ابحث عن تقاطعك معي.. لا عن قطيعتي

سامر الطه_ سيريا برس

 في رسالة الإسلام، تبدأ فكرة التغيير من الداخل، من الإنسان نفسه. فالتغيير ليس مجرد شعار يُرفع أو رسالة يُنادى بها، بل هو إيمان راسخ بالمبدأ، والتزام صادق بالأخلاق والقيم. ومن هذا الانطلاق الداخلي، ينتقل الإنسان نحو مرحلة التغيير الجمعي، فكرياً واجتماعياً، وهي رحلة تحتاج إلى سنوات من العمل المتواصل ولا تُفرض بالقوة ولا تُختزل بالشعارات.

وبالعودة إلى ما درسته في علم السلوك الإنساني، ضمن “نظرية الاختيار والعلاج الواقعي” لواضعها وليام غلاسر، فإن التغيير الحقيقي الآمن والمستدام للشخص نفسه لا يجده عند الآخرين، بل يجده في داخله، في سؤال جوهري مهم: ماذا أريد؟ وماذا فعلت لأحقق ما أريد؟

وقبل أن تبحث وتحاول تغيير الآخرين، بادر بإلقاء نظرة صادقة على تقييم سلوكك تجاههم.

كتبت هذه المقدمة، لأنني أرى في عالمنا الافتراضي اليوم مشهداً صارخاً لمحاولات مستميتة لفرض التغيير على الآخرين، لا بروح الحوار، بل بمنطق “ما يناسبني فقط”، وبآلية تقوم على ابتزاز الخصوصية والاعتداء العلني بأسلوب لا يمت إلى الإسلام ولا إلى أي دين، ولا إلى الأخلاق أو القيم بأي صلة.

البعض يمنح نفسه بجهل أو غرور حق التطاول والإهانة، يطلق أوصافاً قبيحة لا تليق إلا بمن يلفظها. والمفارقة الساخرة أن هؤلاء غالباً ما يحملون بأيديهم صكوك الوطنية، وتفويضات الثورة، ومفاتيح الغفران والعقاب، وربما، ولا تستغرب، عندما تراهم يوزعون صكوك الحياة والموت أيضاً!

وقد شهدنا نماذج مماثلة في التاريخ، فعلى سبيل المثال، عندما قامت الحرب الفيتنامية في الستينات، ظهرت في أميركا احتجاجات واسعة من قبل الشباب كانت آرائهم تقف ضد الحرب، وقد اصطدمت احتجاجاتهم غالباً بمؤسسات وشخصيات سياسية أرادت منهم امتثالاً كاملاً وطاعة عمياء لقرار الدولة تحت شعار الوطنية.

وبالرغم من أن موقف هؤلاء الشباب واحتجاجهم كان من باب الدفاع عن قيم الحرية ذاتها، إلا أن ذلك لم يمنع من تخوينهم.

وهذا يعكس طبيعة المجتمعات التي تخشى الاختلاف، وتعتبر النقد جريمة، والاختلاف خيانة.

إن ثقافة الاختلاف تحتاج إلى مزيج نادر من النضج الفكري والثقافي والمعرفي والأخلاقي. واحترام الرأي المختلف ومناقشته بموضوعية علامة وعي. وتعدد الآراء ظاهرة صحية تشير إلى نضج المجتمعات واستعدادها للنهوض.

وأغلب المجتمعات التي تسقط هي المجتمعات التي لا تحتمل التنوع، والتي تقوم على صوت وفكر واحد، وتعمل على تكميم الأفواه وقمع الحريات، مما يدفع شعوبها حتماً إلى الثورات مهما طال زمن الاستبداد.

وكما قال الفيلسوف الانكليزي “جون ستيوارت ميل” في كتابه “عن الحرية”

(الآراء المخالفة قد تكون صحيحة جزئياً أو كلياً، فإن خنقناها حرمنا أنفسنا من فرصة التعلم أو التصحيح).

وفي السياق ذاته، فإن الشعوب التي تمتلك ثقافة الثورة، وتعي مبدأ الحقوق والواجبات والحريات، وتؤمن بألوان الفكر والمعتقد، لا يمكن إعادة قولبتها كعلب السردين. ونموذجنا السوري خير شاهد، فرغم الشتات الذي فرض علينا، انبثقت من قلب المأساة بذور حياة جديدة.

عبر أكثر من عقد من الزمن، ارتشفنا من مشارب وتجارب متنوعة، واكتسبنا خبرات واسعة ستنعكس، شاء البعض أم أبى، إيجابياً على مستقبل مجتمعنا. وهذا يحتم علينا أن نطرح أفكارنا بشجاعة، وأن نصغي بصدق لأفكار الآخرين، بلا مواقف مسبقة ولا أحكام جاهزة ودون إقصاء، لأن المجتمع الحقيقي يتسع للجميع.. أو لا يكون.

لذلك، من حقك أن تختلف معي فيما أطرح، وهذا أرحب به. ولكن ليس من حقك أبداً أن تعتدي علي لفظياً أو بأي طريقة أخرى.

وليس من حقك أن تتسلل إلى منظومتي الفكرية لتعيد ترتيبها حسب أهوائك. نحن لم نخلق لنتحول إلى نسخ كربونية مكررة عن بعضنا البعض، لأن اليوم الذي نصبح فيه كذلك… سنفقد وجودنا الإنساني ونبدأ بالاندثار.

سامر الطه _ سيريا برس

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

آخر الأخبار

أفكار وآمال السوريين بين الاغتراب والداخل

اتسعت ابتسامة السوريين ذلك الفجر المفعم برائحة الياسمين وبعبق قلوب الأمهات تناجي أولادها "تحررنا هل من عودة"، دموع انهمرت لساعات حول العالم كغيمة صيف...

الحرب الثانية في درعا.. الجفاف ونزيف البشر

على كتف بحيرة، أضحت أثرًا بعد عين، ترامت مراكب صغيرة حملت ذكريات المصطافين لسنوات طويلة غير معلومة، واضمحلت المياه إلى أن تلاشت، ثم تحول...

مستشفى تشرين .. مصنع شهادات الموت المزورة لآلاف المفقودين السوريين

الصور الصادمة التي شاهدها العالم لآلاف السوريين وهم يبحثون عن ذويهم المعتقلين والمختفين في سجن صيدنايا، بعد سقوط حكم الرئيس السوري المخلوع بشار...

سوريّات في فخ “تطبيقات البث المباشر”..بين دعارة إلكترونية واتجار بالبشر

يستقصي هذا التحقيق تفشي “تطبيقات البث المباشر” داخل سوريا، ووقوع العديد من الفتيات في فخ تلك التطبيقات، ليجدن أنفسهن يمارسن شكلاً من أشكال “الدعارة...

ابتزاز واغتصابٌ وتعذيب.. سوريون محاصرون في مراكز الاحتجاز اللّيبية

يستقصي هذا التحقيق أحوال المحتجزين السوريين في ليبيا خلافاً للقانون الدولي، وانتهاكات حقوق الإنسان داخل مراكز احتجاز المهاجرين، وخاصة تلك التي تتبع “جهاز دعم...
Exit mobile version