syria press_ أنباء سوريا
تسببت الحرب السورية، إلى المآسي البشرية والاقتصادية الكثيرة المعروفة، بأضرار بيئية خطيرة، وهي إحدى صور الدمار الذي لا يحظى بقدر كبير من الاهتمام، مع أنه يخلف تأثيرات سلبية طويلة الأجل في الصحة العامة والاقتصاد وعملية السلام نفسها، ولا بدّ أن يكون عنصراً محورياً في أي جهود ترمي إلى الإغاثة أو إعادة الإعمار في مرحلة ما بعد الصراع.
والضرر البيئي ليس مجرد أثر، بقدر ما أنه أيضاً من الدوافع المؤججة للصراع؛ فقد تبين أن الظروف البيئية السيئة التي مُنيت بها سوريا قبل الحرب هي من العوامل التي ساهمت في نشوب الصراع المُسلح. ويشمل ذلك على وجه التحديد سوء إدارة النظام للموارد الطبيعية والنفايات، واستجابته غير الوافية تجاه التلوث الناجم عن التعدين، وقسوة الجفاف الذي حدث في الفترة بين عامي 2006 و2010، والذي ألحق الضرر بالقطاع الزراعي (الذي يُشكل 25 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي)، فضلاً عن ارتفاع معدلات البطالة، وتفاقم انعدام الأمن الغذائي، وما أسفر عن ذلك من موجات هجرة جماعية نحو المراكز الحضرية. ومع ارتفاع معدل النمو السكاني، أدت ندرة المياه إلى تعاظم خطر زعزعة الاستقرار السياسي.
لقد خلف عقد من الحرب آثاراً بيئية خطيرة بسبب كثرة استخدام الأسلحة المتفجرة، والأضرار التي لحقت بمصافي تكرير النفط، وسوء إدارة النفايات والمياه، وبخاصة في المناطق ذات الكثافة السكانية العالية.
جسيمات دقيقة
عانت سوريا من مستويات عالية من تلوث الهواء حتى قبل اندلاع الصراع. فقد تعرض 69 في المئة من السكان عام 2010 إلى مستويات عالية من “الجسيمات الدقيقة” (التي يبلغ قطرها أقل من 2.5 ميكرومتر PM2.5) ناتجة عن الانبعاثات الصناعية وعوادم المَرْكبات، وإحراق النفايات، والتلوث الموسمي؛ وساهمت الجسيمات الخطرة في الإصابة بأمراض مزمنة ومشكلات تنفسية، وأدت إلى الحاجة إلى العلاج داخل المستشفيات، وارتفعت هذه النسبة إلى 72 في المئة من السكان مع بلوغ الحرب ذروتها عام 2015. ومع أنه من الصعب للغاية إثبات وجود مثل هذه العلاقة السببية- لا سيما في ظل غياب البيانات الدقيقة الخاصة بمناطق جغرافية محددة حول تلوث الهواء داخل سوريا- فإن الزيادة الهائلة التي شهدها عام 2015 قد تكون نتيجة لمجموعة من العوامل، منها عمليات القصف الجوي التي شنتها الحكومتان السورية والروسية ضد الجماعات المتمردة، وعمليات القصف التي قادتها الولايات المتحدة ضد المنشآت النفطية التي يسيطر عليها تنظيم “الدولة الإسلامية”، وحرائق الغابات والعواصف الترابية العاتية التي نجمت عن العمليات العسكرية، إضافة إلى تدهور النشاط الزراعي. علاوة على الهجمات الكيماوية التي شنتها حكومة الأسد في آذار/ مارس ونيسان/أبريل وأيار/ مايو 2015 .وقد حلت سوريا في المرتبة 18 بين أكثر الدول تلوثاً في العالم (من بين 92 دولة) عام 2019، وفقاً لتصنيف منظمة الصحة العالمية، إذ بلغ تركيز “الجسيمات الدقيقة” ثلاثة أضعاف مستوى التعرض الموصى به عالمياً.
يؤثر مستوى “الجسيمات الدقيقة” تأثيراً مباشراً في الصحة العامة: فقد ازدادت تقديرات الوفيات الناجمة عن الأمراض التي يسببها تلوث الهواء في الأماكن المفتوحة بنسبة 17 في المئة بين عامي 2010 و2017، بإجمالي 7684 شخصاً. وتُشكل حالات الإعاقة الناجمة عن التعرض إلى “الجسيمات الدقيقة” 1625 لكل 100 ألف شخص في سوريا. فضلاً عن ذلك، فإن معدلات الوفاة والعجز المرتفعة هذه تؤثر في تكاليف الرعاية الصحية: إذ يُقدَّر العبء الاقتصادي للأمراض والوفيات المبكرة المرتبطة بتلوث الهواء في سوريا بنحو 0.6 – 1.42 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي؛ في حين زادت المخاطر البيئية/المهنية التي تؤدي إلى الوفاة والعجز بنسبة 16.5 في المئة بين عامي 2007 و2017. كما تؤثر المستويات العالية من “الجسيمات الدقيقة” في الإنتاجية الزراعية وتقلل من غلّة المحاصيل.
انبعاثات غاز ثاني أوكسيد الكربون
الأثر “الإيجابي” الوحيد للحرب السورية بيئياً، كان انخفاض انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون. وذلك بسبب الدمار الذي لحق بقطاع الطاقة (المصدر الرئيسي للانبعاثات)، وتردِّي الأنشطة الزراعية، وتراجع عمليات التصنيع، وتعطل إنتاج النفط والغاز، بسبب الأضرار التي لحقت بخطوط الأنابيب وغيرها من البنية التحتية في المصافي الرئيسية المملوكة للدولة. وقد تعرضت محطات الطاقة، في الكثير من المدن، للتدمير التام أو تعرضت لأضرار جسيمة نتيجة القتال والنهب وتفكيك المعدات المعدنية في المنشآت. إضافة إلى ذلك، حالَ نقصُ الغاز الطبيعي والديزل وزيت الوقود الثقيل دون تشغيل هذه المنشآت، وهو ما يُفسر أيضاً انخفاض مستوى الانبعاثات. وانخفضت انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون الناتجة عن صناعة الأسمنت أيضاً على مر السنين، بيد أنه ليس من المتوقع أن يستمر هذا الاتجاه، في ضوء مرحلة إعادة الإعمار المتوقعة في سوريا (لما لا يقل عن 60 في المئة من المناطق الحضرية التي تعرضت للدمار والخراب).
وعلى رغم انخفاض انبعاثات غاز ثاني أوكسيد الكربون، إلا أنها لا تزال أعلى من المستويات الموصى بها عالمياً. فقد وصلت انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون السنوية في سوريا إلى 26.96 مليون طن عام 2019 (موقع “عالمنا في البيانات”، 2019)، وهو ما أسفر عن تكبد البلاد 1.4 تريليون دولار من التكاليف الاجتماعية (إذ تُقدَّر التكاليف الاجتماعية الحالية للكربون بنحو 50 دولاراً لكل طن من انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي)، إضافة إلى زيادة احتمال حدوث ظواهر مناخية قاسية.
علاوة على ذلك، ترافق انخفاض انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون مع حدوث أضرار بيئية أخرى. فقد تشكلت مواد خطرة بسبب قصف مصافي تكرير النفط في حمص وإنشاء داعش مصافٍ مؤقتة جديدة. وأدى انسكاب النفط من المصافي والآبار والشاحنات وخطوط الأنابيب والصهاريج المتضررة إلى تلوث الأرض والمياه السطحية والتربة، الأمر الذي أدى إلى تلوث مياه الشرب والأراضي الزراعية. كما أدى التلوث والآثار الناجمة عن حرائق النفط إلى تدمير مساحات واسعة من الأراضي المزروعة وقتل الماشية، ما انعكس على مُربِّي الماشية والمزارعين.
تسببت الحرب السورية، إلى المآسي البشرية والاقتصادية الكثيرة المعروفة، بأضرار بيئية خطيرة، وهي إحدى صور الدمار الذي لا يحظى بقدر كبير من الاهتمام، مع أنه يخلف تأثيرات سلبية طويلة الأجل في الصحة العامة والاقتصاد وعملية السلام نفسها.
اجتثاث الغابات
فقدت سوريا 20.4 في المئة من الغطاء الشجري في الفترة بين عامي 2012 و2019، وقد تأثرت محافظتا اللاذقية وإدلب بقدر كبير من هذه الخسارة، التي بلغت في اللاذقية 10 في المئة وفي إدلب 27 في المئة من مساحة الغطاء الشجري بين عامي 2011 و2014 (أو ما يعادل 89 في المئة من إجمالي ما فقدته سوريا من أشجارها). وقد ارتبط نضوب الغطاء الحرجي بمجموعة من العوامل الاجتماعية والاقتصادية المختلفة المرتبطة بالصراع، منها حرائق الغابات المتكررة، وقطع الأشجار بصورة غير قانونية، والتوسع الزراعي، وإنتاج الفحم النباتي، وضعف مؤسسات الدولة في إدارة الموارد الطبيعية والتنمية البيئية .
تعتبر حرائق الغابات من الأسباب الرئيسية لاجتثاث الغابات، وقد ازداد تواتر اندلاعها وشدتها بشكل كبير خلال سنوات الصراع في سوريا. ففي عام 2020 وحده تسببت الحرائق في القضاء على ما يزيد عن 9 آلاف هكتار من الأراضي الزراعية والغابات، مما ألحق الضرر بحوالى 140 ألف إنسان، من خلال تدمير بيوتهم وممتلكاتهم وتخريبها، فضلاً عن فقدان إمدادات الطاقة والمياه وقلة فرص الحصول على الخدمات مثل العلاج في المستشفيات (مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، 2020). من الجدير بالذكر أن أحد الأسباب الرئيسية وراء اندلاع هذه الحرائق هي حملات القصف التي شنتها مختلف أطراف الصراع التي تتحصن في الغابات الكثيفة وتتخذها درعاً للحماية والتخفّي عن الطائرات المسيَّرة والطائرات القتالية، من الأسباب الأخرى، المتعلقة بالصراعات، لاجتثاث الغابات هو ذلك الاعتماد الكبير للسكان على الأشجار من أجل الحصول على التدفئة والمأوى. في العام 2013، تعرضت 40 في المئة من خطوط الكهرباء في البلاد لضرر كبير بسبب القصف، وتعطلت 30 محطة، فصارت الأشجار ضرورية للتدفئة والحصول على الكهرباء. قُطعَت، إثر ذلك، 7 آلاف شجرة في تل كلخ وفي الهامة، ولم تنج أشجار الزيتون، المصدر الرئيسي لزيت الزيتون في البلاد، من الانتهاكات والحرائق.
نضوب المياه
خلال الصراع الدائر، مثّل النزوح في الداخل والهجرة إلى المناطق الحضرية ضغوطاً هائلة على المياه الصالحة للشرب، وخصوصاً في ضواحي المدن، فأضحَت مياه الشرب متاحة لمدة لا تزيد على أربع ساعات يومياً. وإضافة إلى عدم كفاية إمدادات المياه، تظهر مشكلاتٌ أخرى، تتمثل في الأمراض المنقولة من خلال المياه الملوثة والوفيات الناتجة عن ذلك.
سوء إدارة النفايات
أحدثت الحرب مشكلة كارثية في ما يتعلق بالتخلص من النفايات، وساهمت في إنتاج المزيد من النفايات الخطرة عبر عمليات إحراق النفايات وإلقائها بدون ضوابط أو رقابة. ومع أن مستويات التخلص من النفايات في سوريا لا يمكن قياسها بدقة في الوقت الحالي، يُقدَّر أن النفايات الصلبة تصل إلى 850 طناً يومياً، وهي ضعف الكمية التي كانت قبل الحرب. تجتذب تلك النفاياتُ البلدية والمنزلية، غير المعالجة، القوارضَ والحشرات التي تحمل وتنقل الأمراض المعدية، الأمر الذي يعرّض الأطفال وجامعي القمامة للخطر ويؤدي أيضاً إلى تلويث التربة والمياه، ويجلب مخاطر صحية وتكاليف اقتصادية، وخصوصاً على قطاعَي الزراعة والصيد.
انحسار الغطاء النباتي وتآكل التربة وانعدام الأمن الغذائي
وفقاً لتقارير “منظمة الأغذية والزراعة العالمية”، التابعة لهيئة الأمم المتحدة، عانى قطاع الزراعة السوري من خسائر قيمتها 16 مليار دولار بين عامَي 2011 و2016، أي ما يعادل انخفاضاً بنسبة 41 في المئة في الناتج المحلي الإجمالي من المنتجات الزراعية. فقد أدت الحرب إلى انخفاض الأراضي المزروعة بنسبة 30 في المئة في المتوسط، والأراضي المروية بنسبة 50 في المئة. وانخفض إنتاج القمح إلى النصف، مقارنة بتقديرات فترة ما قبل نشوب الصراع، فبعد أربع سنوات من اندلاعه أصبحت البلاد مستورداً صافياً للقمح. وفي حين أن قطاع الزراعة السوري ما زال يوفر 50 في المئة من الإمدادات الغذائية للبلاد، وفقاً لإحصاءات في 2016، إلا أن هذا يعدّ تراجعاً بنسبة 40 في المئة عن مستويات ما قبل الصراع. إضافة إلى ذلك، فقد أدى كل من ارتفاع أسعار الوقود (إذا كان متاحاً أصلاً) -وخصوصاً في حلب وإدلب- وارتفاع تكاليف البذور التي كانت مدعومة في الماضي، والرسوم المفروضة على المواشي، ونقص العاملين المتخصصين، وارتفاع تكاليف العمالة ونقص الأيدي العاملة، إضافة إلى الاقتصادات المجزّأة، وانقطاع سلاسل الإمداد والتوريد، كل ذلك أدى إلى ارتفاع أسعار الأغذية، الأمر الذي جعل ما يقرب من نصف السكان في 2016 غير قادرين على تلبية احتياجاتهم الغذائية، وهو ما جعل أكثر من 60 في المئة من السوريين المقيمين يعانون حالة من انعدام الأمن الغذائي.
يزداد الطلب كثيراً على الموارد الطبيعية بعد انتهاء الحروب والصراعات، لا سيما من أجل ترميم (أو بناء) منازل وبنية تحتية جديدة، وأيضاً لتوفير سبل لكسب الرزق وإنعاش الاقتصاد عموماً مجدداً. لم تنته الحرب بعد في سوريا، لكن حينما يحين الوقت لإعادة الإعمار وإزالة الأنقاض وتطهير الأراضي من المخلفات العسكرية وتنظيف المواقع الصناعية المدمرة وإصلاح شبكات المياه والصرف الصحي المتضررة، ينبغي التركيز على تحقيق الانتعاش المستدام للحيلولة من دون التسبب في المزيد من التدهور البيئي في المستقبل.
ربا جعفر _ درج