بعد صراع مرير بين جماعات مسلحة مشتتة ومختلفة الأجندات ومدعومة خارجيا، وقوة عسكرية ـ ميليشياوية تتبع لنظام الحكم مدعومة من قوى خارجية أيضا، يمكن توصيف سوريا الضعيفة على أنها كيان مادون الدولة الفاشلة قياساً إلى حالة الفقر والقتل والتهجير والعجز وانعدام القدرة على اتخاذ قرار مستقل.
وليس صحيحاً عدم قدرة الحراك المدني والنخب السورية على إنتاج بدائل للحكم بدعم شعبي، إلا أن ذلك الحراك تعرّض للخديعة من أطراف دولية وإقليمية، وحتى من شركاء محليين، أضف إلى ظاهرة الاختراق والتصفية التي مارسها النظام مستخدماً الجهاز الوحيد الذي بقي على قيد الحياة بعد دمار هياكل الدولة وهو جهاز الأمن والاستخبارات، ولعل بقاء هذا الجهاز بفروعه المتعددة أمر مفهوم نظراً لملكيته الحصرية لدى دائرة الأسد الضيّقة، وكذلك اعتياده أن يعيش ظروف الصراع حتى بدون ثورة ولا حرب، فهو متمرس ويملك ملفات تكاد تغطّي كل مواطن.
ولم تكن فكرة فاسدة إنشاء قوى للمعارضة مثل المجلس الوطني ووريثه الائتلاف واللجان المنبثقة عنه، لكن الفساد تمثّل في ترميز هذه المؤسسات، وانقسامها لصالح منصّات تمثل كلّ منها صراعا منفصلاً بين دول وقوى في غير مكان، وهذا ما جعل تلك المؤسسات بيئة نابذة لكثير من النخب وخبرات “التكنوقراط” التي لا يمكنها الغوص في وحل الاستقطابات.
مرّ وقت وصلت فيه المناطق الخارجة عن سيطرة النظام إلى ما يزيد عن 80 بالمئة من مساحة البلاد، وتركت تلك المناطق نهبا للمجموعات الدينية والأحزاب والتنظيمات ذات التوجهات المناطقية والهويات القومية، وكان مخططا أن تقوم كل تلك القوى بتصفية بعضها البعض، وانسحبت كارثة الفوضى على البيئات المحلية التي لم يسمح لها التعبير عن نفسها خارج تلك القوى، وكان لا بد لكل مواطن من أن يحمل هوية موازية لضمان أمنه الشخصي، واستمرّ العبث بتركيبة المجتمع وصولاً إلى تفكيكه.
لم يكن الحال أفضل في مناطق سيطرة النظام التي لم تخرج عن طوعه أو عادت تحت سيطرته بدعم خارجي، حيث ارتفعت جدران الخوف تحت القبضة الأمنية، وانهارت الأوضاع الاقتصادية حتى بات معظم الناس تحت خطّ الفقر وفق إحصائيات منظمات متخصصة منها ما يتبع للأمم المتحدة.
خارج البلاد هام الملايين من السوريين على وجوههم، في مخيمات اللجوء بدول الجوار، وركب مئات الآلاف قوارب الموت هربا نحو حياة أفضل، ومنهم من عبر الصحراء بين الجزائر والمغرب، وصار للسوريين جاليات في دول لم تعرفهم من قبل.
أمام هذا التشتت، وجد السوريون أنفسهم أمام ثلاثة أنظمة حكم، الأول بشار الأسد وما شابهته من أنظمة محلية وقوى أمر واقع، والثاني نظام قوى المعارضة التي أصبحت شريكاً لنظام الأسد في المسألة السياسية على المستوى الخارجي، يلعبان معاً، إذ يبدو الأسد سعيداً بمعارضة تملك موقعا إلكترونيا ويتداور قيادة ائتلافها مجموعة من المتخثرين الذين لا يمتلكون خبرة العمل السياسي، ويجري تركيب شرعيتهم بطريقة ساذجة يعلمونها هم ويعلمها الأمريكيون والروس وما حولهما، وهي معارضة غير مقتنعة بنفسها، لكنها لا تستطيع أن تبرح المنصّة، وهي منشغلة بسبب الفراغ برسائل المناصرة لحكومات وقضايا لا تتقاطع مع مهمتها، ولا يسمع عنها السوريون ـ وهي تمثلهم زعماً ـ إلا وهم يحملون المقصّات بشكل جماعي، وعندما يخرج شخص مثل نصر الحريري ليؤدي قسماً للشعب السوري يتعهد فيه بأن لا يخون مبادئ الائتلاف.
أما نظام الحكم الثالث، وهو الكارثة الكوميدية بعد أن فقد السوريون رغبتهم بمشاهدة الأسد والحريري والاستماع لهما، وهو نظام “الشرتح” الذي اجتاح وسائل التواصل الاجتماعي، وجذب الملايين للمشاهدة والاستمتاع والتندّر، وهو أمر طبيعي لشعب يريد أن يهرب من الواقع المرير إلى النكتة، وهو تعبير عميق عن مدى استياء السوريين وفقدانهم الثقة بكل أنماط القيادة والإدارة العسكرية والسياسية لكلّ الأطراف، إنه هروب وجداني من اليأس والإحباط وعدم وجود ضوء في آخر النفق.
ثلاثية الأسد ـ الحريري ـ الشرتح هي معادلة الواقع الذي لا يمكن إنكاره، وإن كان الشرتح ضحيّة، فهو مجرد ترميز لعالم ساخر لا يخضع للمنطق، وهو في ذات الوقت تعبير عن الرغبة بالقفز فوق الواقع، إنه خيار مواجهة الأسد القاتل والحريري التائه بالكوميديا السوداء.