في حلقة خصصها برنامج أول الخيط للتحرش في مصر تعود إلى عام 2013 (1)، يظهر شاب في البرنامج قام بمعاكسة أخته في الشارع حين رآها من الخلف، وأدرك حين استدارت فقط أنه كان يعاكس أخته، وبرّر فعلته بأن أخته ترتدي دوماً لباساً مثيراً، وأنه على خلاف دائم معها حول هذا الموضوع، وكان يعني باللباس المثير بالدرجة الأولى عدم ارتدائها الحجاب، وارتدائها بنطالاً.
إن معاكسة الشاب لفتاة رآها من الخلف تظهر أن هذا الرجل بدأ ينشَدّ إلى مجرد هيكل جنسي، ردف يعتقده ردف أنثى أو شعر أنثى، أي شيء يوحي له بوجود نهدين ومهبل، أي شيء يحاكي الهوس الموجود في رأسه أكثر مما هو موجود في الواقع، ويكفي حضور هذا الشيء كي يعاكسه الشاب كلاماً، أو يتحرش به لمساً، أو يضاجعه، وأقول شيء هنا؛ لأنه حين لا يفكر الشاب بمشاعر من تتعرض للمعاكسة يكون قد شيَّأها، أخضعها لرغباته ودوافعها، وافترض أنها متاحة له، كما أن مبادرة الشاب فوراً للمعاكسة قبل أن يعرف مع من يتحدث تظهر بأنه فعل متكرر وعادي لديه مثل هواية من الهوايات.
ويبدو من خلال تبرير هذا الشاب وجود رأي رائج بين مجموعات اجتماعية غير قليلة يتجه نحو التبرير للذكر، فليس من الضروري أن يقول المرء أنا أقبل التحرش كي يدعم الظاهرة بل يكفي تبريرها كي يكون المرء داعماً لها، كما أن التقليل من شأن ظاهرة ما وعدم الإقرار بها هو نوع من القبول بها. ويظهر من حديث الشاب العلني عن قيامه بالمعاكسة ولوم أخته دون خجل في برنامج تلفزيوني، كم باتت الظاهرة عادية في مصر، وعاديّة الشيء هي أكثر ما يثير القشعريرة.
ولا يعني هذا أن الظاهرة موجودة في مصر فقط، كل ما هنالك أنها وصلت درجةً عالية في ذلك البلد لكن لأسباب قد لا تبتعد كثيراً عن أسباب ظهورها بدرجة أقل في بلدان عربية أخرى ومنها سوريا، ففي سوريا هناك مزحة دارجة بين بعض النساء: “في تلطيشة حلوة بتجي غزل، وفي تلطيشة بتجي كلام وسخ بجرح”، والتلطيشة هنا هو تعبير ملطّف توصلت إليه الثقافة اللغوية السورية عفوياً يرادف ما يسمى في أدبيات العلوم الاجتماعية تحرشاً لفظياً مما يعني أن الظاهرة رائجة وكأنها من وقائع الحياة التي لا مفرّ منها.
إن التحرش بكل أنواعه كما يذهب عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو هو “نوع من الهيمنة والاستيلاء”، بمعنى أنه يعكس قيماً ذكورية ترمي إلى الهيمنة؛ تدعمها اتجاهات معلنة وخفية في ميكانيزمات الجماعة الاجتماعية، ولا شك أن الفعل في مستواه العملي يبدو رامياً لتحقيق غرض جنسي واضح، مما يدفع بالكثيرين إلى التركيز على فكرة تأخر سن الزواج، وعدم قدرة الشباب على الزواج بسبب الظروف الاقتصادية الصعبة، ويرون أن ترافق ذلك مع زخم المواد الجنسية المتاحة على الإنترنت يزيد من إثارة الشباب دون تنفيس، لكن أصحاب هذا الرأي يتجاهلون أن فئة المتحرشين بأنواعهم المختلفة والمغتصبين تضم أعداداً غير قليلة من المتزوجين، ولا يفوتني هنا أن أذكر أننا مهما درسنا طبيعة المتحرش ودوافعه الفردية فلا مفرّ من وضع الظاهرة في إطار بنائي يحيلها إلى قيم البنية الاجتماعية وقواعدها وأساليب التفاعل الاجتماعي والرموز المختلفة والصراعات الاجتماعية.
ومهما تحدثنا عن قواعد اللباس وما هو محتشم وغير محتشم، وما هو مثير وغير مثير، فهذا حديث لا جدوى منه، بل هو ضرب من الكذب على الذات، ويندرج ضمن ثقافة لوم الضحية والتبرير للذكر، فأثناء انتشار موضة الميني جوب لم تكن معدلات التحرش مماثلة لما نشهده الآن، كما أن معيار الإثارة يبقى فردياً، وإلا لرأينا مثلاً من لديهم فيتشية الأقدام (2) يتحرشون بأنثى لمجرد أن قدمها ظاهرة، ولقبلنا تبريرهم بأنهم يثارون، ولرأينا من يثيره لون أحمر شفاه محدد يعاكس فتاة لمجرد وضعها نوعاً محدداً من أحمر الشفاه، بل ربما قبلنا بمن ينجذبون جنسياً إلى الأطفال!
ما يجمع أفعال التحرش في الشرق الأوسط، هو أن المساحات العامة خارج المنزل صيغت طيلة قرون وفقاً لقواعد ذكورية Male Coded space وعلى المرأة أن تكيف نفسها وفقاً لها، وعلى المرأة – حسب منطق غير معلن صاغته هذه القواعد – كي تحمي نفسها من التحرّش أن تكون أقل وضوحاً في حضورها في خارج المنزل، أقل لفتاً للانتباه بصوتها وتصرفاتها ولباسها، بعبارة أخرى: عليها إن خرجت من المنزل وأرادت حماية تامة من التحرش ألا يدرك أحد أنها امرأة.
كما أنه لم يعد من المجدي الاعتماد على قواعد الضبط الاجتماعي القديمة القائمة على العلاقات التقليدية مثل سمعة العائلة، والاكتفاء بمفاهيم الحلال والحرام، خاصة مع تضخم المدن العربية، لكن المهمة الأكبر برأيي تقع على عاتق المنظمات النسويّة المناضلة في سبيل حقوق النساء، وحلفائها من أحزاب سياسية ومنظمات مدنية وأفراد، فالجهد يجب أن ينصب نحو تطبيع حضور المرأة في الفضاء العام، وجعله عادياً، بدلاً جعل المعاكسة والتحرش عاديين من خلال لوم الضحية، ولا شك أن هذا الهدف يستدعي تغييرات في مجمل البنية الاجتماعية والسياسية والثقافة المهيمنة، لكن لا بد من العمل على شتى المستويات، فليس هناك شيء أكثر حمقاً من أن ننتظر تغييراً كاملاً سيأتي دون عمل يومي دؤوب، وليس في هذا نزعة رغبوية مثل ما نسمع من أصحاب العقول السياسية التقليدية المؤدلجة، فتاريخ المنطقة الحديث أثبت أن كل تغيير لا يشمل تحرير الأنثى سيأتي بدكتاتور جديد يرتدي قبعة الجنرال، أو يحمل صولجان الملك، أو يرتدي بزة الحداثة الوطنية.
عمار عكاش_ الأيام السورية