اتسعت ابتسامة السوريين ذلك الفجر المفعم برائحة الياسمين وبعبق قلوب الأمهات تناجي أولادها “تحررنا هل من عودة”، دموع انهمرت لساعات حول العالم كغيمة صيف محملة بغيث تطفئ حريق لم يخمد منذ ثلاثة عشر عاماً.
التف جميع السوريين يومها حول بعضهم كون الهدف الكبير الجامع قد تحقق بهروب المافيا التي أحكمت قبضتها وتحكمت بمصيرهم وعبثت به لعقود خمسة.
قرر الشعب ضمنياً دعم الإدارة العامة للبلاد عبر إدارة العمليات العسكرية، حتى يبقى على خطى واحدة تدعم انتقال البلاد لمرحلة جديدة بعيدة عن حالة الفوضى المحتملة التي تلي سقوط أنظمة الدول عادة، وكي يضمن أيضاً عدم ظهور حالات انتقام فردية أو جماعية، أو حالات سرقة يمكن أن تطال البنوك والمتاحف وغيرها، وهذا القرار الضمني للشعب عكس حالة وعي عامة لدى الناس الذين اكتسبوا جزء جيد منها عبر تجربة تلك السنوات العجاف.
بعد مضي ما يقارب أسبوعان على بدء عمل الإدارة الجديدة، بدأت المطالب الشعبية تأخذ منحيين لن أقول متضاربين، وإنما لكل منحى وجهة نظر تراها محقة، وكلتا وجهتي النظر من الضروريات، ولكن تبقى كل جهة تنادي بأولوية مطالبها.
تحديات المشهد في الداخل
التوجه الأول يتحدث عن أولوية العودة للحياة الطبيعية، وتأمين مستلزمات العيش اليومي من مواد أساسية غذائية ومحروقات بأسعار تناسب الوضع الاقتصادي المنهك للمواطنين، إلى جانب توفير المياه كشريان للحياة والكهرباء كعصب رئيسي لإعادة دوران عجلة الصناعة.
كما تصدر موضوع عدم توزيع الرواتب وإعادة الحياة إلى الدوائر الحكومية المشهد، باعتبار أن هناك عدد لا يستهان به من الموظفين على مستوى الساحة السورية باتوا لا يعرفون مصير عملهم، ولم يعد لديهم دخل، رغم أن ما كانوا يتقاضونه لا يسد رمقهم لمدة عشر أيام كحد أقصى.
كذلك ضبط الوضع الأمني والأمان العام للمواطنين أيضاً كان من أولويات المطالب، وهذا عامل مهم لاكتمال صيرورة الحياة..
هذه المطالب كانت تثقل كاهل الناس في فترة سلطة النظام البائد، مما دفعها لتكون أولوية ملحة عند الشعب في مرحلة ما بعد هروب النظام وانتهائه، وأجّل من ناحية أخرى وبشكل مؤقت التفكير في إجراءات الوضع السياسي وما ستؤول إليه البلاد ومن سيتسلم زمام الحكم إلى ما بعد تحقيق الحد الأدنى من متطلبات العيش الكريم.. وبالوقت نفسه لا ينفي وجود فئة مهتمة ومراقبة للوضع السياسي عن كثب.
تحديات المشهد من دول الاغتراب
المشهد الخارجي مختلف اختلافاً لا بأس به عن المشهد الداخلي، كون الواقع والأرضية التي ينطلق منها السوري المهجر في دول أوروبا وتركيا مختلفة على الأقل من الناحية المعيشية اليومية، والأهداف التي يصبو إليها لا أقول أنها لا تتفق مع الداخل ولكن أقول أنها تتقاطع معه في مرحلة ثانية..
حيث الأولوية في ترقب التحركات السياسية كيف ستتجه، ومتابعة أفعال الإدارة الجديدة وتحليلها، وتصدير مواقف سياسية من حكومة تسيير الأعمال وتقييمها ونقدها.
مسألة العودة للوطن كيف ستتم وما هي الإجراءات؟
هل الوضع في الداخل مناسب للعودة وهل يمكن التأقلم معه بسرعة في ظل غياب أو شبه غياب للكهرباء والانترنت والمياه؟
هل نعود للاستقرار أم للزيارة وما هي تكاليف العودة من الناحية المادية، وما هو انعكاسها على العائلة بشكل عام وعلى الأولاد بشكل خاص، كون أن جميع الأطفال أمضوا جل حياتهم خارج سوريا أكثر من داخلها، حتى الذكريات ومرحلة الوعي تشكلت خارج سوريا، ناهيك عن ارتباطات الدراسة أو حتى جزء منهم بالعمل؟
العودة للاستقرار في سوريا مرتبطة بالنسبة للبعض بتوفر فرص العمل وهي تمثل إحدى التحديات المهمة التي تواجههم.
ولا يخفى على أحد أن السوريين في بلاد الاغتراب يقسمون أيضاً إلى قسمين، قسم مقيم في أوروبا وأوضاعهم مستقرة قياساً بالقسم الثاني المقيم في تركيا وهم يشكلون العدد الأكبر من المهجرين وهؤلاء يعيشون في تركيا كما يقال (كفاف يومهم) بمعنى لا فائض لدى العوائل يدخرونه للعودة مجدداً إلى وطنهم في ظل غياب فرص العمل وعدم وجود مسكن لهم في سوريا..
بينما من خرج من سوريا باتجاه لبنان أو باتجاه المخيمات في لبنان وتركيا والأردن فحاله يتقاطع بشكل مباشر مع السوريين في الداخل بسبب عدم الاستقرار الاقتصادي والأمني والمعيشي هناك، وعودتهم إلى سوريا تحتاج الكثير من المتابعة والرعاية والاهتمام إن كان من قبل الحكومة أو من قبل المنظمات الإنسانية.
حكومة تسيير الأعمال
تحركت الحكومة باتجاه التشكيل وعينت العديد من الوزراء، وبدأت بمتابعة الملف الأمني منذ البداية وعملت على تشكيل فرق الأمن ونشرها في المحافظات، كما أنها تعمل ما تستطيع على إيصال الماء والكهرباء وتوفير المواد الأولية للمواطن.
من ناحية أخرى تتحفظ السلطة في دمشق على إعادة توزيع الرواتب للموظفين، وتبرر ذلك بأن هناك فائض وظيفي في عدد من القطاعات من أيام النظام البائد لاعتبارات متنوعة منها الولاء والفساد، وأن قسم آخر يقبض أكثر من راتب ويمكن أن يصل إلى 6 رواتب كما تبين في التدقيقات الأولية، وريثما يتم تسوية هذه الأمور سيعاد توزيع المعاشات.. والانتظار مازال مستمراً ..
“من وجهة نظر اقتصادية، يرى بعض المحللين أن خطوة الحكومة باتجاه الاحتفاظ بالكتلة النقدية داخل البنك المركزي حتى شهر آذار تساهم في تحسن سعر الصرف مقابل الدولار”
لكن السؤال الأهم هل لدى المواطن القدرة على تحمل هذا
العبء الإضافي على كاهله؟ وما هو انعكاس هذا التصرف على عجلة السوق الداخلي والقدرة الشرائية والقطاع الخاص؟؟ هذه أسئلة برسم الإجابة..
وتم تعليق أعمال الدوائر الحكومية المهمة مثل المالية العقارية والبلدية وهذا الإغلاق انعكس ليس على الموظفين فيها فقط بل على أصحاب الأعمال الخاصة أيضاً مثل المحامين والمحاسبين والمجازين القانونيين.. وهنا تأثير وقف العجلة الاقتصادية يتسع من أصحاب الرواتب ليشمل أصحاب العمل الخاص.
على الصعيد السياسي هناك تجاهل متعمد لكافة الفعاليات والقوى السياسية بذريعة أن المرحلة تحتاج التجانس ولا مكان للتنوع ولا وقت للبحث عن قدرات تستطيع العمل معنا، مع العلم أن التعيينات التي تمت تحمل طابع الولاء لا الكفاءة، وبحسب بعض التسريبات من شخصيات التقت مع الشرع أكد لهم أن سوريا ليست بحاجة أحزاب سياسية وأنهم قادرون على إدارة سوريا وحدهم، وهذا الكلام يفهم منه سبب احجام السلطة الحالية عن تقديم أي خطة عمل أو برنامج سياسي أو حتى اقتصادي للشعب، كون أي مشروع سيخرج للعلن لا يحمل أي مبدأ تشاركي سيحملهم مسؤولية الإقصاء بشكل مباشر وهذا ما لا يريدون اظهاره للعلن الآن.
التدابير المطلوبة الآن
الظهور الإعلامي على الناس والإعلان عن البرامج والخطط بشكل واضح، وتفعيل قنوات التواصل الرسمية (تلفزيون – إذاعة – صحف) حتى لا يضطر الشعب للجري خلف الإشاعات والبحث عن الإجابات في سراديب برامج التواصل الاجتماعي، والانفتاح على الخبرات السورية الموجودة داخل البلاد (مدنية – سياسية – اقتصادية – علمية – قانونية).
اتخاذ خطوات سريعة لإعادة توزيع الرواتب المستحقة للموظفين في القطاع العام مع الزيادة الموعودة والتي تبلغ قيمتها 400%، وهذه المبالغ بحسب تصريح حاكمة البنك المركزي ميساء صابرين متوفرة لديهم..
وتترافق هذه الخطوة بعودة العمل إلى الدوائر الحكومية المهمة ومؤسسات القطاع العام بما يخدم عودة الحياة الاقتصادية والخدمية والقانونية، يضاف إليها مسألة العمل على إعادة الموظفين المدنيين والعسكريين لمن يرغب، الذين تركوا وظائفهم وتخلوا عن مواقعهم للوقوف بوجه النظام واعتراضهم على ممارساته.
وبما يخدم القطاع الحرفي والشركات الصغيرة وأصحاب المحلات التجارية، يجب إجراء تسويات أو اعفاءات عن الضرائب المتراكمة منذ العام 2011 حتى عام 2024، ليتاح لهم إعادة تمويل مشاريعهم من جديد وللتشجيع على العمل.
أما النقطة الأهم تتمثل بالكشف عن مصير المفقودين والمغيبين في المعتقلات، فالأهالي مازالوا يبحثون عن أي دليل يوصلهم لأي معلومة وهذا بند مهم جداً في هذه المرحلة، بالتزامن مع ملاحقة فلول النظام السابق وكل من تلطخت أيديهم بدماء السوريين وساهموا بتعذيب السجناء، واستجوابهم لجمع أكبر قدر ممكن من المعلومات.. وإجراء محاكمات عادلة وعلنية لكل من يقبض عليه.
هذه بعض النقاط الأكثر إلحاحاً التي يتم المطالبة بها اليوم، سوريا بحاجة الأفكار والعمل والتخطيط والتشابك والتشارك على طريق البناء.
سامر الطه _ سيريا برس