“منذ ولادتها.. ابنتي الصغيرة ترافقني إلى العمل.. فأسعار الحضانات فلكية” تقول كنانة، مدرسة الكيمياء الشابّة تضطر لاصطحاب طفلتها الرضيعة إلى العمل يومياً، فهي صغيرة جداً للبقاء في المنزل وحدها، وليس لدى كنانة خيارات أخرى للأسف..
تواجه النساء العاملات، الأمهات منهنّ على وجه الخصوص، في تركيا، مصاعب في إيجاد مرافق داعمة لهنّ ولأطفالهن أثناء العمل، ما يمنع الكثيرات من الدخول إلى سوق العمل التركية.
تم إنتاج هذه المادة الصحفية بدعم من “JHR”صحفيون من أجل حقوق الإنسان”
تقيم كنانة (30 عاماً) في اسطنبول، وتقدّم دروساً خاصة في مادة الكيمياء للطلاب السوريين بمردود ماديّ متواضع، وتواجه صعوبة شديدة في الحصول على عمل ثابت براتب شهري، لعدم توفر مكان لرعاية طفلتها الصغيرة.
تقول كنانة “المعيشة صعبة وعندي طفلة رضيعة، الحضانات المناسبة أسعارها فلكية، وأنا ما عندي قدرة أدفع أقساط ولا عندي قدرة إني أترك العمل”.
بحسب رصدنا لأسعار الحضانات الخاصة في تركيا، يبدأ القسط الشهري بـ 1800 ليرة تركية، في حين يبلغ الحد الأدنى للأجور في سوق العمل التركي 2800 ليرة تقريباً. من الواضح أن كنانة ومثيلاتها من الأمهات العاملات لن يكنّ قادرات على تحمل نفقات الحضانات.
كنانة ليست أصعب الحالات، لكنها واحدة من مئات الأمهات صاحبات الكفاءات العلمية والمهنية، والمحرومات من فرص العمل، بسبب عدم وجود حضانات أطفال بأقساط شهرية معتدلة.
وبحسب استطلاع رأي منشور من قبل “روزنة” عبر الانترنت، شاركت فيه 132 أم سورية مقيمة بتركيا، جاءت معظم إجابات المشاركات، بأن الحضانات الخاصة المرخصة غالية جداً ولا تتناسب والدخل الشهري.
راتب واحد لا يكفي
تشهد الليرة التركية في الفترة الأخير تراجعاً قياسياً، يتحمل عبأه ذوي الدخل المحدود، والآلاف يعانون من البطالة، خاصة خلال جائحة كورونا والإغلاقات المتكررة التي تفرضها الحكومة لمواجهة المرض.
يعمل الكثير من السوريين بمردود مادي منخفض، وأقل من الحد الأدنى للأجور، بسبب انتشار العمالة غير الشرعية، حيث بلغ عدد الحاصلين على إذن العمل وفق البيان الصادر عن وزارة العمل والضمان الاجتماعي في 31 آذار 2019 فقط 31185 شخصًا.
لمى “اسم مستعار” 39 عاماً تعمل في ورشة خياطة بولاية غازي عينتاب، اضطرت ابنتها هلا 14 عاماً لترك المدرسة من أجل رعاية إخوتها في ظل غياب الأم عن البيت.
تعبر لمى عن استيائها لـ “روزنة بسبب ترك ابنتها المدرسة قائلة “بترك ولادي الصغار مع أختن، للأسف تركت المدرسة لنعيش، عم تدير بالها عليهم بغيابنا، زوجي ما عنده ضمان اجتماعي، وأنا بمشغل خياطة، راتب واحد ما بيكفي”.
حضانات غير مرخصة.. هل الأطفال بخطر؟
يحتاج افتتاح روضة أطفال، أو حضانة في تركيا إلى موافقات وتراخيص رسمية، ومستويات واختصاصات دراسية معينة للقائمين عليها، وبالرغم من ذلك الحضانات غير المرخصة وأماكن رعاية الأطفال، وعمل المربيات بدون أية أهلية منتشر في البلاد، وخاصة بين أوساط السوريين. تلجأ العديد من الأمهات لهذه الحضانات، بسبب رخص أقساطها الشهرية وطول ساعات دوام الأطفال بما يتناسب وظروف عملهنّ.
تقول المحامية علياء العلواني في حديثها لروزنة حول الوضع القانوني للحضانات في تركيا: “لا يحاسب القانون التركي الأهل على إرسال أطفالهم إلى حضانة غير مرخصة”، وتضيف أن “لهم الحق بتقديم شكوى إلى الجهات المعنية لمحاسبة إدارة الحضانة المخالفة، يصل حد المخالفة إلى إغلاق الحضانة والتغريم القضائي بمبالغ مالية كبيرة”.
وتتابع المحامية العلواني: “تلتزم الحضانات القانونية عادةّ بالشروط والمعايير المحددة من قبل الحكومة التركية، حيث تتم متابعتها من قبل لجان تفتيش متخصصة، عبر تقارير دورية تقدمها لها إدارة الحضانات حول تفاصيل نشاطات الحضانة والكوادر الموظفة ومعلومات عن الأطفال المنتسبين للحضانة، كما تراقب هذه اللجان التزام الحضانات بالمعايير القياسية، عبر جولات تفتيش مفاجئة”.
تهدف هذه الإجراءات إلى حماية الأطفال بالدرجة الأولى، وتفتقر الحضانات غير المرخصة لهذه المتابعات، مما قد يعرض الأطفال ضمنها لأخطار مختلفة، كما حصل مع ابن روان البالغ من العمر 3 سنوات، تقول روان: “25 طفلاً في الغرفة مع مربية واحدة، الوضع كارثي.. أخذت ابني خلال شهر واحد 3 مرات إلى المشفى بسبب العدوى بالأمراض التنفسية. تركت شغلي والرزق على الله.. صحته أهم من أي اعتبار”.
أكثر من ثلاثين في المئة من النساء المشاركات في استطلاع الرأي المنشور من قبل روزنة أرسلن أطفالهن إلى حضانات غير مرخصة. عدد من النساء المستطلَعة آراؤهن أخبرننا بتجاربهنّ وتجارب أطفالهنّ، مع الحضانات غير المرخصة.
تقول إحدى النساء: “بعتنا الولد ع حضانة على أساس رخيصة ومثلها مثل النظامية بالأخير ما بقى نلحق الولد من مستوصف لمشفى” فيما تقول سيدة أخرى: “أرسلت ابنتي إلى حضانة… وبسبب قلة الاهتمام أصيبت بعدوى القمل”
بينما تقول ثالثة: “هناك روضة سورية فكرت بإرسال طفلي لها، لكنها تفتقر إلى التهوية والنظافة، سألت إدارة الروضة فيما لو كان هناك مشرف أو مشرفة عليهم أثناء نومهم، فكانت الرد بالإيجاب، ولكنني رأيت الأطفال ينامون وحدهم في الغرفة”.
إحدى النساء المستطلَعات عملت بنفسها في روضة غير مرخصة، وشاركتنا تعليقاً محزناً ومثيراً للاهتمام عندما كتبت: “اشتغلت بروضة غير مرخصة، شي بوقف القلب، الوسخ.. وعدم النظافة.. والتعامل البشع… وضرب الأطفال”
طفلك غير مطابق للمعايير
قالت المحامية علياء العلواني لروزنة: تتمتع الأمهات العاملات وفق القانون التركي بحق الحصول على إجازة أمومة مدتها 16 أسبوعاً. ويمكن للأم العاملة الحصول على إجازة دون أجر لمدة 6 أشهر كحد أقصى، وتعتبر هذه الإجازة الغير مأجورة لاحقة للأمومة، لكنها تشترط موافقة “صاحب العمل”، هذا الحق لا يفرق بين المواطنة التركية والأجنبية العاملة بموجب تصريح عمل.
كما تؤمّن الحكومة التركية دور حضانة وروضات حكومية، بأسعار مقبولة لكن بشروط لا تتناسب والأمهات العاملات، حيث أن غالبية الحضانات المنتشرة، هي التي تشترط أن يكون عمر الطفل 3 سنوات كحد أدنى.
تعمل خلود (33 عاماً) مترجمة في مشفى للتجميل باسطنبول، تبدو خلود سعيدة بطفلها الصغير البالغ من العمر سنة واحدة، ولكنها ومنذ ولادتها تواجه مشكلة الاستمرار بالعمل، بسبب الصغير، تقول خلود: “ابني عمره سنة وين بدي حطه؟ أخدت إجازة الأمومة وإجازة بلا أجر.. وبعدين؟ مجبورة أرجع على شغلي لأمّن عالأقل حق حفاضات الصغير وحاجاته”.
في آخر إحصائية أجرتها جمعية Mülteciler التركية وهي جمعية متخصصة بمساعدة اللاجئين وطالبي اللجوء والتضامن في تركيا، لعام 2021 بلغ عدد الأطفال السوريين ما بين عمر يوم وعمر أربع سنوات 511.207 طفلاً، فيما الأطفال بين الخمس والتسع سنوات 571.357 ووفق بيان وزارة التربية التركية 2021، تم الإعلان عن ضمّ 35 ألفاً و707 طلاب سوريين إلى رياض الأطفال فقط.
الحضانات في تركيا تتبع لوزارة التربية ولا تفرّق بين المواطن والأجنبي من حيث التسجيل، إلا أن عوائق عديدة تواجه السوريات، منها اللغة وعدم وصول الأهالي إلى مواعيد التسجيل المفتوحة، الكثير من الأهالي يحاولون تسجيل أطفالهم في الروضات وتكون عبارة “لا توجد مقاعد شاغرة للصغير” لهم بالمرصاد.
ابني مع جدته.. رفاهية تفقدها الكثير من السوريات
“زميلتي في العمل بنفس ظروفي مع فارق وحيد، طفلي كل يوم مع واحدة من الجارات، بينما طفلها مع جدته ينعم بالدفء والرعاية والحب بالبيت” تتحدث خلود العاملة في مستشفى تجميل عن زميلتها بورجو التركية التي تترك رضيعها مع جدته.
بورجو أيضاً ممرضة في مستشفى التجميل تشكو غلاء الحضانات وعدم قدرتها على ترك العمل فقد قالت لروزنة “وصلت لمكانة مهنية جيدة وعالية، أنا أعلم بأن طفلي يحتاج حضن والدته لكني لن أضحي بفرصة مستقبل جيد لي وله أيضاُ. حماتي تعوض غيابي”
عند سؤالنا لعينة النساء المشاركة بالاستبيان “هل يوجد لديك أقارب يمكن الاعتماد عليهم برعاية الأطفال فترة غيابك أثناء العمل؟ فقط ربع الأمهات المستطلعات أجبن بـ نعم.
المنظمات غائبة
قلة هي المنظمات التي تعمل في مجال تمكين النساء السوريات اقتصادياً في تركيا، يقول رئيس مجلس إدارة منظمة Start Point أسامة الحسين “اهتمام الأكثرية مركز على النساء في الشمال السوري، كما أخبرنا بأنهم ضمن المنظمة قد عمِلوا، منذ سنتين، على مشاريع لتمكين اللاجئات السوريات اقتصادياً في تركيا، وأشار في حديثه إلى تحدٍ غير متوقع قائلاً: كثيرات هن النساء اللواتي لم يكملن ورشات العمل، لعدم توفر بيئات حاضنة لأطفالهن عند انشغالهن بالورشة”.
ويوضح الحسين أن تجربتهم مع الأمهات في تركيا كانت حافزاً للتفكير بتخصيص مكان لرعاية الأطفال خلال فترات التدريب ونشاطات الورش في الشمال السوري.
مسؤولية الأم وحدها
تنص اتفاقية “سيداو” والتي وقعت عليها تركيا منذ عام 1985 على حق المرأة في العمل. وتطلب الاتفاقية في الجزء الثاني من المادة 11، حظر ومعاقبة الفصل عن العمل بسبب الزواج أو الحمل. وتطلب من الدول أيضا وضع تشريعات لإجازات الأمومة، وخلق شبكة من مرافق العناية بالأطفال لمساعدة الأمهات العاملات، وتوفير حماية للنساء الحوامل في بيئات العمل التي قد تكون ضارة بصحتهن.
وتبقى رعاية الأطفال في أذهان الكثيرين لصيقة بالنساء، يواجهن التحديات ويقدمن التضحيات وحدهن، أمهات “مكرًمات” مضحيات بكل شيء في سبيل راحة أطفالهن ورعايتهم، وهذا ما يحول دون حصولهن على حقهن في العمل، واستقلالهن الاقتصادي. كما يوسع الفجوة بين الواقع والمناشدات بالمساواة بين جميع أفراد المجتمع.
التصاميم: دليار علي
كاتيا الداغستاني أكسوي _ روزنة