة ما هو مطلوب منها، مما ينتج عنه تنظيم العلاقة بين وسائل الإعلام والجمهور المتلقي والوصول لحالة تفاعلية تدفع بالعمل الإعلامي لأن يكون أكثر مهنية ومصداقية.
يُعتمدُ الميثاق أساساً للوصول لمادة إعلامية جيدة وخالية من الأخطاء التي تقع بها المؤسسات الإعلامية عادة من حيث الدقة والوضوح، إذ يستند على معايير معينة للمادة الإعلامية أهمها:
1-الدقة والصحة والوضوح: إذ يجب أن تكون المادة دقيقة وواضحة وبعيدة عن المغالطات والمبالغات والافتراضات على مستوى اللغة والبيانات والشواهد، كذلك الاعتماد على مصادر موثوقة وأن تكون المادة محققة ومدققة ودقيقة في نقلها عن المصادر، وتوخي الحذر في نشر الأخبار المؤثرة في الشأن العام وكذلك عند نشر المواد البصرية والصور والفيديوهات.
2-النزاهة وعدم التحيز والتمتع بأكبر قدر من الأمانة الصحفية.
3-احترام الخصوصية: سواء كان بالمجتمع أو الأشخاص أصحاب الحدث أو من وقع عليهم الحدث، مع الوضوح التام معهم ووضعهم في صورة ما يتم نشره بكل وضوح ودقة.
4-احترام الحقوق الفكرية: للمؤلفين والمنتجات والمواقع الإلكترونية ووسائل الإعلام الأخرى.
5-حماية المصادر: وهو أحد أبرز مهام الصحفي أن يقوم بحماية مصادره وعدم إفشاء أسرارهم وإنصافهم وعدم تغيير وتشويه ما يقولونه، وعدم التسبب بأي ضرر لهم.
6- تجنب السب والشتم والقدح والذم واستخدام لغة راقية ومهذبة.
7-عدم التمييز في نقل الخبر بين المجموعات أو الأفراد على أي أساس كان.
8-احترام كرامة الضحايا وعدم إظهارهم بصور لا تليق بإنسانيته.
9-عدم التشجيع على العنف أو التحريض على الجريمة أو انتهاك القانون.
10-عدم التنميط سواء للأفراد أو المجتمعات أو الجماعات.
11-تجنب الافتراء والتجني.
12-المسؤولية تجاه الأطفال.
13-عدم الإيذاء وتجنب الضرر.
إن مخالفة أي مما سبق قد يضع المؤسسة الإعلامية المخالفة تحت طائلة المسؤولية وبالتالي يحق للمتضرر الشكوى للجنة الشكاوى.
النقطة الأبرز التي يركز عليها نظام الشكاوى وذلك عبر عمل لجنة الشكاوى هي أنه لا يشكل حالة من الوصائية أو الرقابة التقليدية التي تمارس الوصاية والاستبداد والانتقائية كما هو الحال في اللجان الرقابية في سلطات الاستبداد، وإنما هو حالة تحفيزية وتعليمية من خلال تحفيز المؤسسات الإعلامية على تطوير أدواتها وخطابها الإعلامي، وتحفيز وتعليم المتلقي على ضمان حقوقه من خلال متابعة عمل هذه المؤسسات، فيتعلم المتلقي كيف يحافظ على حقوقه، وتعمل المؤسسات الإعلامية على ضمان تلك الحقوق وعدم انتهاكها، بذات الوقت هدفها الأساس الارتقاء بالعمل الإعلامي وتنقيته من الشوائب التي علقت به نتيجة تأثره بالصراعات التي تشهدها الساحة السورية وكذلك التداخلات الأيديولوجية والمصلحية التي تؤثر بشكل أو بآخر بالإعلام ففي نهاية الأمر الإعلاميون هم جزء من هذا المجتمع بكل تناقضاته وإفرازاته، لذلك فإن عملية تحييد الإعلام عن هذه الصراعات هو عملية شاقة يمثل إطلاق نظام الشكاوى جزء وركن أساس فيها، وهو إضافة مهمة لعمل الميثاق والذي يسعى بالوصل للحالة الإعلامية إلى مستويات شبيهة بمثيلاتها في العالم الذي تحكمه الديمقراطية وحقوق الإنسان.
المصدر _ الشرق نيوز