«لم يلفت انتباهي من قبل جسدي وقساوته حتى بدأت مؤخراً بممارسة الرياضة، في كل مرة كنت أجده جامداً لا يستجيب، يوماً بعد يوم أصبحت أشعر به بعضلاته وأعصابه وأجد المتعة في ذلك كيف عشت لسنوات طويلة دون أن أدرك بأن جسدي يحتاج أن أهتم به؟، وبدأت بعدها اكتشف مدى تأثير ذلك على علاقتي الحميمية بزوجي وعلاقتي بنفسي أيضاً».
“لمى سعدو”(اسم مستعار)، معلمة في مدرسة ابتدائية تصف علاقتها بجسدها وهي التي تبلغ من العمر ستةً وثلاثين عاماً، حيث اكتشفت في وقت متأخر أن جسدها منفصل عنها فلا يعبر عن انفعالاتها بشكل سليم أو يتفاعل مع الموقف والحالة التي تعيشها فيها تتابع:«تعلمنا أن نبقي أجسادنا محايدة أن لا نتركها تتصرف بحرية، نبقى مشدودين وخائفين في جميع الحالات لأننا نساء، كل حركة تصدر منا لها حساباتها وكل يفسرها بطريقته، شعرت بالحزن عند معرفتي بأن نصف عمري قضيته وأنا منفصلة جسدياً عن الخارج ومتعة الانغماس فيه والشعور به».
تتعلم الفتيات في عمر صغير أن أجسادهنَّ خطيئة عليهنَ الانتباه جيداً لمشيهنَّ وإيماءاتهن، وتبدأ عقدة النساء هذه بالتشكل بشكل أكثر وضوحاً في فترة البلوغ، فمع ظهور الصفات الأنثوية تبدأ الفتاة بالإحساس بأنها امرأة لها تكورات وملامح جسدية تشبه أمها والنساء الأخريات، ويبدأ الأهل بفرض القيود على هذا الجسد ونموه وتفتحه، والتي تترك أثرها طويلاً في حياة الفتاة وتجربتها الجسدية والنفسية.
تتشارك معظم النساء في سوريا نفس الحالة الشعورية بأجسادهنَّ مع اختلافات بسيطة تعود للتربية والبيئة التي نشأت فيها الفتاة إلا أن الانسجام بين الأنا النفسية والجسدية يبقى أقل من المعدل اللازم لخلق حالة متوازنة وصحية تعلق على ذلك “سمر رستم”(اسم مستعار)، فتاة في الثانية والعشرين من العمر تدرس في كلية السياحة تقول:«لا أستطيع الاقتراب من أحد أقلَّ من نصف متر ولا أستطيع معانقة أي إنسان بمن فيهم أمي، دائماً يسبب لي ذلك شعوراً سيئاً ويجعلني بعيدة عمن حولي إلا أن جسدي ينكمش على نفسه متشنجاً عندما يلامسني أي إنسان لا أفهم مصدر هذا الرفض ولكنني أحس بخلايا جسدي ميتة بسببه».
تختلف مصادر عدم التفاهم هذا بين المرأة وجسدها، ورفضها له ولرغباته فقد تكون بسبب عنف جسدي أو جنسي تعرضت له الفتاة في عمر مبكر، أو أنه نابع من حالة نفسية خلقتها ممارسات ومفاهيم مجتمعية تقيد الفتاة في قالب جامد ممنوع من ممارسة حياته العاطفية بشكل سوي، تجارب المراهقة وما تحمله من صدمات وأفكار قسرية يمارسها الآباء والأمهات على بناتهنَّ تؤدي بشكل طبيعي لمثل هذا فالجسد يتحول مع مرور الزمن إلى مصدر للخوف والقلق وأي ممارسة أو فعل جسدي قد يسبب شعوراً بالذنب والدونية لدى الفتاة.
أجسادنا ليست ملكنا
«ما أعرفه عن جسدي أنه علي المحافظة عليه لأستطيع متابعة أعمالي في المنزل والاعتناء بأبنائي وزوجي، لا أعرف ما هي المتعة الجسدية أو أن تشعري بأنك على توافق مع جسدك ومظهرك، تربيت على أن أخفي جسدي وأن أتعامل معه بحيادية وكأنه ليس ملكي».
“ملك غزي”(اسم مستعار)، سيدة في الثالثة والخمسين من العمر تجيب بقناعة أنها لا يمكنها أن تفكر بالتعامل مع جسدها بطرق أخرى، إظهار أجزاء منه أو الإحساس به وبرغباته، فهي تربت على أنها آلة تقوم بالأفعال التي كلفها بها المجتمع كزوجة دون أية فكرة عن جسدها وخصوصيته.
تختلف إجابات النساء بحسب أعمارهنَّ وبيئاتهنَّ فنجد الفتيات في عمر أصغر أكثر دراية بأن لأجسادهنَّ حقوقاً عليهنَّ ولكنَّ غالبيتهنَّ يذهبن باتجاه الشكل والاهتمام بالمظهر دون فهم جوهر العلاقة بينهن وأجسادهن، حكم على النساء لفترة طويلة أن تبقى أجسادهنَّ ملكاً للرجال، تتعودن منذ صغرهنَّ على تهذيب أجسادهنَّ وإخضاعها لتناسب قوانين المجتمع والعائلة، فجسد المرأة هو “شرف الرجل” وهذا يعني بأنها تتحمل مسؤولية المساس بهذا الشرف طوال حياتها، وبهذا تنتفي خصوصية جسدها وشعورها بالخارج وامتدادها فيه، عبر الآليات التي تمارس عليها بشكل متواصل وأفعال المراقبة والخوف المرافق لجميع تطورات الجسد، وبهذا تكون تبعيتها للرجل محكمة ومتماسكة فهي تابعة له نفسياً وجسدياً ومحاولات تمردها هي بمثابة محاولة قتل نفسها.
جسد المرأة المتزوجة
تضيف “ملك” عند سؤالها عن جسدها والمتعة:«لم أعرف ما تعنيه العلاقة الجسدية حتى ليلة زفافي عندما شرحت لي أمي الأمر، كنت جاهلة وبقيت جاهلة حتى اللحظة، في معظم الأحيان كانت تبدو لي هذه العلاقة متعبة وتسبب لي الألم النفسي، لم أشعر بأية متعة جنسية طوال حياتي».
لا تختلف حياة المرأة المتزوجة عن الفتاة غير المتزوجة بشكل كبير من ناحية جسدها، حتى وإن أصبح بمقدورها تلبية رغباتها الجسدية وتقبل حيويته وحاجاته، فللزواج أيضاً قوانينه وأعرافه والتي على المرأة أن لا تتجاوزها كي لا يساء الظن بها و بأخلاقها، هي سلسة من الموروثات التي نقلتها الأمهات لبناتهنَّ عبر أجيال كثيرة عما ينبغي فعله أثناء العلاقة الجسدية مع الزوج وعما يجب الابتعاد عنه، مع أهمية الحفاظ على العذرية طوال الفترة السابقة للزواج، آليات متعددة تكرس هيمنة الرجل وإثبات ملكيته لجسد المرأة ونفسها، وأي تجاوز لذلك عاقبته عنف مؤكد قد يصل للقتل، فخروج امرأة واحدة عن العادات المجتمعية هو إخلال وبدء بالتهديم لنظام هذا المجتمع وأساساته وبالتالي لوجود الرجل وسلطته، لا تعرف المرأة في مجتمعاتنا أماكن متعتها وأساليب الحصول عليها وإن عرفت فهي تخاف القيام بذلك بسبب شعورها الدائم بأنها مراقبة ومذنبة.
مفارقات عصرية
“نبال شمس”(اسم مستعار)، تمتلك صالوناً للحلاقة النسائية تقول:«لا يمكن للمرأة في مجتمعنا أن تكون عاملة وتذهب بطموحها بعيداً فإن كانت كذلك وأغفلت نفسها واهتمامها بشكلها لن يراها أحد ولن تصل لأي مكان مهما حاولت، نحن معتادات على أن نسمع المديح على شكلنا فقط غير ذلك لن يشكل فارقاً ولن تستطيع النساء فعل ما يفعله الرجال».
هناك فهم خاطئ للمرأة نفسها تجاه ذاتها وجسدها، وحكم عام بأن من تسعى لتحقيق ذاتها والانغماس في عملها لن تلفت الأنظار بقدر الفتاة التي تتجمل طوال الوقت، فالجمال هو القيمة الأولى في سلم صعود أي فتاة مؤخراً.
والمجتمع له دوره أيضاً ففي الوقت ذاته الذي يسعى فيه لتقييد جسد المرأة وحيويته ضمن أفعال محددة وسلوكيات تحقق سلطة الرجل يسعى من جهة أخرى لجعل هذا الجسد موضوعة جمالية جنسية عبر التركيز المستمر على أهمية جمال المرأة وأناقتها واهتمامها بجسدها وشكله، ممارسات يومية إعلامية أو عبر منصات التواصل الاجتماعي تكرس حالة من الهوس لدى النساء لمقاربة هذا الجسد، جسد جميل منحوت كتمثال آلهة ولكنه محكوم بالخضوع وعدم التعبير عن نفسه إلا ضمن الحدود التي وضعها له صانعوه، فتبذل الفتاة معظم وقتها لتكون مغويةً ومحط جذب لأنظار الرجال جنسياً، فيما تحرم هي نفسها من التمتع بهذا الجسد وحريته وانفتاحه.
ربا أحمد _ الحل نت