سنوات طويلة، بقي الهجومُ الخطابي على إسرائيل أبرز أدوات النظام السوري للوصول إلى الشرعية المطلوبة في الداخل. ومع الوقت، تحوّلت “النبرة المُعادية” إلى ظاهرة إشكالية مليئة بالشكوك، وهي لذلك زائفة، وليست واقعية كما يراها كثيرون. وثمّة من يؤكد أنّ حافظ الأسد أشار سرّاً خلال مفاوضات السلام مع إسرائيل في شيبردزتاون، غرب ولاية فرجينيا الأميركية، إلى أنّه مستعدٌّ لقبول اتفاقية سلام، حتّى من دون أن يكون الصراع الإسرائيلي الفلسطيني قد حُلّ على نحوٍ مرضٍ. بدوره حاول بشار الأسد تجاوز الخطوط الحمراء قدر ما يتطلبه تشابك المصالح والمنافع، ففي خطابه في القمة العربية في عمّان، على سبيل المثال، قال: “إن المجتمع الإسرائيلي أكثر عنصرية من النازية”، بعد ذلك بشهرين، انزلق في معاداة السامية عندما أشار إلى اليهود بوصفهم قتلة المسيح. وعلى الرغم من خطاباته الملتهبة، فسح التضامن مع الفلسطينيين المجال للبراغماتية السياسية في حالات الخطر، إذ تشرّب الأسد الابن شعار أبيه: “أذعنْ قدر اللزوم، وأصرّ قدر الإمكان”. لذا تراوح موقفه من القضية الفلسطينية بين الاستعداد للمساومة والتشدّد الأيديولوجي. ومع ارتفاع التوترات، صارت كلّ حادثة سورية تطاول إسرائيل موضوع تمحيص عام على مستوى العالم، كما حدث لدى أول مصافحة بين رئيس سوري ورئيس إسرائيلي خلال تأبين البابا جون بول الثاني عام 2005 في روما. وعندما تصاعدت التخمينات والاتهامات، سارع السوريون إلى توضيح أنّ هذه الإيماءة لا تعدو كونها إجراء شكلياً.
قرّرت دمشق، على ما يبدو، المغامرة بالانفتاح على كلّ مبادرة عربية، من أي جهةٍ جاءت، وعدم رفض أيّ دعوة إلى التواصل
بداهة، وعندما نتحدّث عن “العلاقة الجدلية” بين إسرائيل وسورية، نبدو كمن يصف شبحاً لا ملامح له، ولا نستطيع التقاط أبعاده وزواياه، ما يدفعنا إلى الجزم يقيناً بأنّ زيارة وزير الخارجية الإماراتي، عبدالله بن زايد، دمشق، أخيرا لم تمثل فقط حدثاً مفصلياً في إطار عودة العلاقات السورية مع الدول الخليجية خاصة، والعربية عامة، إنما سحبت “ميكانيكياً”، وبحكم تناقض سياستي البلدين تجاه إسرائيل، كمّاً هائلاً من التساؤلات والتكهنات، لتغطي جميع المعطيات السياسية الراهنة. وعلى الرغم من أنّ الإمارات سعت إلى ما هو أبعد من التطبيع في التعاطي مع تل أبيب، إلا أنّ هذه العلاقة الحميمية لم تشكل أمراً جللاً بالنسبة للأسد، على الرغم من مخالفتها السياسة السورية التي تعتبر إسرائيل عدواً مباشراً، ظاهرياً على الأقل. وفي الحقيقة، وباستثناء “شرعية النظام وبقائه”، ليس ثمّة من قضيةٍ تمكن مناقشتها اليوم في سورية، فالمراجعات شملت كل شيء، حتى الشعارات الرنانة عن “المقاومة والممانعة” التي كانت تصدح عالياً في الخطابين السياسي والإعلامي السوريين، تكاد لا تحضر حالياً، أقلّه بالزخم ذاته الذي رافق الأزمة في بدايتها. ووفق هذه الأولوية، قرّرت دمشق، على ما يبدو، المغامرة بالانفتاح على كلّ مبادرة عربية، من أي جهةٍ جاءت، وعدم رفض أيّ دعوة إلى التواصل. على هذا، يُطرح السؤال الجوهري: هل تمثل المبادرة الإماراتية مؤشراً واضحاً لبدء تطبيع “حتمي” قادم بين سورية التي تخضع لنفوذ إيراني من العيار الثقيل، ولعلاقاتٍ “استراتيجية” مع حزب الله، وإسرائيل التي لم تتوقف عن استهداف سورية بعشرات الضربات الجوية الموجعة، ناهيك بالطبع، عن أنّها أعلنت عن ضمّ هضبة الجولان رسمياً لـ”سيادتها”؟.
الأسد الذي نجا بأعجوبة من حرب العشرية السوداء، وعلى الرغم من أنه ألبس إسرائيل كلّ شرور الدنيا، يدرك أنّ بقاءه في السلطة إنما يتطلب انتهاج مقارباتٍ أخرى
ضمن هذه السياقات، ظلّ الاعتقاد السائد في المنطقة أنّ دمشق ستكون آخر دولة عربية تُبرم سلاماً مع إسرائيل. وهذا فهم ساذج ومسطّح لا شكّ، وما بدأ يتسرّب، أخيرا، من معلومات وأخبار، تدفع جميعها على الاعتقاد، بأن “بقاء الحال السوري من المُحال”. فالأسد الذي نجا بأعجوبة من حرب العشرية السوداء، وعلى الرغم من أنه ألبس إسرائيل كلّ شرور الدنيا، لتصفق له جموع السوريين، يدرك أنّ بقاءه في السلطة إنما يتطلب انتهاج مقارباتٍ أخرى، ويبدو التطبيع مع إسرائيل واحدة منها. يشجّعه على ذلك حليفه الروسي الذي بات يلعب دوراً أساسياً في صناعة القرار السوري بناء على كتلةٍ متحركةٍ من التحالفات والمصالح، ويشكّل، بطبيعة الحال، عنصر التوازن لـ”النفوذ الإيراني” على الأرض السورية.
وموسكو التي تدرك جيداً أنّ تاريخ الصراعات لا يحفل كثيراً بالمواقف الأخلاقية والوطنية، تؤمن أيضاً أنّ إسرائيل قرصانُ المنطقة الأقوى الذي يراهن على تبدلات أمواه السياسة الغادرة، لقنص ما أمكن من المكاسب، عند هذه النقطة بالذات، تعرف أنّ السلامَ بين سورية وإسرائيل بوابةُ دمشق الأوسع، للخروج من نفق العقوبات الدولية التي تكاد تغرقها مع حليفها في المستنقع الاقتصادي السوري. وفي هذا السياق، تتواتر تسريباتٌ عن لقاءات سورية – إسرائيلية، جرت في غير عاصمة، وتحت الرعاية الروسية، إن في حميميم أو في قبرص أو موسكو. ولا يستبعد مراقبون أن تلعب عواصم عربية دوراً في جهود “الوساطة” بين الطرفين. وهنا يُشار، بشكل خاص، إلى دورٍ “خفي” يمكن لأبوظبي القيام به، أو أن تكون قامت به فعلاً. أكثر من ذلك، ما زالت أصداء مقابلة سابقة لبشار الأسد مع وسائل إعلام روسية تتردّد في الأوساط الإسرائيلية، حين اشترط التوصل إلى اتفاق سلام مع إسرائيل بانسحابها من الجولان، فضلاً عن عدم تعقيبه على انطلاق المفاوضات اللبنانية الإسرائيلية لترسيم حدودهما البحرية. ما يعزّز هذه “النيّة المبيّتة” خروج رامي مخلوف بداية الحرب السورية ليدلي بتعليقه الأشهر: “أمن إسرائيل من أمن النظام السوري”، في رسالةٍ واضحةٍ إلى وجود علاقةٍ أمنيةٍ غير معلنة تربط سورية بإسرائيل. على الصعيد ذاته، يعيد تزايد الحديث عن جهودٍ عربية ودولية تجري لتطبيع إسرائيلي سوري، إلى الأذهان، صفقة تبادل الأسرى بينهما عام 2019، بشأن استعادة رفات الجندي الإسرائيلي، زخاريا باومل، مقابل إطلاق سراح أسيرين سوريين. صحيحٌ أنّ ما حصل يبدو صفقة متواضعة، لكن دلالاتها السياسية أكبر من أن تخطئها العين، فالجميع يعلم أنّ بوتين لا يقدم وجبات سياسية مجانية، ولا بدّ لمن يتسلّم البضاعة الإسرائيلية أن يدفع ثمنها.
يبدو أنه ليست فلسطين وحدها باتت بعيدة عن أعين السوريين، بل أيضاً سورية نفسها
لبّ القول هنا أنّ نظام الأسد اتخذ من القضية الفلسطينية ركناً استراتيجياً في البروباغندا الإعلامية، ووظفها في توطيد دوريه، العربي والدولي، كما عمل على شقّ الصف الثوري وضرب الشرعية الفلسطينية تحت شعارات الحفاظ على الثوابت التاريخية، معتمداً في ذلك على الدوافع السياسية لنهجه، المتمثلة بحسابات الداخل وبازارات الخارج، ليضمن وجوده لاعبا إقليميا حاسما في المنطقة برمتها. في عام 1948 كان لواء مؤلف من 1876 جندياً أوّلَ الداخلين إلى فلسطين، ليشتبك على الفور مع التنظيمات الصهيونية. وعلى الرغم من انعدام خبرته ونقص عتاده، فاق هذا اللواء في إقدامه الجيوش العربية الأخرى، وكان الوحيد الذي اخترق التحصينات اليهودية واحتل مساحة امتدت من بركة الحولة إلى بحيرة طبرية. هذا ليس مشهداً حماسياً من فيلم عربي مؤثر، إنه “اللواء السوري” الذي استمات في القتال لأجل فلسطين، مجسّداً الصورة الحقيقية لشعبٍ حرّ أصيل، تحوّل اليوم إلى عبدٍ ذليل لطوابير الخبز والبنزين والغاز. ويبدو أنه ليست فلسطين وحدها باتت بعيدة عن أعين السوريين، بل أيضاً سورية نفسها التي ما إنْ تبحث عنها على “غوغل” وتُرفقها بكلمة حرب، حتّى تُختصر بصورة والد محنيّ الظهر، يحمل بين يديه ابنه المصاب، وتحيط به ناطحات سحاب من الدمار والأبنية التي تهاوت شرفاتها وجدرانها.
عبير نصر _ العربي الجديد