بعد أن تراكمت ذكرياته فيه، يحاول يوسف (48 عامًا) بيع منزله في حي سيف الدولة داخل حلب، بعد 24 عامًا على شرائه، ففي كل يوم تزيد الدوافع التي تعزز لديه فكرة الهجرة إلى الخارج، ما جعله يقبل التخلي عن ملكية منزله مقابل مغادرة سوريا دون العودة إليها.
“سبب عرض بيتي للبيع هو حاجتي إلى ثمنه، كل ما أفكر فيه حاليًا هو الوصول إلى أربيل ومعي عائلتي، وستتاح لي الفرصة لتحقيق ذلك بهذه الطريقة”، وفق ما يأمله يوسف خلال حديث إلى عنب بلدي.
يجهّز يوسف في هذه الأيام الأمتعة لمغادرة سوريا من مطار “حلب الدولي” باتجاه مطار “أربيل الدولي” شمالي العراق، محاولًا بعدها الوصول إلى وجهته الأخيرة فرنسا، حيث يوجد من سيستقبله فيها من أقاربه الذين سبقوه إلى هناك عام 2014.
الوضع المعيشي، وغياب الشعور بالأمان بسبب تضييق الأجهزة الأمنية، وانتشار الفساد، يحبط أي أمل بتحسن الوضع العام في سوريا على اختلاف مناطق نفوذ القوى المتنازعة.
تتحول تلك المشكلات مع مرور الوقت إلى دوافع قوية لدى سوريين بأن يروا في الهجرة وعدًا بعيش حياة أكثر كرامة من البقاء في الداخل.وفي ظل هذه الدوافع، تشهد الهجرة ازديادًا في معدلاتها بمختلف المناطق السورية، تحمل هذه الزيادة تأثيرات على سوق العقارات، يُمكن اعتبارها قضية اقتصادية قد تفرز تعقيداتها على حياة الناس، دون غض النظر عن تأثيراتها الاجتماعية في المستقبل.
الهجرة كنجاة من المجهول
تابع يوسف (الذي تحفظت عنب بلدي على ذكر اسمه الكامل لأسباب أمنية) حديثه، “اشتريت البيت عام 1997 بمبلغ خمسة ملايين ونصف مليون ليرة (حوالي 100 ألف دولار آنذاك)، وفي الأشهر الماضية، عُرض عليَّ مبلغ 275 مليون ليرة (حوالي 85 ألف دولار) مقابل بيع البيت، لكنني رفضت لاعتقادي أن الأوضاع ستتحسن بعد الانتخابات الرئاسية (التي جرت في أيار الماضي)، لكن الأمور ساءت بشكل مستمر حتى صارت المعيشة لا تُطاق”.
في تموز الماضي، عرض يوسف بيته للبيع عن طريق المكاتب العقارية، حينها لم يُدفع له سوى 180 مليون ليرة (حوالي 55 ألف دولار) بحجة أن “سوق العقارات راكدة والكل يرغب بالبيع والسفر”، وفق يوسف.
يشعر يوسف بالندم لأنه رفض بيع منزله في وقت سابق، ففي هذه الفترة “هناك تحكّم من قبل المشترين، وكذلك من أصحاب المكاتب العقارية الذين يحاولون أن يحصلوا على نسبة من عملية البيع والشراء، وحاليًا السعر المدفوع هو 195 مليون ليرة (حوالي 60 ألف دولار)، وهو قليل مقارنة بالسعر الذي عُرض قبل الانتخابات”.
ينتظر يوسف نهاية أيلول الحالي، ليتسلّم ثمن بيته ويغادر حلب مع زوجته وأولاده الثلاثة، دون أي تخطيط للعودة، فـ”لا أريد لعائتلي أن تعيش أوضاعًا معيشية يصعب البقاء فيها، وحتى لو استقر الوضع المعيشي في المستقبل، الهجرة بالنسبة لأولادي نجاة من مستقبل غير واضح في بلدهم”.
توجهات حكومية تؤثّر على الإسكان
تشكّل العقارات سواء كانت زراعية أو سكنية أو تجارية عنصرًا مهمًا في اقتصاد الدولة، تتجلى هذه الأهمية من خلال الضريبة العقارية في حفظ الملكية وتداولها من جهة، وإنعاش النمو الاقتصادي عن طريق زيادة معدلات بيع وشراء العقارات من جهة أخرى.
وتتأثر سوق العقارات في سوريا بعدة عوامل ترتبط بموضوع الهجرة بشكل غير مباشر من جهة، وإصدار حكومة النظام السوري تعديلات على قوانين مالية ترتبط بالعقارات من جهة أخرى.
ففي آذار الماضي، سنّت الحكومة تعديلات على قانون “ضريبة البيوع العقارية”، الذي رفع الضريبة التي تحصل عليها الدولة على حركة بيع العقارات، فشهدت السوق ركودًا ملحوظًا تبعته زيادة في العقارات المعروضة للبيع.
وبعد الركود الذي شهدته سوق العقارات بسبب القانون، الذي يعتمد على استيفاء الضريبة على العقارات المباعة بالاعتماد على قيمتها الرائجة بدلًا من القيمة المعتمدة في السجلات المالية، عادت السوق إلى فعاليتها من جديد من حيث العرض فقط.
إذ توجد إشكالية في هذا القانون بطريقة تقييم سعر العقار، وفق ما يراه الدكتور السوري في الاقتصاد والباحث في معهد “الشرق الأوسط” بواشنطن كرم شعار في حديث إلى عنب بلدي.
قبل تعديل القانون، “كان يتم تقييم السعر بناء على القيمة الدفترية التاريخية الموجودة في سجلات الدولة والموثقة كنتيجة لآخر عملية بيع، أما في التعديل الحالي، فتقوم لجنة حكومية بتقدير العقار بسعره السوقي الحالي، وهو ما قد يتجاوز السعر التاريخي بعشرات الأضعاف لعقار بُني في الثمانينيات مثلًا وذلك نتيجة التضخم”، وفق ما أوضحه شعار.
بالتالي، فإن التوجهات الحكومية أثّرت على سوق الإسكان في سوريا خلال الفترة الماضية، وفق شعار، فمن خلال القانون الجديد للبيوع العقارية، تسعى الحكومة إلى “منع التحايل من خلال عدم السماح للبائع والمشتري بالتصريح عن سعر أقل من سعر البيع الحقيقي لتقليل الضريبة، وذلك من خلال جعل عملية تقييم السعر مستقلة تمامًا عنهما (لجنة حكومية)”.
عرض مرتفع مقابل طلب منخفض
أولئك الذين لجؤوا إلى خارج سوريا بالملايين في الأعوام السابقة، والذين يغادرون حاليًا أو يخططون للمغادرة، هم “جزء من الطلب في سوق الإسكان، وهذا الجزء أُلغي بسبب مغادرتهم البلاد”.الفارق بين العرض والطلب في سوريا لم يكن كبيرًا قبل 2011، أي أن الطلب كان ينخفض مقابل انخفاض العرض، وفق شعار، ولكن مشكلة سوق الإسكان حاليًا هي ضعف القدرة الشرائية عند الأفراد بسبب ضعف النمو الاقتصادي في الدولة.والأمر الذي يؤثّر على قدرة الأفراد الشرائية هو الدخل المتاح لهم ولعائلاتهم، هذا الدخل المتمثل برواتب الموظفين انخفض بعد 2011.
وتتصدر سوريا قائمة الدول الأكثر فقرًا في العالم، بنسبة بلغت 82.5%، بحسب بيانات موقع “World By Map” العالمي، التي حددت إحصائيات السكان الواقعين تحت خط الفقر في كل دولة من دول العالم.
والتباعد بين العرض والطلب في سوق الإسكان يرجع، بالإضافة إلى ضعف القدرة الشرائية لدى الأفراد، إلى تردد المستثمرين بإقامة مشاريع في مجال الإعمار.
تردد المستثمرين يعود لعدة عوامل، بحسب ما أوضحه شعار، أولها “تذبذب أسعار المواد الأولية المخصصة للبناء”، وبالتالي فإن المستثمر لن يستطيع أن يدرس جدوى مشروعه وكمية الربح والخسارة فيه، ولن يعرف المبلغ الذي سيبيع من خلاله الوحدات السكنية بعد الانتهاء من البناء، وهذا يصعّب عملية التخطيط للاستثمار في العقارات.
العامل الثاني الذي يؤثّر على انخفاض الطلب مرتبط بمواضيع تمتد على المدى البعيد، وهي عدم وضوح المستقبل بالنسبة للمستثمرين، فالأماكن التي قد يتجه إليها المستثمر للبناء فيها، قد تتغير بعد فترة الجهة المسيطرة عليها، وبسبب العمليات العسكرية، قد يخسر المستثمر مشروعه، وهذا يؤثّر في الطلب وعلى رغبة وتفضيلات المشترين في المناطق والأحياء حسب طبيعة ومواقع المشاريع.
وفي 2019، نشر معهد “الأمم المتحدة للبحث والتدريب”، تقريره الذي عرض نسبة الدمار في 16 مدينة ومنطقة سورية، هذه النسبة الكبيرة من الدمار من شأنها أن تجعل المستثمرين في حالة تردد لدخول سوق الإسكان، وفق شعار.ووفق التقرير، تتصدّر مدينة حلب نسبة الدمار في سوريا بأكثر من 35 ألفًا من الأبنية والمنازل المدمرة، تليها الغوطة الشرقية بـ34 ألفًا، ثم حمص، والرقة، وحماة، وبعدها دير الزور.
لذلك، زيادة العرض في سوق الإسكان مع انخفاض الطلب أدت إلى حدوث فجوة بينهما، الأمر الذي أدى إلى انخفاض بمستوى المشاريع الاستثمارية المتعلقة بالإعمار في عدة مناطق سورية.
“قنبلة موقوتة”
يأخذ بيع العقارات لدواعي الهجرة من سوريا أبعادًا اجتماعية، من خلال بيع بعض السوريين ما يملكونه من عقارات لتأمين ثمن بطاقة حجز الطائرة أو طريق التهريب عبر الحدود، وتأمين معيشتهم في البلدان التي يقصدونها، دون وضع آلية للعودة.
تركُ سوريين بيوتهم أو أراضيهم في مناطقهم الأصلية بدافع الهجرة “يسهم بشكل كبير في التغيير السكاني”، وفق ما قاله منسق مشروع الأوراق البحثية الخاصة بحقوق السكن والأراضي والممتلكات بمنظمة “اليوم التالي”، أحمد طه، في حديث إلى عنب بلدي.
“البائع هو غالبًا أحد المهجرين داخليًا أو خارجيًا، والمشتري النهائي في الأغلب ليس من أهالي المنطقة، بل ليس من أهالي سوريا، لأن ما يقارب من 85% من السوريين هم تحت خط الفقر فكيف لهم أن يشتروا؟ من يشتري العقارات في سوريا اليوم هم إما طبقة التجار التي نشأت وأثرت خلال الحرب، وإما الميليشيات الطائفية التي أتت بدعم وتمويل إيراني”، وفق ما قاله طه.
حين تتغير التركيبة السكانية في منطقة معيّنة، كنتيجة لاستملاك عقاراتها من قبل أفراد من خارج هذه المنطقة، قد تتغير مع مرور الزمن عادات وتقاليد تلك المنطقة، الأمر الذي يدخل في فقدان الذاكرة الثقافية لها، وفق طه، فـ”التغيير السكاني لمكان ما هو عبث بالإرث الثقافي اللامادي له، وهو تغيير لهوية المكان وإحلال هوية أخرى لا تنتمي له”.
هذا العبث أو التغيير ينذر بحدوث أزمة مقبلة، و”قنبلة موقوتة تطيح بالسلم الأهلي والمجتمعي” في المستقبل، وفق تعبير طه، ستأخذ شكل صراعات طائفية وإثنية يصعب إنهاؤها.وتعتبر العادات والممارسات الاجتماعية والطقوس والمناسبات الاحتفالية من أهم العناصر المكوّنة للبيئة التاريخية في أي دولة.
في أحد حواراته الصحفية، أشار الكاتب والمفكر السوري حسان عباس إلى تعرض الإرث الثقافي السوري لعدة انتهاكات، تبدأ بـ”ظاهرة اللصوصية العالمية التي أصابت كل المواقع التاريخية في المنطقة، وهي لم تشمل لصوصية عصابات تجار الآثار فحسب، بل شملت أيضًا لصوصية سلطات وطنية أو من يحتمون بظلها”.
والتراث اللامادي لا يعيش في المواقع الأثرية ولا في المتاحف، برأي عباس، إنما في “المجتمع وفي صدور أصحابه، فإن تخرّب المجتمع وتشرّد أو قُتل أهله، تبدّد التراث اللامادي وتخرّب هو الآخر”.وفي تقرير أصدرته الأمم المتحدة عام 1951، وهو التقرير التمهيدي لمعاينة مشكلة اللاجئين، جاء فيه أن “اللاجئ هو بالضرورة من لا يملك وطنًا. هو ضحية ضعيفة ومحزنة وبريئة لأحداث لا يمكن أن يتحمل مسؤوليتها”.
وفي صميم الهجرة من سوريا بشر يسعون إلى الحصول على عمل لائق وحياة أفضل وأكثر أمنًا، لكن في الوقت نفسه، تُترك معظم ملكيات من يرحلون دون وجود سُبل للتعامل معها والمحافظة عليها، ما يمنح المؤسسات الحكومية حرية انتهاج ممارسات مختلفة تخدم مصالحها بعيدًا عن أي اعتبارات أخلاقية أو ضوابط قانونية عادلة أو تجنيب سوريا أزمات اجتماعية أو اقتصادية في المستقبل.
المصدر: عنب بلدي