أولًا: مدخل
في قراره إعلان الحرب على أوكرانيا في 24 شباط/ فبراير الماضي، أدخل بوتين أوروبا في أخطر صراع جيوسياسي تشهده منذ الحرب العالمية الثانية، وقد استنفر بخطوته هذه دول أوروبا التي كانت تعيش حالة استرخاء نسبي بعيدًا عن الحروب، وحالة متنامية من البرود التي كانت تكتنف العلاقات على ضفتي الأطلسي، بحيث أحسّ الحلفاء الذين جمعتهم مظلّة حلف الناتو بأنّ حالة هوَس بوتين بالتوسّع وأحلامه الإمبراطورية باتت تشكّل لهم خطرًا داهمًا يستلزم توحدهم واستعدادهم لمواجهته، وعلى الرغم من أن كثيرًا من المتابعين والمحللين يذهبون إلى أن بوتين قد يكون استُجرَّ إلى فخّ محكم، نصبته له الولايات المتحدة وبريطانيا، أو دفعته حماقته إليه، فقد غرق في المستنقع الأوكراني، ويجري استنزافه عبر دعم واسع ومتطور للأوكرانيين، وعقوبات اقتصادية خانقة ومتتابعة بدأت تترك نتائج كارثية على الاقتصاد الروسي ومعيشة الروس.
لم يكن الغزو الروسي وليد لحظته، فقد سبق لبوتين أن غزا شبه جزيرة القرم الأوكرانية واحتلها عام 2014، كما شجع ودعم تمرد الإقليمين في شرق أوكرانيا: دونيتسك ولوهانيسك، بدعوى تعرض الأقلية الروسية الموجودة فيهما للاضطهاد على يد القوميين الأوكران الذين نعتهم بالنازيين الجدد، ثم تبع ذلك في فترة استعداده لغزو أوكرانيا باعترافه باستقلال الإقليمين، في 21 شباط/ فبراير 2022، ولم تغب عن ذهن الأوروبيين تدخلاته في جورجيا وسورية وليبيا وكازاخستان.
لم تجرِ الحرب كما تصوّرها بوتين، أو كما صوّرها له مستشاروه؛ فالتكلفة البشرية والمادية والدبلوماسية جاءت كبيرة جدًا في شهرها الأول، ولا يُغيّر من هذه الحقيقة موقف السعودية والإمارات العربية المتحدة، اللتين رفضتا زيادة الإنتاج لتعويض النقص في إمدادات الطاقة في السوق الدولية، أو موقف تركيا وإسرائيل، اللتين اتخذتا دور الوسطاء الباحثين عن حلول لإنهاء الحرب، ولكلٍّ من هذه الدول دوافعها. لكن من المرجّح أن مواقف هذه الدول وغيرها من الدول المترددة لن يبقى على ما هو عليه طويلًا.
لقد حظي الشعب الأوكراني بتعاطف أغلب دول وشعوب المعمورة، وتلقّى الجيش الأوكراني دعمًا نوعيًا وكبيرًا في مجالات التدريب والتسليح والتعاون الاستخباراتي وتبادل المعلومات، بالقدر الذي أظهر فيه الأوكرانيون صمودًا مقدرًا؛ فبعد شهر من الحرب، اضطر الجيش الروسي إلى مراجعة خططه وأهدافه، وتقليص أهدافه من الغزو، وكان من قبلُ يشترط نزع سلاح أوكرانيا وحياديتها والقضاء على من يسميهم “النازيين الجدد”، والاعتراف بالقرم والإقليمين الانفصاليين بالوضع الذي باتا عليه، واحتلال كييف وتنصيب نظام جديد موالٍ له فيها. ولكن اندفاعة الجيش الروسي تواضعت، ولم يتمكن من السيطرة إلا على بعض المدن الحدودية في شرق وجنوب شرق أوكرانيا، وبالرغم من الدمار الهائل الذي ألحقه القصف الروسي، لم تستطع القوات الروسية الغازية إحكام سيطرتها على مدينة (ماريوبل) الاستراتيجية حتى الآن، كونها تؤمن اتصالًا بريًّا للقوات الروسية إلى شبه جزيرة القرم، وذلك بفعل المقاومة الشرسة للجيش الأوكراني، وقد صرّح وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو، أخيرًا، بأن القوات الروسية ستقصر عملياتها على إقليم الدونباس.
ثانيًا: في تداعيات الحرب الأوكرانية على الملفّ السوري
ما يجمع بين الملفين السوري والأوكراني أن الطرف الروسي هو من قتل ودمّر في كلا البلدين، وإن كانت دوافعه مختلفة في كل منهما، وبات كثير من المسؤولين الغربيين يشبّه ممارسات الروس في أوكرانيا بما فعله في سورية، الأمر الذي سكتوا عنه حينها، وأن ما تتعرض له ماريوبيل سبق أن عانته حلب الشرقية من حيث حجم الدمار والتهجير. وهذا الوضع الناشئ مع حالة الاستنكار العالمي لما أقدمت عليه روسيا في غزوها أوكرانيا (مع أن الحرب ما زالت في بدايتها) يمكن أن يستفيد منه السوريون في إعادة لفت نظر العالم إلى قضيتهم، وفضح الممارسات الروسية كدولة احتلال، وفي إعادة القضية السورية إلى دائرة الاهتمام، أقله أن تبادر الدول المؤثرة إلى تفعيل القرارات الأممية ذات الصلة، لفرض الحل السياسي بعيدًا عمّا تريد موسكو فرضه في سورية، وإذا كان هذا الأمر يقع على عاتق كل سوري، حسب الموقع الذي هو فيه، فإنّ على المعارضة التمثيلية بمؤسساتها المعترف بها أن تقوم بالجهد الأكبر على هذا الطريق، فما الخطوات التي يمكن للمعارضة والنخب المعارضة ومنظمات المجتمع المدني أن تقوم بها؟
1- إذا كانت تركيا صديقة لطرفي الصراع في أوكرانيا، فليس من الضروري أن يكون ائتلاف قوى الثورة والمعارضة هو الآخر صديقًا لطرفي الصراع، ومن المفيد له، بل من الواجب عليه، أن يستغلّ هذه الفرصة، وأن يحاول التنصّل والانسحاب أو تعليق مشاركته في مسار أستانا الذي شقّه الروس مع شريكتيهم تركيا وإيران، ولم يحرز نتائج بعد سبعة عشرة جولة، سوى مزيد من التراجع في وضع المعارضة السياسية والعسكرية المشاركة فيه، كما يمكن للائتلاف أن ينسحب أو أن يعلّق مشاركته في اللجنة الدستورية، التي انبثقت عن مؤتمر سوتشي 30 كانون الثاني/ يناير 2018، ولم تفض إلى نتائج في جولتها السابعة حتى الآن، نظرًا لأن النظام وداعميه الروس يريدونها تقطيعًا للوقت ليس إلا، ومع الأخذ بعين الاعتبار وجود عاملَين قد يجعلان هذا المطلب من الائتلاف دون صدى: أولهما ثقل اليد التركية على رأس الائتلاف، حيث يُرجّح أن تقيد من حركته في هذا الاتجاه، أقلّه ما دامت مستمرة بدور الوسيط؛ وثانيهما استمرار المبعوث الأممي في مسار اللجنة الدستورية (جريًا على عادة المبعوثين الأمميين) وإنْ بقيت بدون نتائج. وكلا العاملين لا يبرران ألّا يحاول الائتلاف القيامَ بما ينبغي له القيام به.
2- لم يكتفِ النظام بأن أعلن انحيازه إلى جانب روسيا في عدوانها، وهو بكلّ الأحوال غيرُ قادر على اتخاذ موقف مغاير لكونه مدينًا باستمراريته لكل من روسيا وإيران، بل إنه أخذ يُشجّع ويسهّل عمليات تطوّع الشباب السوري للقتال كمرتزقة إلى جانب الروس، بالرغم من عدم تأكيد المعلومات عن وصول مرتزقة سوريين إلى الأراضي الأوكرانية من عناصر (الفيلق الخامس) الذي يرعاه الروس. وفي هذا المنحى، يجب على تشكيلات المعارضة التمثيلية، والمعارضة غير التمثيلية كتنظيمات المجتمع المدني، القيام بفضح هذا العمل وإدانته، وفضح أي طرف دولي يقوم به وفي مقدمتهم الروس، وتهديد كل من سيشارك من السوريين في قتال خارج الأراضي السورية كمرتزق، بالمحاسبة القانونية والمعنوية مستقبلًا.
3- إن انحياز النظام السوري إلى الجانب الروسي قد يُبدّل الموقف الغامض أو غير المكترث لبعض الدول الغربية الداعمة لأوكرانيا، من النظام السوري والقضية السورية، وعليه يمكن للمعارضة التمثيلية والنخب المستقلة ومنظمات المجتمع المدني المنتشرة في دول العالم، أن تستغل هذا الوضع الناشئ، وأن تشكل مجموعات توفدها إلى الدول المتدخلة في الملفّ السوري والمناوئة للحرب الروسية، وكل الدول الفاعلة في العالم، وأن تخاطب شعوب العالم بكل الوسائل المتاحة، وأهمّها الإعلام، وتشرح القضية السورية، من حيث هي قضية شعب خرج طلبًا للحرية والكرامة في مواجهة نظام استبدادي، وتطلب دعمها للتخلص من الوجود الروسي.
ثالثًا: خلاصات واستنتاجات
1-في غزوها لأوكرانيا، أدخلت روسيا نفسها في مأزق، سيكون تجاوزه مكلفًا لها بشكل يفوق طاقتها على تحمّله لمدّة طويلة، ولم يعد بإمكانها التراجع عمّا أقدمَت عليه، ولا يملك رئيسها الشجاعة على اتخاذ مثل هذا القرار، لما سيتركه من تداعيات على روسيا وعلى الظاهرة البوتينية بشكل عام. وفي الوقت ذاته، لن يمنح الغربُ الذي اصطف بهذه القوة والتصميم خلف أوكرانيا، الطرفَ الروسي فرصة اتخاذه قرارًا بالتراجع إذا ما أراد؛ فالموقف الغربي هنا اختلف جذريًا، عما كان عليه إبّان الحرب في جورجيا أو حتى عند احتلاله القرم.
2- يتضّح من مجريات الحرب في شهرها الأول أن هناك تباينًا في حدة المواقف، بين الولايات المتحدة وبريطانيا من جهة، وفرنسا وألمانيا من جهة أخرى، بحكم مصالحهما الواسعة مع روسيا وفي مقدمتها إمدادات الطاقة، ومع ذلك فقد اتخذ الغرب وحلف الناتو قرارًا نهائيًا بإغراق روسيا في المستنقع الأوكراني واستنزافها، وسوف يحاول إلحاق هزيمة بروسيا قد تكون أشد مرارة وأثرًا مما واجهته في أفغانستان، وذلك بحكم التطور التقني الهائل في المعدات العسكرية المستخدمة من جهة، ومن جهة أخرى بحكم أن الصراع يجري على الأراضي الأوروبية، ويهدد أمن أوروبا واستقرارها؛ والرئيس بايدن يؤكد في تصريحاته المتكررة، أن “أوكرانيا لن تكون نصرًا روسيا”.
3- من المبكر الحديث عن إمكانية التوصّل إلى وقف نهائي للحرب، ذلك أن شروط السلام غير متوفرة بعد، كما أن محاولات الوساطة التي تقوم بها تركيا، أو التي يمكن أن تقوم بها أطراف أخرى، من غير المتوقع أن تكون لها حظوظ من النجاح؛ فروسيا لا تستطيع التراجع دون أن تحقق بعض أهدافها، وأقلّها أن تحفظ ماء وجهها أمام أتباعها وشيئًا من مكانتها على الساحة الدولية كقوة كبرى. ومن الطرف الآخر، سوف تعمد الدول الداعمة لأوكرانيا إلى وضع العراقيل في وجه تلك المحاولات، ويُرجح أن هذه الدول التي ترعى محاولات التوصل إلى حلول لن تستطيع الثبات طويلًا على موقفها في الحياد، إذا ما تعمّق الاستقطاب الدولي، فهي في النهاية سوف تصطفّ خلف مصالحها، ومصالحها في هذه الحالة مع الغرب.
4- هناك احتمال كبير بأن تعمل الولايات المتحدة وحلفائها على إشغال روسيا في الدول المتدخلة بها، لتعميق المأزق الروسي، وهنا تحضر سورية ضمن أحد احتمالين: الأول، وهو المرجح، أن تحضر سورية بصفتها خيارًا مناسبًا جدًا، حيث إن فيها قواعد عسكرية روسية جوية وبرية وبحرية وشركات أمنية ومصالح اقتصادية، وفيها كذلك بنية عسكرية وسياسية للمعارضة، وهذه يمكن إعادة تنشيطها، بهدف إزعاج الوجود الروسي وتكبيده مزيدًا من الخسائر، وهذا الاحتمال -في حال تحوّله إلى سياسة وخطط أميركية- يُعَدّ فرصة أمام المعارضة السورية لاستعادة بعض دورها وقرارها، الذي خسرته لصالح بعض الدول الداعمة لها.
والاحتمال الثاني أن تعمد الولايات المتحدة وحلفاؤها إلى تكثيف جهدهم العسكري المضاد في أوكرانيا، وأن يترك الوضع السوري لتتفرد فيه روسيا وتفرض حلولها، إذا ما قررت الولايات المتحدة التخلي عن سياستها الحالية القائمة على عرقلة الحلول الروسية، وهذا السيناريو يفرض على المعارضة السورية السياسية والعسكرية الاستعداد لمواجهته، وإن كان احتمال وقوعه قليلًا؛ لأن روسيا إذا سارت الأمور بهذا الاتجاه، فإنها ستعتمد جهدًا عسكريًا أشدّ عنفًا مما مارسته في السابق، لفرض حلولها، ومحاولة تحقيق نصر يعوّضها عما هو متوقّع لها من خسارة في أوكرانيا.
5- بما أن مفاوضات فيينا حول الملف النووي الإيراني ما زالت قائمة، على الرغم من التصريحات المتناقضة حول سيرها، وبما أن إيران موجودة إلى جانب روسيا في سورية كحلفاء للنظام، فإن توقع تبدل الموقف الأميركي حيال الملف السوري يبقى مستبعدًا حاليًا، لأن للعودة إلى الاتفاق النووي مع إيران أولوية قصوى لدى الإدارة الأميركية.
المصدر: مركز حرمون للدراسات