ازدادت معدلات الانتحار بشكل ملحوظ مؤخّراً في إدلب وريف حلب، وذلك نتيجة أسباب صحية ونفسية واجتماعية واقتصادية، مرتبطة بالأوضاع المعيشية المتردية التي تعاني منها فئة كبيرة من السوريين في شمال غربي سوريا.
وشهدت مناطق في إدلب وريف حلب، أواخر شهر أيار الفائت ومطلع حزيران الجاري، ثلاث حالات انتحار في حوادث منفصلة لـ رجل وامرأة وفتاة قاصر (15 عاماً)، أقدمت على شنق نفسها داخل منزل عائلتها في قرية كفرة شمالي حلب.
وفي 21 من أيار الماضي في مدينة إدلب، توفي الشاب ضياء عبد الخالق المعمار من مهجّري مدينة معرة النعمان جنوبي إدلب، بعد ابتلاعه حبة غاز، وهي من حبوب الفوسفيد الهيدروجين المستخدمة في عمليات التعقيم.
وفي 27 من نيسان الماضي، أقدم شاب على رمي نفسه من الطابق الرابع في مدينة عفرين شمال غربي حلب، ما أدى إلى وفاته على الفور، وتبيّن أن الشاب يعيش أوضاعاً نفسية غير مستقرة.
وفي اليوم ذاته، أقدمت الفتاة القاصر ناديا المصطفى (17 عاماً)، على الانتحار في بلدة احتيملات شمالي حلب، من خلال تناولها جرعة زائدة من الحبوب، كما انتحرت الشابة نور أنور الحسن من مدينة مارع القريبة، عبر شنق نفسها بحبل مخصص لطي الستائر المنزلية.
وكانت الشابة نور تعيش ظروفاً نفسية وتتعرض لضغوط اجتماعية من قبل ذويها بعد فقدان والدها، قبل عدة أعوام، بحسب ما ذكرت مصادر مقرّبة منها لـ موقع تلفزيون سوريا.
تعتبر حالات الانتحار التي سبق ذكرها، عدداً قليلاً من عشرات الحالات والمحاولات التي تفشل، ويحاول الأهالي إخفاءها نتيجة مخاوفهم من ردود الفعل الاجتماعية التي تلاحق العائلة حول خفايا محاولة الانتحار والأسباب التي دفعت إلى ذلك.
ووثّق منسقو استجابة سوريا، وقوع نحو 25 حالة انتحار في مناطق إدلب وريف حلب الشمالي، 6 منها باءت بالفشل، منذ مطلع العام الحالي 2022، و”معظم الذين أقدموا على الانتحار من فئة النساء لعدم وجود من يساعدهنّ على تخطي الصعوبات التي يعانون منها، واليافعين غير القادرين على التعامل مع المصاعب والضغوط المختلفة التي تواجههم”.
وقال فريق الاستجابة: “نناشد المنظمات الإنسانية العاملة في المنطقة لمساندة المدنيين والنازحين وتأمين المتطلبات الأساسية لهم وخاصة في ظل ارتفاع أسعار المواد الأساسية والتهديدات المستمرة بقطع المساعدات الإنسانية عن المدنيين، والعمل على تأمين فرص العمل بشكل دوري للحد من انتشار البطالة في المنطقة”.
ويتخوّف معظم السوريين من انتشار حالات الانتحار، وفقدانهم السيطرة على أبنائهم وأقربائهم، الذين يتعرّضون لصدمات نفسية وصحية، في ظل غياب مراكز الرعاية الصحية والنفسية التي تقدّم الرعاية للأشخاص الذين يعيشون ظروفاً نفسية وصحية غير مستقرة.
أسباب وعوامل الانتحار
في ظل ما يعيشه الأهالي في مناطق شمال غربي سوريا من تحديات الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، تكثر الأسباب والعوامل التي تسهم في تفشي ظاهرة الانتحار بالمنطقة، كونها تتعلق بالفرد ذاته الذي يصل إلى طرق مسدودة ومجهولة المستقبل، ما يدفعه إلى وضع حدِّ لحياته.
ولوحظ في الحالات الأخيرة بمناطق الشمال السوري، انتحار أشخاص من فئة اليافعين والشباب، وحول ذلك يقول الباحث الاجتماعي عبد الله درويش لـ موقع تلفزيون سوريا إنّ “اليافع في مرحلة انتقالية، ينعدم فيها التوازن، إذ يكون أكثر هشاشة من المراحل العمرية الأخرى، ويبدأ شعوره بالقلق من المستقبل المجهول”.
وأضاف: “اليافع يحاكم القيم الجيدة بطريقة قوية، ويريد ما يجب أن يكون ويعتبر أن جميع الناس يملكون ذات القيم الحسنة، لكن عندما يشاهد غياب تلك القيم، يبدأ بشعور الغربة، وهنا يولد شخص انطوائي وعدائي، لنفسه وقد يكون للآخرين”.
ووضع الباحث الاجتماعي عدداً من العوامل والأسباب التي أسهمت في تفشي ظاهرة الانتحار بشكل عام لدى مختلف الفئات العمرية في الشمال السوري.
عوامل اقتصادية:
- الأوضاع المعيشية والاقتصادية التي تعاني منها العائلة السورية.
- العجز عن تأمين أدنى متطلبات الحياة اليومية في ظل انعدام فرص العمل.
- غياب الأمان الوظيفي، وعدم وجود مستقبل واضح للعمل.
- غياب المشاريع الحقيقية لتوفير فرص عمل.
عوامل اجنماعية:
- التهجير، والنزوح، وتغيّر أماكن السكن بشكل مستمر، وما نتج عنه من انعدام استقرار.
- غياب الرعاية الأسرية نتيجة التفكك الأسري والمشكلات العائلية.
- انتشار المواد المخدرة وارتفاع أعداد المتعاطين منها من الجنسين، وفقدان المتعاطي القدرة على إدراك تصرفاته.
- الضغوطات الاجتماعية المحيطة بالفرد، وما تسببه من انكسارات وإحباطات على المستوى الشخصي.
- عدم قدرة الأسرة على توفير متطلبات أبنائها، ومواكبة التطورات التي يلاحظها الفرد، ما يصل به إلى مرحلة إحباط وعجز تام.
- التشهير، على مواقع التواصل الاجتماعي وما يرافقه من فضائح شخصية للأفراد.
- التسرب التعليمي، وغياب الدور الحقيقي للمدرسة.
- الأزمات الاقتصادية والاجتماعية “مشنقة” تجذب السوريين إليها
عوامل نفسية:
- القلق والخوف من المستقبل، وعدم وضوحه.
- غياب الأمن وما ينتح عنه من خوف وهلع مستمر.
- الاضطرابات النفسية، وعدم الاستقرار النفسي
- غياب مراكز الرعاية الصحية والنفسية.
الباحث في وحدة الأبحاث الاجتماعية بمركز “حرمون للدراسات المعاصرة” والمحاضر سابقاً في قسم علم الاجتماع بجامعة دمشق طلال المصطفى، قال خلال حديثه لـ موقع تلفزيون سوريا: إنّ “العامل الاقتصادي هو الأبرز، كون السوريين باتوا يفقدون الأمل في إمكانية العيش كمواطنين ضمن الحدود الدنيا، إذ يعيش نحو 1.4 مليون مهجّر في مخيمات الشمال السوري، وسط ظروف معيشية متدهورة في ظل تراجع المساعدات الإنسانية وانتشار الفقر والبطالة بين الشباب”.
وأضاف: “أن من المظاهر النفسية التي يمكن اعتبارها مهيئةً للانتحار الاضطرابات النفسية، مثل الاكتئاب والفصام والشخصية الحدية وما إلى ذلك نتيجة الظروف المحيطة من حروب ونزوح، وما ينجم عنها من أزمات، وهي موجودة بكثرة في مجتمعنا السوري، الذي أصبح نفقاً مظلماً لا نهاية له، ليكون إنهاء الحياة هو الحل، خاصة عند الشباب ذوي الطاقات العالية الذين يشعرون بالعجز والخوف من المستقبل”.
ما موقف الطب النفسي؟
ترى المتخصصة النفسية ومؤسسة فريق “بنفسجي” للدعم النفسي آلاء زينو، أن “الانتحار ناجم عن الاضطرابات النفسية، والصدمات، والفصام، وتغيرات كيميائية داخل المخ، ذلك عندما لا يستطيع الفرد اتخاذ قراراته بطريقة عقلانية، وهنا فعلياً يكون غير قادر على التفكير بالشكل العقلاني”.
وقالت خلال حديثها لـ موقع تلفزيون سوريا إنه “خلال الحروب ترتفع نسبة الانتحار، بسبب ازدياد الصدمات والأزمات النفسية والمشكلات الاجتماعية والمادية، إضافة إلى غياب الدعم الاجتماعي، التي تصل بالشخص إلى إحساس بفقدان السيطرة والشعور باليأس والخذلان وفقدان القيمة والشغف ما يدفعه إلى الانتحار”.
وتابعت: “لكن المرونة والحصانة النفسية، والقدرة على التكيف مع الأزمات وتقبل التغييرات، لهم دور كبير في اتخاذ قرار الانتحار أو عدم اتخاذه، وكلما زادت الأفكار اللامنطقية زاد الكبت عند الشخص، وكان أكثر عرضة للانتحار”.
وأضافت: “من العوامل الخارجية، عدم قدرة الشخص على تلبية المسؤوليات الواقعة على عاتقه، والدخول في حالة اكتئاب ما يولد الأفكار الانتحارية، كما أن حالة النكران وعدم تقبل الواقع، يدفع الشباب إلى تعاطي الحبوب المخدرة والتي تولد الانتحار، أما من ناحية البنات، تكون البنت معرضة للابتزاز من أحد الشباب أو تحرش، وهنا لا يوجد مساحة آمنة بينها وبين الأسرة أو الشخص الذي يقدم لها الرعاية، فهنا تلجأ إلى الانتحار للتخلص من مشكلتها”.
كيف يمكن معالجة تفشي ظاهرة الانتحار؟
يبدو تفشي ظاهرة الانتحار بين المجتمعات السورية شمال غربي سوريا، في تزايد مستمر، وسط غياب الرعاية النفسية ومراكز التوعية المجتمعية للتخفيف عن الذين يعيشون ظروفاً متردية نتيجة العديد من العوامل التي سبق ذكرها، ما يجعلنا أمام ظاهرة خطرة تهدد مجتمعاً بأكمله دون حلول حقيقية تبذل على الصعيد المحلي للخلاص منها.
وعن الموقف القانوني من تفشي ظاهرة الانتحار في الشمال السوري، قال المحامي وعضو “نقابة المحامين الأحرار” يوسف حسين، خلال حديثه لموقع تلفزيون سوريا إن “القانون السوري لم ينص على تجريم الانتحار أو الشروع فيه، وإنما جرّم التحريض عليه، ولا يوجد جهة قانونية يمكنها الحد أو المعاقبة على الانتحار، وإنما يجب العمل على تفعيل مراكز الدعم النفسي لبحث الأسباب التي تدفع الشباب إلى الإقدام عليه، ومحاربة ظاهرة المخدرات هي أولى تلك الخطوات”.
بينما يرى الباحث الاجتماعي طلال المصطفى أنه “لا بد من تعزيز القيم الدينية والأخلاقية الإيجابية الفاعلة لدى فئة المراهقين والشباب، باعتبارها الرادع الأساسي مهما بلغت مرارة الواقع وهذا لا يحصل إلا في حال حصول استقرار سياسي ومجتمعي بشكل عام”.
أما الباحث الاجتماعي عبد الله درويش يرى أن “أولى خطوات الحل التي يمكن أن تسهم في الحد من تفشي ظاهرة الانتحار، توفير فرص عمل، عبر المشاريع الصغيرة ومشاريع التعافي المبكر، والعدل في الحصول على فرصة الاستفادة من هذه المشاريع”.
وقال درويش خلال حديثه لـ موقع تلفزيون سوريا إن “الأمان الوظيفي ضروري للموظف، لأنه دائماً يعيش في حالة قلق وخوف من فصله عن العمل، وغياب الفرص البديلة”، مضيفاً أنّه “من الضروري ضبط موضوع الزواج، وإجراء دورات لتمكين الشباب وتعريفهم بالمسؤوليات والواجبات والحقوق الزوجية، لمنع التفكك الأسري والمشكلات الزوجية، والحد من ظاهرة الطلاق”.
وشدّد على ضرورة أن يكون هناك برامج توعية لكامل الأسرة، لأن البرامج الحالية تستهدف المرأة، وهنا تولد حالة من النفور، لأنه من المفترض استهداف الأسرة بشكل كامل، للحد من حالات التفكك الأسري وتخلّي المرأة عن أسرتها بسبب الحصول على حقوقها”، مشيراً أيضاً إلى “ضرورة دعم القطاع التعليمي، والحث على التعليم، في جميع المراحل الدراسية، وزرع فكرة التعلم من أجل التعلم”.
يشار إلى أنّ حالات الانتحار في مناطق سيطرة قوات نظام الأسد ازدادت أيضاً بشكل كبير، مؤخّرأً، ويعدّ الفقر والأوضاع الاقتصادية السيئّة في مقدمة الأسباب التي تدفع الشباب والفتيات إلى اتخاذ القرار بإنهاء حياتهم، فضلاً عن ظروف الحرب والبطالة والضغوط النفسيّة والاجتماعية.
حسين الخطيب _ تلفزيون سوريا