جاءت تصريحات الرئيس الفرنسي حول ظاهرة الانعزالية أو الانغلاق في بعض المجتمعات المحلية لتفتح الباب على تساؤلات عديدة حول هذا الأمر وعلى الرغم من أن ظاهرة الانعزالية لا تقتصر على منشأ ديني، فهي قد تكون ذات منشأ طبقي وفق الحالة المادية للشرائح المجتمعية أو منشأ قومي أو جندري أو أيديولوجي حزبي أو مناطقي وفق الانتماء لمنطقة جغرافية ما او مدينة محددة أو منشأ ديني على تعدد الأديان، لكن التوجه الأكبر للبحث في ظاهرة الانعزالية من منشأ ديني تبدو ذات أولوية لطرحها للنقاش بموضوعية والنظر في أسبابها ونتائجها وسبل معالجتها في المجتمعات المتنوعة.
تعتبر فرنسا دولة علمانية بمعنى حيادتيها تجاه كافة الأديان وحمايتها لحقوق المواطنين بحرية الإيمان والمعتقد وممارسة الشعائر ووفرة المستلزمات الخاصة التي تسمح بممارسة الشعائر الدينية كما تتيح لمواطنيها تطبيق واتباع تعاليم دينية متعلقة بطريقة الطعام والشراب وغيرها، فنلحظ على سبيل المثال أن المنتجات المصادق عليها بكونها حلال متوفرة بشكل مناسب ونلحظ أن المدارس والمطاعم التابعة للمؤسسات توفر دوماً بدائل للوجبات التي تحوي لحوماً محرمة وفق تعاليم دينية محددة كما تؤمن بدائل مشتريات لجميع أنواع الأطعمة التي تحتوي منتجات لا تتوافق مع هذه التعاليم. إضافة الى توفر اماكن العبادة والدفن التي تضمن احترام جميع المعتقدات ويعتبر هذا النموذج هو الأكفأ لإدارة التنوع الاثني والديني المتواجد ضمنها وهو النموذج الذي نجح الشعب الفرنسي بانتزاعه من قبضة تحكم الكنيسة في المجتمع في حقبة ما قبل الثورة الفرنسية.
وعلى الرغم من رفض ونبذ المجتمع الفرنسي لتحكم الكنيسة في السلطة والحكم والبلاد والفصل الكامل بينهما منذ الثورة الفرنسية لكن ذلك لم يلغي من وجود الدين المسيحي في المجتمع من حيث استمرارية وجود الكنائس لكافة الطوائف وإقامة الصلوات والاحتفال بالأعياد وعمل المنظمات الخيرية التي تهتم بمساعدة الفقراء واللاجئين والمحتاجين وغير ذلك من مظاهر قائمة ضمن المجتمع المدني أي بعيداً عن أي إمكانية للتحكم بالسلطة أو للسعي للحصول عليها وبعيداً عن التمييز الإيجابي أو السلبي أو التناقض مع قيم الدولة العلمانية التي تضمن بدورها احترام وحرية هذه المعتقدات.
يشير ذلك الى أن الازمة لا تتعلق بالدين بحد ذاته، كمفهوم يرتبط بحرية الفرد الشخصية فيما يعتقد ويؤمن ويفكر، بل تتعلق فيمن يوظفون الدين كأداة وصول للسلطة وأداة تحكم بالسلطة وبالفصل بين هاذين المفهومين تكون المعادلة أقرب للاحتفاظ بجوهر ما تتشارك به الأديان من قاعدة قيمية واخلاقية مشتركة وفصلها عن كل مفاصل التحكم بالسلطة والسياسة والدولة وتحويلها لأداة تحكّم وهيمنة.
ورد في هذا السياق نقاط هامة في خطاب الرئيس الفرنسي منها تأكيده على عدم الخلط بين المسلمين وبين التيارات الراديكالية لكن وضوح الفرق بين الدين والتوظيف السياسي له كان يستحق تعمقاً أكبر، كذلك غاب عن حديث الرئيس الفرنسي تأثير خطاب اليمين المتطرف في دفع المسلمين للتوجس والانغلاق ووضع ضوابط قانونية لهذا الخطاب المتطرف المُسبب والمُستخدم في كثير من الأحيان للتصعيد والاستقطاب هو أمر لا يقل أهمية عن أي ضوابط تسعى للحد من ظواهر انجراف الشباب الفرنسي من الجاليات المسلمة في أي توجهات متشددة. ورغم اغفاله ذكر خطورة الخطاب المتشدد المناهض للإسلام والمناهض للهجرات وغير ذلك الا أن الطروحات المقدمة من الرئيس ايمانويل ماكرون بحد ذاتها لم تسلم من هجوم اليمين المتطرف والذي اتهم الضوابط المقترحة من قبله بكونها تفتقد للشجاعة من جهة وبكونها عديمة الفاعلية أيضاً وبأنه ينقصها منع تمويل المساجد أو منع الجنسية الفرنسية للانعزاليين وغير ذلك من انتقادات تذهب نحو تعميق الانعزالية عوضاً عن علاجها.
من جهة أخرى نوه الخطاب الى إدراك متأخر لخطورة الفصل المكاني بين المجتمعات المحلية وخطورة التجمعات السكانية التي تتركز بها فئات محددة وتنعزل عن بقية المجتمع الفرنسي بالمدارس والمعاهد وكافة الفضاءات التي قد تشكل جسور انفتاح عوضاً عن أن تتحول لحواجز مجتمعية وفكرية، لا بد أن استدراك هذه التوجهات سيكون امراً عالي الأهمية على الصعيد الفرنسي وسيساهم في تفادي نتائج سلبية نجمت عنه لكنه يقودنا بشكل مباشر الى التأكيد والى التمسك بقوة الى أن هذا الاستدراك لخطورة سياسة الفصل المكاني بين الاثنيات، والتي اثبتت فشلها ليس في فرنسا وحسب، يجب أن يكون نتيجة وعبرة ثابتة للتطبيق على كافة المستويات وبالتالي ألا يشكل نموذجاً وسياسة يعمل المجتمع الدولي على تطبيقه في بلدان الشرق الأوسط عبر محاولات خلق مساحات مكانية منفصلة اجتماعياً، اثنياً، دينياً، أو قومياً والتي تعاكس البيئة الطبيعية للتنوع المجتمعي القائم على أسس تاريخية وجغرافية في مجتمعاتنا فمثل هذا الفصل المكاني سيبقي المنطقة بحالة كمون لاندلاع صراعات بينية فيما بينها تستهلك مواردها البشرية والاقتصادية وتمنع عنها الاستقرار والتقدم، فهذا التنوع الوظيفي ضمن الأطر المكانية يضمن عدم تنامي أي ظواهر متطرفة ككتلة صماء كي لا تصبح تدريجياً سجناً خانقاً لأبنائها تمنع عنهم الانفتاح والعبور تحت وطأة فضاء أيديولوجي مغلق، هذا التنوع الذي نسعى لاستمراريته في سوريا ايضاً عبر تشكيل اطر إدارة تضمن حمايته وتوظيفه نحو الاستقرار والتناغم وليس نحو الاختلاف والصراع.
الكاتب : د. سميرة مبيض_ نواة سوريا