مهما بدا موقف الأطراف الدولية المتحالفة ضد “بوتين” متماسكاً وصلباً، فإنه يحمل في بنيته كثيراً من نقاط الضعف، قد تتسبب بانفراطه وتشظّيه، ومهما استمات الأميركيون في محاولتهم لإبقاء النظام العالمي القائم على ما هو عليه، فإنهم لن يتمكّنوا من وأد حقيقة أن عالما جديدا يولد اليوم، قد لا يكون أفضل مما هو الآن، لا بل ربما يكون أسوأ بكثير، لكنه بكل الأحوال مختلف إلى حد كبير.
ربما اعتقد الأميركيون وحلفاؤهم أن السيناريو الذي أدى إلى انهيار الاتحاد السوفييتي سوف يكون ناجحا ومناسبا مرة أخرى، متناسين أو متجاهلين لحقائق عديدة لم تعد تطابق تلك المرحلة، منها أن مستوى وطريقة المعيشة في أغلب هذه الدول تحسن كثيرا عما كان قائما، ومنها ما تسببت به الغطرسة التي تعامل بها الغرب مع تلك الشعوب من إعادة إحياء عصبيات كانت قد تراجعت، والأهم من كل هذا أن بنية النموذج الغربي الذي عززت الثنائية القطبية حينئذ تماسكه بدأ يتصدع في داخله، وبدأ شد عصب هذه الشعوب بحجة مواجهة الخطر الشيوعي يفقد مبرره وقدرته على التأثير، وبدأت تصدعات حقيقية تظهر داخل هذه المجتمعات.
في الرهان على هزيمة روسيا اقتصادياً، ومن ثم انهيارها من الداخل كمقدمة ضرورية وكخطة وحيدة لهزيمة بوتين، هناك الكثير من الوهم
لا يمكن إلحاق هزيمة عسكرية ببلد تحكمه ديكتاتورية لا تزال تفرض قبضتها القوية على كل مفاصله، ومدجج بسلاح نووي، ولديه القدرات الاقتصادية لتحمل نتائج حرب أو حصار، وأيضا لا تزال الأيديولوجيا أو العصبيات الأخرى قادرة على الفعل فيه، إلا إذا اعتبرنا الحرب النووية التي قد تودي بالعالم كله هزيمة لطرف وانتصارا لطرف آخر، وفي هذا كل الجنون.
في الرهان على هزيمة روسيا اقتصادياً، ومن ثم انهيارها من الداخل كمقدمة ضرورية وكخطة وحيدة لهزيمة بوتين، هناك الكثير من الوهم، فما يفعله الاقتصاد في مجتمع ما، قد يختلف كثيراً عما يفعله في مجتمع آخر، إنها لعنة الديمقراطية، أو لعنة الديكتاتورية، انظروا إلى سوريا التي أعادها حكم عائلة الأسد إلى العصور الوسطى.
لا يدخل خضوع الشعوب واستكانتها في حسابات الاقتصاد، فما يتقبله شعب قد يصل حد العبودية، وما يثور لأجله شعب آخر قد يُعد ترفاً بنظر شعب آخر، ما بين ثقافتين مغلقة ومفتوحة، وما بين فهم الحرية وحاجتها يذهب العالم لمخاضه الجديد.
إذا كانت الليبرالية وحقوق الإنسان ومفاهيمها تشّكل الخطوط العريضة لسياسات الدول الغربية، فإن هذه السياسات تنطوي على فصام واضح، يمكن تلمسه بسلوكها المتناقض حيال شعوبها من جهة، وحيال شعوب الدول المنهوبة أو التابعة لها من جهة أخرى، هذا التناقض دفع للتشكيك بمدى صدقيَّة قيم الليبرالية وحقوق الإنسان، وساهم في بقاء أنظمة ودول لا تزال تعتمد قمع الأفراد، وعدم الاهتمام بحقوق الإنسان.
اليوم تقف أوروبا في مواجهة مسلمات، ظلت لعقود تتفاخر بأنها أصبحت وراء ظهرها، ويبدو أنه كان يكفي ظهور قائد مهووس بالعظمة ومتغطرس كبوتين، كي يعيد خلط مفاهيم وتحالفات ومعادلات صمدت لزمن طويل، وكي يقف العالم أمام رعب الانهيار الاقتصادي، أو الاجتماعي، أو البيئي. وفي مواجهة هذا المخاض الجديد، ترتبك أوروبا، وتتلعثم، وتتخبط كما لو أنها تتهجى من جديد ما اعتبرته منسياً.
لولا تطرف بوتين، وتبعية أوروبا لأميركا، لكان بالإمكان تشكيل عالم مغاير، وأكثر استقراراً، والقول أن أوروبا وروسيا اضطرتا مرغمتين إلى هذه المواجهة الحتمية، هو قول قد لا يكون صحيحاً، رغم كل محاولات تسويقه من قبل الماكنة الإعلامية الأميركية، والإدارة الأميركية التي تعتبر أن مركزية وأولوية أهدافها، هي مواجهة الصين وتحجيمها، والحد من قوتها بوصفها التهديد الحقيقي للسيطرة الأميركية، وتريد أن ترغم روسيا وأوروبا على دفع ثمن هذه المواجهة أولاً، وإرغامهما لاحقاً على الوقوف تحت وصايتها، في معركتها القادمة مع الصين.
إلى متى ستحتمل أوروبا واقتصادها هذه المواجهة المفتوحة، وهل ستتقبل شعوبها التي تعيش بمستويات من الرفاهية، أصبح التنازل عن مستواه الراهن معضلة قد تفجّر مشكلات خطيرة داخل هذه المجتمعات، ليس هذا فحسب بل وإلى أي حد يمكن لأوروبا أن تزج باقتصادها في سباق تسلح مجنون، سينعكس بكل تأكيد على مجمل ركائز مجتمعاتها؟
لن ينتصر بوتين.. حتى لو احتل أوكرانيا بالكامل، لكنه لن يهزم وحيداً، إنه اللغز الذي كان على أوروبا أن تبحث عن حل له، وقد كان بالإمكان إيجاد هذا الحل بتجرع قليل من المرارة، لكن ما اختارته أوروبا هو استبدال هذا القليل من المرارة بمرارة أكبر بكثير، مرارة قد تودي باتحادها ورفاه شعوبها، وانهيار منظومة قيمها، التي عاشت عليها بعد الحرب العالمية الثانية.
اليوم تحاول أميركا أن تحشد كل ما تستطيع في مواجهتها الراهنة مع روسيا، تحضيراً لمواجهتها المقبلة مع الصين، هناك من يبحث لنفسه عن موقع أفضل في معادلة هذا الصراع، وهناك من يذهب للانخراط به.
لماذا كسرت السويد حيادها الذي استمر أكثر من قرنين، وما الذي ستجنيه من انضمامها لحلف الناتو، وإذا كان الهدف المعلن، والذي يذهب إليه محللون كثر حول الحماية والخوف من حرب، قد يغامر بها متعصب وديكتاتور مثل بوتين، فهل يضمن السويديون أن لا يكونوا يوماً هدفاً لحرب عسكرية أو غير عسكرية من أطراف أخرى مثل أميركا، لنقرأ تاريخ أوروبا وتحالفاتها وحروبها عبر التاريخ، ومنها تاريخ السويد، سنجد أن تحالفات كثيرة انقلبت بين ليلة وضحاها، وأن جيوشاً عديدة غيّرت تحالفاتها، وعكست جهة فوهات مدافعها بسرعة؟
يمكن لديكتاتور مثل بوتين أن يواصل مغامرته، حتى لو تهجّر ملايين الروس أو قتلوا، تماماً كما فعل حليفه بشار الأسد، وتماماً كما سيفعل كل حلفائه لو واجهوا المشكلة ذاتها
ستختنق روسيا ربما بسرعة أكبر من اختناق أوروبا، لكن اختناق روسيا قد يغرق أوروبا بموجة لجوء جديدة، ويمكن لديكتاتور مثل بوتين أن يواصل مغامرته، حتى لو تهجّر ملايين الروس أو قتلوا، تماماً كما فعل حليفه بشار الأسد، وتماماً كما سيفعل كل حلفائه لو واجهوا المشكلة ذاتها، عندئذ ستجد أوروبا نفسها أمام معضلة بالغة التعقيد، ستضيف عبئاً ثقيلاً على نسيجها الاجتماعي الذي لم يعد يحتمل، والذي دفعته موجات اللجوء السابقة إلى إعادة التفكير في مجمل قيمه، وثقافته، وقوانينه، وتسببت أيضاً في نمو سريع ومهتاج لأفكار اليمين والتعصب والعنصرية.
لا خيارات كثيرة أمام دول أوروبا، وما بين التشدد في مواجهة بوتين من قبل عدد من الدول الأوروبية، وبين مهادنته والبحث عن تسويات من قبل عدد آخر، يبدو الموقف الأوروبي متخبطاً، وقد يشهد تبدلات قد تغير الكثير من مسار هذه المواجهة المفتوحة ربما لفترة طويلة.
بسام يوسف _ تلفزيون سوريا