سيريا برس _ المثنى سفان
كسوريين، اضطررنا للخروج من بلدنا الحبيب بغصّة لن تُمحَ من ذاكرتنا، تركنا كل ما نملكه خلفنا، ذكرياتنا، أحلامنا، صورنا، بيوتنا، ممتلكاتنا.. خرجنا فقط بما علينا من ثياب، كنّا نركض في شوارع المُدن والبلدات نهيم على وجوهنا مع كل صاروخٍ تُطلقه طائرات “السوخوي” الروسيّة أو قذيفة مدفع أو دبابة سوريّة شقيقة، أو رشّاش لإحدى الميليشيات الطائفية … كنّا تائهين لا ندري أينَ المَفر، إلى أين نسير ولا أين سنستقر!
هذا هو الحال منذ 2011، كان لدى السّوريين انطباعاً خاطئاً أنّ (العالم لنْ يتحمّل مجازر كبيرة في سوريا أو تهجيراً جماعياً لمنطقة معينة، وسيتدخل حينما تتفاقم اﻷمور) هذه الفكرة ثبت أنّها لا تَمت إلى الواقع بصلة.
سيذكر التّاريخ، يوماً، أنّ المأساة السّوريّة كانت نقطة فاصلة، دخل بعدها الضمير الإنساني في غيبوبة عصيّة على المتحكّمين بنظام البلطجة، المُسمّى تجاوزاً (النّظام الأممي).
سوريا كانت الاستثناء، لكنّ السؤال هل كانت سوريا جميلة بما يكفي؟سأجيب كما أجاب أحمد خالد توفيق.. عن مصر!!((لا أدرى.. أنا لم أتساءل قط إنْ كانت أمي جميلة أم لا.. إنها أمي وكفى.. إنّ ملامحها يُشعرني بالألفة والراحة والأمان)).
كنتُ أفيق باكراً أيام الجمعة مسرعاً للذهاب إلى بيت جدي في حي “الحويقة” المطلّة على نهر الفرات، ذاك النهرُ المزيّن بأشجار “الغَرب” والصفصاف على شطّيه الذي كان يَمُدّنا بالفرح والعشق، كعشق الرُّوح للجَّسد.
أتذكر صوت المؤذِّن (أبو صالح) وهو يصدح بصوته الرقيق في رمضان.. أحلم بطبق الفول من مطعم (صَارجي) مع رغيفين من خبز التنور الأسمر الساخن.
أحلم بـ(كاسة ﭼـاي) الشاي المخدر على صوبة المازوت أيام الشتاء.. أتخيل مباراة الفتوة مع اليقظة.
من الغريب أن هذه الأشياء تَثِبُ إلى ذهني تلقائياً حين أتكلم عن بلدي المدمر.. مع الكثير من التفاصيل الصغيرة التي لم أتخيل الحياة من دونها قط.. إلى أنْ أستفيق وأعود بذاكرتي التي عُجنت برائحة البارود النّاجم عن قذائف المارقين، أو بطعم الكيماوي الذي ذرّه طاغية الزمان رماداً حارقاً في أعين المدنيين … هناك لحظة تجد نفسك عاجز عن إضافة أي شيء أو تغيير أي شيء.. العجيب أنّ كلّ ما تكرهه لا يتبدل، وكلّ ما تحب يتم تدميره بعناية فائقة.
عندها تشعر بالإحباط وتتساءل: لماذا لم يُحبّني هذا البلد كما أحببته؟ ثم تشعر باليأس.. يُمزِّقك الحنين فتعود.. إلى الاشتياق.
الحويقة: عبارة عن منطقة بساتين وخضرة دائمة، يحيط بها نهر الفرات من كل جانب.
الغَرب: شجر صفصافي ينمو على نهر الفرات.