سيريا برس _ أنباء سوريا
كثيراً ما تعيش الناجيات ما بعد الاعتقال والتغييب القسري صراعاً مريراً مع مجتمعها المحيط، إبان خروجها إلى الحرية، لتجد نفسها وقد اصطدمت بجملةٍ من العقبات التي تحول بينها وبين إكمال حياتها بشكلٍ طبيعي من جديد، لتزداد الحال شدّةً في المجتمعات الضيقة، والتي تزداد فيها الحساسية في التعاطي مع واقع المرأة وقضاياها.
من يصدق الناجيات؟
في هذا السياق قمنا ضمن حملة المعرفة من أجل كسر الوصمة، باستطلاع آراء بعض الناجيات، لنبحث معاً عن الصعوبات والعوائق التي واجهنها مع خروجهن من الاعتقال والتغييب القسري.
حيث تحدثت الكثيرات عن الوصمة الأولى، وهي التكذيب، فأشرن بأنه ما أن تروي الناجية قصة اعتقالها، أو أسبابه أو أي شيء يتعلق به، حتى يتم تكذيب روايتها والتشكيك بمصداقيتها، بغض النظر إن كان المحيط مناصراً للجهة التي قامت بتغييبها أم لا.
تخبرنا روعة (اسم مستعار)، والتي تم اعتقالها في طريقها إلى السقيلبية عام 2012: “عندما أخبرت صديقاتي في إحدى المرات عما تعرضت إليه من تعذيبٍ في معتقلات النظام السوري، اتهمتني إحداهن بالكذب، بدليل أن لديها أخ عسكري ضمن جيش النظام، ولم تسمع منه بحصول مثل هذه الأمور، فكثيراً ما كان يقابلني الناس المؤيدين للنظام بالتكذيب، وينشرون أقاويل خاطئة عني”.
أما فاطمة (اسم مستعار) والتي اعتقلت مدة أسبوعين في حمص عام 2012، فسردت لنا كيف تم تكذيبها، فتقول: “لم يتم ضربي أو التحرش بي جسدياً أثناء الاعتقال، إلا أن أحداً لم يصدقني، بل أشعروا أهلي بالحرج بسببي”.
الاتهام بالفائدة المادية:
كما قد يأتي اتهام الناجيات اللواتي ينشطن في الحديث عن ظروف الاعتقال بتزوير الحقائق والكذب بحجة أنهن يهدفن إلى الحصول على دعم من المنظمات سواءً أكان المال أو العمل.
وهذا ما أكدت عليه رؤى (اسم مستعار) التي تم اعتقالها في عام 2014: “كل ما سمعت بحملة اشارك قصتي، وأروي ما أعلمه عن قصص معتقلاتٍ أخريات، وأساعد بالتوثيق وما أعرفه من معلومات، وذلك بهدف فضح النظام السوري، وعسى أن يساعد ذلك بالإفراج عن معتقلات لا يزلن في غياهب السجون، إلا أن الناس يرون غير ذلك، فبعضهم يقول (أكيد صار معك ملايين من ورا هالقصص والمقابلات)، وآخرون: (ما شبعتي شحادي من المنظمات)”.
أما يمنى (اسم مستعار لناجية من الاعتقال) فتقول: “لقد نشرت قصتي عن طريق الإعلام بهدف فضح ممارسات النظام تجاه المعتقلين/المعتقلات في السجون، إلا أن بعض الناس اتهموني بتلقي مبالغ مالية ضخمة مقابل ذلك، ومن أجل “الشحادة” من المنظمات بحسب وصفهم”.
لوم الناجيات:
علاوة على ما سبق، تعاني الناجيات من تلفيق قصص وأحداث غير صحيحة تتعلق بالاعتقال وما تعرضن إليه، إلى جانب إلقاء اللوم عليهن في الاعتقال، مما يشوه سمعة الناجية ويزعجها في مجتمعٍ ذكوري يتعامل مع هذه الأمور بقسوةٍ وعدم إنصاف، وهو ما يعتبر من أشكال الوصم الأشد وضوحاً والأكثر شيوعاً في سياقنا، حيث تتعرض الكثير من الناجيات للأقاويل والشائعات، ليقعن ضحية افتراضاتٍ مختلفة يراها البعض مسببةً لاعتقالهن، أو ساهمت بما تعرضن إليه خلال اعتقالهن، لاغين أصواتهن الفعلية وقيمة شهاداتهن.
في هذا السياق تقول راما (اسم مستعار لناجية من الاعتقال): “اعتبر الناس أنني كنت السبب في اعتقالي عند الحاجز، وذلك عند ذهابي إلى حلب في سنة 2015، فقالوا إنني كنت أضع المكياج وكان لباسي ملفتاً!! مع أنني لم أكن أفعل ذلك حتى”.
شفقة أم تضامن؟
الأمر الأخر الذي ينشأ عن شهادات الناجيات، هو وصم الناجية بشعورٍ من الشفقة والاستعطاف من قبل الناس اتجاهها، والسبب أنها كانت معتقلة، حتى وإن مر وقت طويل على خروجها من المعتقل، أو حتى لو استطاعت تجاوز هذه المحنة، مثل “فلانة كانت معتقلة يا حرام”، و”فلانة كانت بالسجن خطي راح مستقبلها وحاضرها”، الأمر الذي يؤثر سلبا على حالتها النفسية ويجعلها تشعر وكأنها إنسان ناقص عن بقية الآخرين، ويطفئ الحماس في قلبها بأن تخطط وتبني حياتها بشكل جيد. أو تراه يؤثر على وضعها الاجتماعي أو الاقتصادي أو غيره.
تقول سعدية (30 عاما اعتقلت عام 2015 عند ذهابها إلى جامعتها في حلب): “سئمت من أقاربي ومن حولي، ليس لهم حديث سواي بعد أن خرجت من السجن، وكله في كفة ومشاعر الاستعطاف في كفة أخرى، لستُ مصدراً للشفقة، أنا بصحتي وعافيتي، وأعمل ولدي أهداف، وأستثمر وقتي بما هو نافع لي ولمن حولي ولأسرتي، لست بحاجة لتلك الشفقة”.
وصم العائلات:
ولا تتوقف المعاناة عند الناجية فقط بل تمتد إلى عائلتها، فالناس تحمل العوائل عار الاعتقال كما حملوه لها، فلا تسلم العائلة من الانتقادات والنبذ. تحكي سلمى (اسم مستعار): “أختي ليست على علاقة جيدة بأهل زوجها، وكلما تشاجرت معهم عيروها باعتقالي، وقالو لها: “النظام فعل بأختك كذا وكذا، وهي بقيت عنده في السجن شهر كامل”. تصمت سلمى ثم تكمل بصوت مخنوق: “وكأن لي ذنب بما حصل”.
كذلك الأمر بالنسبة إلى مرام (اسم مستعار) فتقول: “أبي لكثرة ما تكلم الناس بالموضوع صار معه مرض القلب، بسبب حزنه وقهره منهم، حتى أثر عليه المرض وتوفى، فصاروا يقولون إني السبب وأكيد حدث معي في السجن ما يشوه سمعتي فمات، الآن الجميع يحملني مسؤولية اعتقالي وموت أبي”.
على عكس الرجل الذي يخرج من السجن فيلقى ترحيبا من الناس، ويشكل اعتقاله تجربة بطولية يفتخر بها أمام الناس يرويها لأولاده وأحفاده، وإن كان يتعرض لما سبق من العقبات فمعاناته أقل بكثير مقارنة بمعاناة المرأة.
تعلق هدى النعسان (خريجة تربية معلم صف) على تلك القصة: “أووووه نحتاج لتغيير المجتمع من جذوره، والأمر ليس سهلا، نحتاج لحملات توعية تجوب المجتمع ولا تترك شبرا فيه، إننا نحتاج إلى المزيد المزيد من الجهود”.
نهايةً، فإن قضية الناجيات من الاعتقال والتغييب القسري ستبقى مستمرة، مهما كانت الجهود المبذولة في هذه المسألة اليوم، فبين حقهن من الخروج من الاعتقال إلى الحرية، وبين مساندتهن ومؤازرتهن للعودة إلى الحياة وتجاوز ما تعرضن إليه تقف الكثير من العوائق والحواجز، ربما كان أوضحها وأهمها الوصم، في مجتمعٍ لم يعتد على مناصرة النساء، لذلك فإن الطريق إلى تغيير واقعهن ما يزال طويلاً وإن بدأت خطواته الأولى.
سيرين مصطفى _ الرافد