أخيراً، حصلنا على إجابة عن بعض الأسئلة التي تواجهنا حيال سياسات الولايات المتحدة الأمريكية، وفي الوقت نفسه تحاصرنا أسئلة أخرى بحاجة لتوضيح: هل ما تتبعه واشنطن يندرج ضمن استراتيجية أم تكتيكات سياسية مثيرة للاستغراب؟ وإذ أضحت سياسات الرئيس الجمهوري السابق وبالاً على كلِّ من وقف إلى جانبهم أو دعمهم، حتى لو كان ذلك في تغريدة على منصة تويتر؛ فهل الارتباك واللامركزية في التصريحات الإعلامية استراتيجية تنتهجها إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، أم هي محاولة من سيد البيت الأبيض للتخلص من عقدة سلفِه ترامب؟
في ظل التحديات التي تحيط بالسياسة الأمريكية، ما بعد الانسحاب من أفغانستان، وتسليم إدارة الرئيس جو بايدن بالدور الروسي المتنامي في الشرق الأوسط بعد حالة اليأس الذي أصاب الكرملين عقب خسارة حليفها الأخير بالمنطقة العربية، وهو نظام معمر القذافي في ليبيا، لم يبقَ خيارٌ للكرملين سوى التمسك بالنظام السوري كالقابض على جمرةٍ من نار.
وبسبب القسوة العسكرية الروسية على مناهضي النظام السوري وحلفائه في الميدان، وإعادة ما يقرب 67% من مساحة الجغرافية السورية إلى سيطرة نظام الأسد؛ فرضت موسكو أمراً واقعاً على جميع المتنافسين في الحلبة السورية، الأمر الذي لا ترفضه واشنطن ولم تنتقص منه إطلاقاً.
بل إنَّ تصريحات الدبلوماسية الأمريكية، توضح تعاطيها مع القضية السورية من بوابة تدهور الأوضاع الإنسانية، وتواجد قواتها بجانب حقول النفط شمال شرق سوريا، الأمر الذي حرم نظام الأسد من عائدات النفط، ونقل ملكيته إلى حلفائها المحليين قوات سوريا الديمقراطية “قسد”، الذين شاركوا معها في قتال ودحر تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”على المبالاة التي تنتهجها الولايات المتحدة تجاه التغييرات في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تبعث إلى التفكر؛ هل اللامبالاة نفسها، استراتيجية، تهدف إلى إغراق جميع الطامحين في حالة الفوضى ومتابعة المشهد العام من النافذة العلويّة، بحيث تبقى ممسكة بكلِّ خيوط اللعبة بطريقة تستطيع من خلالها توزيع اللاعبين وتحديد مواقعهم وخطط الهجوم والدفاع لتظل الكفة متوازنة وتدوم الصراعات حتى لحظة إرهاق الجميع، إلى أنَّ تأتي صافرة النهاية بالتعادل السلبي صفر-صفر!
ما أثرناه آنفاً، يتعلق بإيجاز حول السياسة الخارجية الأمريكية، لكن المواجهة الأقوى تلك التي يشهدها الكونغرس بين الحين والآخر عند التصويت على أي مسألة تتعلق بإدارة البلاد، لا سيّما النقاشات إزاء البنية التحتية التي تتطلب تريليون دولار، وحل قضية سقف الديون، وتداعيات جائحة كورونا والأزمة الاقتصادية التي عصفت باقتصادات جميع الدول، بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية.
بالعودة إلى الملف السوري، الميدان الأكثر سخونة في المنطقة، اتفق الرئيسان الروسي والأمريكي في منتصف شهر حزيران/ يونيو من هذا العام على استراتيجية تجاه القضية السورية تسمى «خطوة بخطوة»، وتفاهما على الحد الأدنى من الخطوط الحمراء، حيث يقوم كلُّ طرف بالتقدم خطوة نحو الطرف الآخر لإنجاز الحل السياسي وفق رؤيتهما، أو بالأحرى بما يتسق مع المصلحة الروسية واستمرار حالة اللامبالاة الأمريكية.
ولتوظيف ذلك، اتخذت موسكو خطوة إلى الأمام، من خلال تمرير القرار الدولي 2585 بشأن تدفق المساعدات إلى الشمال السوري عبر الحدود الشمالية مع تركيا، وفي مقابل ذلك لم نشهد من الخارجية الأمريكية مثلما كانت في عهد ترامب؛ حين كانت تقوم بين الحين والآخر بإصدار قائمة عقوبات جديدة على الدول والشركات والمصارف والأفراد الداعمين لنظام بشار الأسد، بل أدرجت فصيلاً معارضاً مدعوماً من تركيا على لائحة العقوبات التي صدرت في أواخر الشهر السابع من العام الجاري، ثمَّ أتبعت ذلك بعد فترة قصيرة بإعطاء ضوء أخضر للأردن تستطيع من خلاله التحرك بعدة اتجاهات في خطوة لإعادة علاقاتها مع النظام، بسبب ما يعانيه الطرفان من تهالك في اقتصاديهما، كما أنّ للمملكة الهاشمية مآرب أخرى قد تتضح في المستقبل القريب، بالإضافة إلى المعلن عنها، وهو خط الغاز العربي الذي بات في حكم الواقع، رغم التحديات التي تكتنفه.
إلى جانب ذلك، رحبت نائبة المتحدث باسم الخارجية الأمريكية، جيلينا بورتر، بالقرار الذي أعلنته المملكة الأردنية لاستئناف الرحلات الجوية التجارية إلى دمشق، لتتراجع فيما بعد عن ترحيبها، قبل أن تراجع الخارجية الأمريكية هذا الإعلان؛ وهذا أيضاً يُعد جزءاً من حالة الارتباك المشار إليه أعلاه.
هنا يأتي السؤال؛ هل بدأت إدارة بايدن بالتخلي عن قانون قيصر بالاستدارة والتعاطي المباشر مع حكومة موسكو، أم أنَّ الحالة السورية ليست بتلك الأهمية بالنسبة لها، في ظل تصاعد التحديات التي تواجه الولايات المتحدة بعد تنامي الدور الصيني على المستويات كافة، وتصدُّع العلاقة مع الشريك الأوروبي الفرنسي في قضية الغواصات الأسترالية، والعودة إلى إحياء الرابطة الأنجلوسكسونية، وتشكيل تحالف جديد يركز على مناطق المحيطين الهندي والهادئ!
درويش خليفة _ الطريق