في مخيم السندباد، الواقع في البقاع الأوسط في لبنان، تعيش تغريد مع عائلتها، بعد لجوئهم من الجولان السوري عام 2012. تبلغ تغريد اليوم، السابعة عشر من عمرها، وهي غير متزوجة، وهذه الحالة ليست سائدةً في مجتمع المخيم، لتتميز، وتصبح تلك الفتاة “خارجة عن المألوف”.
تناضل الفتاة اليافعة، من أجل الاستمرار في تعليمها، وإن كان غير رسمي، لتسافر إلى سوريا، حين موعد تقديم امتحان الشهادة الثانوية العامة، وتعود إلى حياتها في المخيم، مع انتهاء الامتحانات. بعدها، ستبدأ بدراسة الحقوق، لتتخرج محاميةً في عمر الثالثة والعشرين، وتصبح مدافعةً، كما قالت، عن حقوق الفتيات والنساء.
بعد تلك الرحلة كلها، ستبدأ في التفكير بالزواج.تشبه تغريد، بطموحها، وبأحلامها، وببريق الأمل في عينيها، الشخصية الكرتونية الشهيرة “سندباد”، التي حملت ربما بالصدفة اسم المخيم الذي تعيش فيه “السندبادة” تغريد.
هذه الخطة التي رسمتها الفتاة لنفسها، لم تُعارَض لحسن الحظ من قبل عائلتها، التي تدعم نضالها في سبيل التعليم، والوصول إلى قطاع العمل، واختيار القرار بالزواج، لكنها تُعارَض من قبل المجتمع المحيط بتغريد، وبعائلتها، الذي غالباً ما يمارس ضغوطاً على الفتيات، لترك التعليم، والذهاب نحو الزواج، ويفرض عليهنّ صوراً نمطية لا تخلو من التمييز.
يقولون لكل فتاة في المخيم، تجاوزت العشرين ولم تتزوج بعد، كلمة ‘عانس’ أو ‘فاتك القطار’”.
أرقام إلى ارتفاع
تنتشر ظاهرة تزويج الأطفال، في مجتمعات اللاجئين في لبنان، وفي بعض المجتمعات اللبنانية أيضاً.يتدرع هذا السلوك القسري، بأسباب اقتصادية، وثقافية، وقانونية عديدة.
فغالباً ما تلجأ الأسر ذات الدخل المحدود، إلى تزويج بناتها، للتخلص من أعبائهنّ الاقتصادية، أو لحمايتهن، بحسب الرواية السائدة، من التحرش الذي قد يطالهنّ في بيئاتهنّ غير المحمية، ويتم ذلك ضمن إطار قانوني غير صارم.
فوفقاً لآخر تقرير نشرته منظمة اليونيسف عام 2018، فإنّ نسب تزويج الأطفال عند اللاجئين السوريين، تُعدّ الأعلى في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وما تبلغ نسبته 27% من الفتيات السوريات، و13% من الفتيات الفلسطينيات، و4% من الفتيات اللبنانيات، ممن تقل أعمارهن عن 18 عاماً، متزوجات، أو مخطوبات.
ذلك كله كان قبل الأزمة الاقتصادية، وأزمة كورونا، اللتين اشتدتا في لبنان، منذ مطلع عام 2020، وتسببتا في خروج كثير من الأطفال من التعليم، وبارتفاع معدل الفقر المدقع، ثلاث مرات، ليصل إلى 28% عام 2020، بعدما كان 9% عام 2018.
وبحسب تحقيق أجراه موقع دويتشه فيله الألماني، ساهمت الأزمة المالية الاقتصادية، وجائحة كورونا، وغياب القانون الموحد للأحوال الشخصية، في ازدياد حالات تزويج الأطفال، وهو أمر تتناوله العديد من التقارير الصحافية الأخرى، مع أهمية الإشارة إلى عدم توافر إحصاءات دقيقة لحالات تزويج الأطفال عند اللاجئين السوريين، إذ يصعب الوصول إلى أماكن اللاجئين في المجتمعات المضيفة، بسبب إجراءات الإغلاق التي فرضها انتشار فيروس كورونا.
“أعدّ نفسي محظوظة”
جاء دعم عائلة تغريد، من الخبرة التي عاشوها مع تزويج الأطفال.
فوالدها تزوّج والدتها عندما كانت في السادسة عشر من عمرها، ويخبر بناته الأربع دائماً، عن معاناته اليومية الناتجة عن زواجه بـ”طفلة”، فيسرد لهن كيف كان يعلّمها الطبخ، والغسيل، ويضحك، واعداً إياهن بعدم تكرار التجربة.
تحضر تغريد مع قريناتها اليافعات، جلسات التمكين والحماية، مع منظمة “النساء الآن من أجل التنمية”، ويشاركن في دورات الكومبيوتر، واللغة الإنكليزية، وجلسات الدعم النفسي الجماعية، والفردية، والتوعية الصحية.
تناقش الفتيات في هذه الجلسات المشكلات التي يواجهنها في حياتهن اليومية، كتزويج الأطفال، والتحرش، والاستغلال، والعنف الأسري، وتبرز هنا الضغوط التي يتعرضن لها من المجتمع المحيط.
“أعدّ نفسي محظوظة، لأنني أنتمي إلى عائلة داعمة لتعليمي، وليس لتزويجي. تعلمت في هذه الجلسات، كيف أعتني بنفسي، وأقدّرها، كخطوة أولى، ومن ثم مواجهة المجتمع. أنا الآن قادرة على اختيار قراراتي الشخصية، من دون ضغط من أحد”، تقول تغريد لرصيف22.
تستخدم الفتاة المهارات التي تتعلمها، في تضامنها اليومي مع قريناتها في المخيم، محاولةً إقناعهن بعدم القبول بتزويجهن، ومواصلة التعليم، حتى ولو رغبن في ذلك، بناءً على الصورة الوردية التي يصوّرها لهنّ المجتمع عن الزواج. “نسترخي في الجلسات، ونبكي، ونسعد لأننا بكينا. ونستخدم ما تعلمناه، لمساعدة صديقاتنا”.
طفلة، زوجة، وأمفي المخيم ذاته، تسكن سلمى (اسم مستعار)، ذات العشرين عاماً، مع زوج وطفلين اثنين، قادمة من بلدة معضمية الشام في ريف دمشق.
في سن السادسة عشر، تركت سلمى التعليم غير الرسمي، بسبب عدم جدواه، كما رأت عائلتها، وأصبحت حياتها فارغة بالكامل. وقعت حينها في حب شابٍ يافع، حالمةً بالزواج، وارتداء الفستان الأبيض.
لحسن الحظ، حظيت سلمى بزوج داعم ومحب، لكن الآثار الصحية والنفسية لحملها الأول، والثاني، والمسؤولية الزوجية التي أُلقيَت على عاتقها، وهي طفلة، جعلتها تشعر بالندم على قرارها الذي جاء من طفلة غير واعية، وبموافقة الأهل والقانون. “أتمنى لو يعود الزمن إلى الوراء. وإن عاد، فلن آخذ هذا القرار حتماً. سأختار زوجي نفسه، ولكن بعمر أكبر، وبجهوزية أفضل”، تقول لرصيف22.
جهود متكاملة
تعمل منظمة النساء الآن، مع النساء والفتيات من مختلف الجنسيات، في مركزَيها في شتورة، ومجدل عنجر، في البقاع، من خلال أربعة برامج أساسية، هي التمكين المعرفي والمهني، والحماية النفسية الاجتماعية، والمشاركة في الحياة العامة، والأبحاث والمناصرة.
وتقسّم المنظمة عملها مع الفتيات إلى فئتين، الأولى تتضمن اليافعات اللواتي في خطر التزويج، وخصوصاً الخارجات من التعليم، فتركز برامجها لدعمهنّ، وتمكينهنّ، بهدف حمايتهنّ من هذا الخطر. تقول ميس عمر، وهي منسقة البرامج في المنظمة، لرصيف22: “في مقاربتنا النسوية، نقاطع مستويات عدة من الظلم الواقع على الفئات التي نعمل معها، ومن ثم نصمم برامجنا بطريقة تستجيب لاحتياجاتها”.
والفئة الثانية، هي فئة الطفلات الأمهات، وتخصص المنظمة عملها مع الفتيات اللواتي تم تزويجهن وهن طفلات، سواء بقين متزوجات، أو انفصلن عن أزواجهن. وتركز برامجها لدعمهن، وتمكينهن، للتعامل مع الحياة المفروضة عليهن، بأقل الخسائر الممكنة.
“المجتمع والقانون حرما هؤلاء الطفلات من المشاركة في مختلف مجالات الحياة، وهنا يأتي دورنا لنسد هذه الفجوة. علينا تمكينهن، ودعمهن، لنخفف من الآثار التي لحقت بهن”، تضيف ميس.
تعمل المنظمة، أيضاً، مع الأمهات، وخاصةً المعيلات لأسرهن، فتفتح مساحات النقاش معهن حول ظاهرة تزويج الأطفال، من خلال طرح المشكلة، وأسبابها، وآثارها النفسية، والاجتماعية، والصحية. “نحتاج هنا إلى النقاش في أسباب المشكلة، وآثارها، مع الأمهات، ونفكر في الحلول معاً”.
وفي هذا الإطار، تدعم المنظمة حملة “لا تكبّرونا بعدنا صغار”، التي يقودها نساء، ورجال، وفتيات، وفتيان، من مختلف الجنسيات، وتهدف إلى تغيير السلوك المجتمعي تجاه تزويج الأطفال، عن طريق سرد القصص الشخصية لأهل القضية، وعرضها على الأسر، خصوصاً الرجال، وصناع القرار المحليين، من شخصيات دينية وقانونية، ومن ثم أخذ التزامهم بعدم تزويج الأطفال.نشأت فكرة هذه الحملة، من جملة قالتها النساء والفتيات لفريق النساء الآن: “تعرفنا على الآثار الضارة لتزويج الأطفال، لكن للأسف لسنا أصحاب القرار في مجتمعنا الذكوري.
اذهبوا، واعملوا معهم”، ونُفذت بالشراكة مع منظمة أهل، معتمدةً منهجية التنظيم المجتمعي، وبقيادة أهل القضية، ومشاركة الرجال، في رحلتها التغييرية.
الخط الآمن للتسجيل في برامج النساء الآن في مركز شتورة: 76794510، وفي مركز مجدل عنجر: 81714106.
الطلاق، على الرغم من صعوبته، ليس النهاية
تزوجت شمس (18 عاماً)، قبل سنتين، بعد أن تقدّم العريس لها، بطريقة تقليدية، وقبول أهلها، وسماح القانون. على الرغم من أن والدتها كانت قد تزوجت في عمر الخامسة عشر، أي بعد اختبار العائلة لهذه التجربة، إلا أنّ تزويجها، وهي طفلة، كان أمراً عادياً.
“بمجرد خطوبتنا، أجبرني على ترك التعليم، وبعد تسعة أشهر، وجدت نفسي في منزل عائلته الكبيرة”، تقول شمس لرصيف22، مستخدمةً اسماً مستعاراً، ومضيفةً أنها نزحت، قبل سنوات، مع عائلتها، من مدينة حمص في سوريا، ليقيموا في البقاع اللبناني.
عاشت الفتاة مع زوجها، ووالديه، وأربعة أخوة له، وعائلاتهم، وأخ عزب، وقضت في هذا المنزل أقل من سنة. خلال هذه الفترة، طلّقها مرةً، بسبب مشاجرة مع أخيه. “شارطه أخوه مرةً، أن يطلّقني، فطلّقني”.
لاحقاً، عاد الزوجان ليعيشا معاً، لكن الزوج قرر أن يسافر، ويتركها، وعادت حينها شمس، الطفلة الزوجة، إلى منزل عائلتها، لتبدأ رحلة تحكّم الزوج من بعد، بلباسها، وبحركتها، وبقراراتها الشخصية، ما دفعها لطلب الطلاق.
عانت شمس، صحياً ونفسياً، بعد طلاقها في سن السابعة عشر، وشعرت وكأنها أنهت تعليمها، ودمّرت طفولتها، من أجل شخص استسهل الاستغناء عنها مرتين. تضيف: “أحمد ربّي أنني نجوت من هذه التجربة، من دون طفل”.
على الرغم من صعوبة هذه التجربة، إلا أنها خلقت وعياً عند عائلة شمس، خصوصاً عند والدتها التي تناضل للحد من هذه الظاهرة، من خلال تطوعها في الحملة الآنفة الذكر، وعند شمس التي تشارك في برنامج القيادات اليافعة مع فريق غرسة، فالحياة بالنسبة إليها لم تنتهِ بعد، وهي اليوم تتعلم مهارات التواصل والتفاوض، وقضايا الجندر. “لو تعلمتُ هذه المهارات قبل خطوبتي، لما كنت تركت تعليمي، وتزوجت، وما كنت الآن طفلة منفصلة”.
اليافعات القائدات
يعمل فريق غرسة، مع الأطفال، والفتيات، والنساء، في مجالات التعليم، والحماية، والتمكين، في منطقة المرج البقاعية، ومطلع هذا العام، خصص برنامجاً لليافعات القائدات، لمدة عام كامل، يمتد على مرحلتين، هما القيادة الشخصية، والقيادة المجتمعية.
وفق شرح سالي عبيد، لرصيف22، وهي متطوعة مع الفريق، فإن المرحلة الأولى تدعم نحو ثمانين فتاة خارجة عن التعليم، بين عمري 13 و19 سنة، بالمهارات اللازمة في اللغة الإنكليزية، والصحة النفسية، واستخدام الكومبيوتر، ويتأهل بعضهن إلى المرحلة الثانية التي تركّز على القيادة المجتمعية، فتتوسع الدائرة، لتمكين الفتيات من الدفاع عن حقوقهن، بشكل جماعي، وتنظيم أنفسهن ضمن أسرهن، من خلال تدريبهن على مهارات التواصل، والتفاوض، وحل النزاعات، وفي نهاية البرنامج تنفّذ اليافعات مبادرات جماعية من تصميمهن، بهدف تعزيز وجودهن القيادي في المجتمع المحلي.يتضمن البرنامج أيضاً، عقد جلسات نقاش مع أمهات الفتيات، بهدف تشكيل أسر أكثر تمكيناً. “يساعد البرنامج على إشغال حياة الفتيات، ويحميهنّ من العنف المجتمعي الذي قد يطالهنّ، بما فيه من حالات لتزويج الأطفال، ويساعد كذلك على التعامل مع آثاره، إن حدث”، تنهي عبيد حديثها.
الخط الآمن للتسجيل في برامج فريق غرسة هو 81021528.
أنس تللو _ رصيف 22