تبدو تركيا أكثر إصراراً على شنّ عملية عسكرية جديدة في سوريا، بعد المناورات المشتركة التي أجرتها مؤخراً مع الجيش الوطني السوري قرب خطوط التماس مع قوات سوريا الديمقراطية في أكثر من محور؛ والتي تهدف للتأكد من الجاهزية القتالية والاستعداد لأي هجوم محتمل.
ومع ذلك، فإن قرار تركيا شنّ عملية عسكرية خامسة في سوريا بعد عمليات درع الفرات (2016) وغصن الزيتون (2018) ونبع السلام (2019) ودرع الربيع (2020) سيكون أكثر صعوبة ومرتبطاً بعدد من المحددات أبرزها القرار السياسي، ومنع الاشتباك، ومكافحة الإرهاب، والمنطقة الآمنة.
والجبهات المحتملة للعملية العسكرية هي تل رفعت، ومنبج، وعين العرب، وعين عيسى، وتل تمر. وقد لا يقتصر الهجوم على منطقة واحدة؛ لا سيما إذا كانت تركيا على استعداد لمواجهة أو احتواء التحديات السياسية والعسكرية.
القرار السياسي
عندما أطلقت تركيا عملية نبع السلام في 9 تشرين الأول 2019 كانت قد ضمنت عدم اعتراض الولايات المتحدة عليها؛ فإعلان البيت الأبيض حينذاك بعدم دعم العملية أو المشاركة فيها أو الوجود في المنطقة التي تجري فيها، لا يعني رفضاً لها، بل إخلاء للمسؤولية، وهو ما عبّر عنه الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب بشكل أوضح بعدما جدد النية للانسحاب من سوريا مع ضرورة إيجاد تركيا والأكراد وبقية القوى الحلول للموقف.
ولم تكن تركيا لتطلق عملية غصن الزيتون في 20 كانون الثاني 2018 قبل أن تضمن عدم اعتراض روسيا التي أجرت معها مباحثات على مستوى وزراء الخارجية والدفاع ورؤساء الاستخبارات منتصف الشهر نفسه من أجل استخدام المجال الجوي وانسحاب القوات الروسية من المنطقة.
ومع نية تركيا شنّ عملية عسكرية جديدة في سوريا، بدأت العمل على ضمان موافقة أو عدم اعتراض موسكو وواشنطن أو كلاهما معاً، إذ لم يفوّت الرئيس رجب طيب أردوغان الفرصة خلال اللقاء الذي جمعه مع نظيره جو بايدن في 12 تشرين الأول 2021 على هامش قمة العشرين للتعبير عن أسف بلاده حيال الدعم الذي تتلقاه وحدات الحماية الكردية من الولايات المتحدة.
كما أن تركيا تجري ومنذ نهاية تشرين الأوّل مباحثات غير معلنة مع روسيا لإتاحة المجال أمامها من أجل شنّ عملية عسكرية جديدة في سوريا.
من غير الواضح مدى قدرة تركيا على التوصل لاتفاق مع روسيا والولايات المتحدة، وبدون ضمان الحصول على موقف سياسي إيجابي أو غير سلبي من أحدهما أو كلاهما فلن تكون قادرة على شنّ عملية جديدة، لأنها لن تكون مستعدة لتحمّل التكاليف المترتبة على أي قرار مستقل سواء بما يخص تأثيره على التعاون الثنائي مع روسيا في سوريا أو العلاقة مع الولايات المتحدة.
لذلك، بمجرد توصل تركيا إلى قرار سياسي مع إحدى القوّتين فلن تفوّت فرصة الهجوم على مناطق العمليات الخمس المحتملة، مع العمل على احتواء موقف القوة الأخرى سياسياً وعسكرياً.
لكن ذلك لا يبدو بهذه السهولة؛ حيث تغيّرت الظروف السياسية والعسكرية. فعلى سبيل المثال، كان تعاون روسيا مع تركيا في عملية غصن الزيتون نتيجة الاستياء من عدم استجابة حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي لمطالبها بتسليم عفرين إلى النظام السوري مع استمرار دعم الولايات المتحدة له. إضافة إلى ضرورة التوصل مع تركيا لاتفاق جديد حول وقف إطلاق النار في منطقة خفض التصعيد لضمان عدم استرداد فصائل المعارضة المناطق التي خسرتها على حساب النظام السوري في أرياف إدلب وحلب وحماة.
منع الاشتباك
لم تكن تركيا لتتوغل في الحدود الشمالية لمحافظتي الحسكة والرقة في أثناء انطلاق عملية نبع السلام من دون ضمان عدم الاشتباك بالقوات الأميركية التي سرعان ما انسحبت من نقاطها قرب رأس العين وتل أبيض، إضافة لإخلاء 6 نقاط أخرى في محافظتي حلب والرقة.
وكذلك، عندما شنّت تركيا عملية غصن الزيتون كانت قد ضمنت عدم الاشتباك مع القوات الروسية التي انسحبت من معسكر كفر جنة الذي كانت تتخذه كقاعدة عسكرية لقواتها.
بالمقابل، اضطرت تركيا لوقف توغّل فصائل المعارضة السورية نحو مدينة منبج في عام 2017 بعدما ثبتت الولايات المتحدة نقطتين عسكريتين في قريتي السعيدية وعون الدادات، منعاً لوقوع اشتباك مع القوات الأميركية.
لذلك، إذا ما اتخذت تركيا قرار شنّ عملية عسكرية جديدة في سوريا فعليها أن تضمن عدم الاشتباك مع القوات الروسية والأميركية؛ وهذا لا يقتصر على الانتشار العسكري البري، بل يشمل المجال الجوي.
فمنذ 20 تشرين الأول 2015 وقعت روسيا والولايات المتحدة اتفاقاً لمنع الاشتباك والتصادم بين القوات الجوية في سوريا ليتم بعدها تقاسم الأجواء بين غربي وشرقي الفرات. وعليه، فإن تركيا بحاجة للتنسيق مع الولايات المتحدة في الضفة اليمنى للنهر منعاً للتصادم بين القوات الجوية، وللتنسيق مع روسيا للحيلولة دون اشتباك القوات البرية والجوية على حدّ سواء.
ومع ذلك، لدى تركيا قدرة – قد تبدو محدودة – على معالجة هذا التحدي، بضمان التنسيق مع إحدى القوتين دون الأخرى مع استخدام عنصر المبادرة والجرأة دون إغفال حسابات الربح والخسارة بما يخص فارق القوّة، من قبيل استحضار أساليب تحييد القواعد العسكرية مثلما فعلت روسيا في إدلب، وعزل المدن، والاكتفاء باستخدام سلاح الجو المسير بدل الحربي، وتوسيع عدد الجبهات لتشمل أكثر من هدف وغير ذلك.
مكافحة الإرهاب
منذ مطلع عام 2021 تعرّضت حدود تركيا الجنوبية لهجومين مصدرهما مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية في عين العرب وتل رفعت بمحافظة حلب؛ ولم تُساهم التفاهمات مع روسيا والولايات المتحدة في منع أنشطة حزب العمال الكردستاني و”وحدات حماية الشعب”، وهو ما عبّر عنه وزير الخارجية مولود جاويش أوغلو في 13 تشرين الأول.
في الأصل، يقوم تدخّل تركيا في سوريا على مهمة مكافحة الإرهاب المتمثل بحزب العمال الكردستاني وتنظيم داعش. مؤخراً، في 26 تشرين الأوّل منح البرلمان التفويض للرئاسة من أجل الإبقاء على القوات التركية في سوريا والعراق لمدة عامين.
قوبل قرار تمديد التفويض بالاعتراض من قبل حزبي الشعب الجمهوري CHP والشعوب الديمقراطي HDP وهو موقف غير مسبوق مقارنة مع المذكرات السابقة التي بدأت منذ 2 تشرين الأول 2014، بما يجعل من مهام التدخل خارج الحدود ومكافحة الإرهاب قضايا مرتبطة بالانتخابات الرئاسية والبرلمانية المزمعة عام 2023.
وبالتالي، ستكون مكافحة الإرهاب ليست مجرّد مسؤولية بالنسبة لـ “تحالف الشعب” الذي يقوده حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا بل أحد المحددات الرئيسية في حسابات الربح والخسارة خلال مناقشة قرار العملية العسكرية الجديدة في سوريا.
المنطقة الآمنة
في الواقع، باتت تركيا أمام حاجة ماسّة لتوسيع مساحة المنطقة الآمنة التي أسستها في سوريا، بغرض التخفيف من حدّة الاستقطاب والتوظيف لقضية مكافحة الهجرة في انتخابات 2023 عبر إعادة قسم من اللاجئين السوريين لتوطينهم في المنطقة الآمنة.
وتوسيع المنطقة الآمنة بالنسبة لتركيا يعني تعزيز أمن الحدود وعدم تدفّق اللاجئين، وتهيئة الظروف أمام معالجة بيئة عدم الاستقرار، وفرصة ملائمة لدعم وتحسين موقف المعارضة السورية في العملية السياسية، التي تحرص تركيا على أن تخلص إلى تأسيس نموذج حكم في سوريا لا يتعارض مع سياساتها وأمنها على أقل تقدير.
ويُفترض أن تكون تركيا يقظة في أثناء أي مفاوضات مع روسيا حريصة على عدم رفع مسؤولية الحماية عن مناطق مقابل إتاحة المجال أمامها لإطلاق عملية عسكرية جديدة، أو حتى الانتباه إلى ضرورة عدم تقليل الاهتمام بالردع في مناطق على حساب الهجوم في أخرى، وإلا فإن مساحة المنطقة الآمنة ستتقلص وسيتضرر أمن الحدود وغير ذلك من الاعتبارات الأمنية.
ولا بدّ أن تكون تركيا حريصة أيضاً على عدم استخدام القوة المفرطة في حال شن عملية عسكرية جديدة، وعلى عدم استخدام روسيا أو قوات سوريا الديمقراطية بدعم منها سياسة الأرض المحروقة إذا ما تعثرت المفاوضات الثنائية، وإلا فإن الضرر سيلحق بالبنية التحتية بشكل كبير، بما قد يعيق جهود إعادة التوطين وإعادة الاستقرار.
عبد الوهاب عاصي وعلاء الدين أيوب _ تلفزيون سوريا