أسماء رزوق
تعد (الكوميديا الإلهية) العمل الرئيسي لـ دانتي أليغييري وهي من أهم وأبرز الملاحم الشعرية في الأدب الإيطالي ويرى الكثيرون بأنها من أفضل الأعمال الأدبية في الأدب على المستوى العالمي.
الملحمة تحمل نظرة خيالية فلسفية حول الآخرة حسب الديانة المسيحية، مكتنزة بفلسفة القرون الوسطى في تطور الكنيسة الكاثوليكية.
تنقسم الكوميديا الإلهية إلى ثلاثة أجزاء الجحيم.. المطهر.. الجنة .. وتتألف من 100 أنشودة، أي تتضمن 14233 بيتاً شعرياً، العنوان الاستفزازي والمثير والاستثنائي لهذه الملحمة يحمل خيالات إنسانية هامة وعظيمة في رحلة الشاعر بين الجحيم والمطهر والجنة.. والتي استغرقت أسبوعاً .. يومان في الجحيم وأربعة في المطهر ويوم في الجنة.
قسم الشاعر ملحمته لتصل إلى مائة أنشودة الرقم الذي يحمل معنى الكمال والإتمام، في بطولة تفرد بها الشاعر دانتي في تيه كامل بين مفترق طرق، في ظلمات تحمل إجابات عاتمة وأسئلة صامتة وذنوب متراكمة.
وكحال الفهم العام الدنيوي يتخيل الشاعر انقسام الخير والشر، ولعنة الشرور المتجسدة في غرور التمرد الأول أمام الرب، كما سردتها الكتب السماوية، مركزا على مركز الشرور وهو الإنسان، إذ يقول في المطهر وفي القصيدة السادسة عشرة “إذا كان العالم الحالي منحرفاً وضالاً فابحثوا عن السبب في أنفسكم”، ومنه فالإنسان يبحث دوماً عن مصدر الشرور منزهاً نفسه عن أي شرور معلناً شعاراً ملائكياً نقياً على جبهته.
تكمن مأساة الدوران الفهمي عند دانتي في العقول المتجمدة الراكدة، فمن ملكه الجحيم هو الذي لم يسعه عقله على الفهم والإدراك، وهو ذلك الذي أكل كبده البخل والجوع والحسد والطمع.
ويبعد الجحيم في تصور دانتي عن نور الرب و سحره، بينما يقع المطهر في جزيرة في قلب الحياة والتي ترمز بغابة ترتقي به إلى الفردوس المراد. يرى دانتي إن الحقيقة الإلهية واحدة مهما اختلفت العقائد ومهما تعددت الديانات ومهما تشعبت التوجهات، حقيقة أعلنها الأنبياء، في وحدوية الإله الذي يغير الحال ولا يتغير، دانتي الشاعر الكارثي الذي اشتهر عالميا بعمله الأدبي”الكوميديا الإلهية”، والتي اخترقت سمعتها الآفاق، والتي ترجمت إلى معظم اللغات العالمية.
وقد ألفت ما بين 1307 و 1321م. وقد سميت بالكوميديا .. في سلاسة وصولها للقارئ بفيض تعقيد الفكرة وتجهد البشرية في محتوى الآخرة ومدى الوصول إلى السعادة الأبدية المرجوة.
إن اللغة الدارجة التي حررت بها “الكوميديا الإلهية”، قد عملت على توطيد دعائم عامية “طوسكان”، كلغة إيطالية رسمية ناشئة. أما الجذور الحقيقية لهذه المحاولة اللغوية “الدّانتية” التوحيدية، فتتواجد بجزيرة “صقلية والتي كانت موطن المسلمين لما يقارب 300 عام منذ دخول الأغالبة السُّنّيين إليها سنة 827م لغاية سقوطها على يد النّورمانديين سنة 1091م) ومنه فقد كانت ولادة الأدب والعلوم في تلك المرحلة وكان للتراث الإسلامي أثر كبير على إيطاليا والتي كانت جنينية التراب.
ظهرت في صقلية نهضة أدبية وكان للشعر الغنائي فيها موقع التخليد وقد سمي طروبادور والذي يعود بمعناه إلى طرب الدور وقد اشتهر به الشعراء من أصل عربي بحسب خبراء الأدب في القرون الوسطى.
ومن “صقلية” بالذات، انتقلت هذه الشعلة الأدبية نحو وسط إيطاليا فشمالها، لتأثر على كل اللهجات المستعملة. وإذا صح التعبير، على كل المنوعات اللغوية العامية ذات الصبغة الرومانية والأصول اللاتينية، كـ :”لومباردي”، “فلورانسا”، “طوسكان” و”البندقية”. ولقد حققت بهذه المناسبة، ولادة ما أصبح يسمى آنذاك ب”الأسلوب الجديد”.
ومنه كان لظهور دانتي بموقع اللغة العامية الفصحى في ملحمته إنقلاباً أدبياً عالمياً، ومنه وضع حجر الأساس للغة إيطالية وطنية موحدة، في زمن كانت اللهجات الرومانية تتقاسم جغرافية إيطاليا تحت سلطة لاتينية الكنيسة الرسمية.
“دانتي” قد نظم “الكوميديا الإلهية”، بلغة عامية فصيحة، في قالب شعري ثلاثي القافية، بحيث أن قافية البيت الأول كانت تأتي مناسبة للبيت الثالث، وقافية البيت الثاني، ملائمة للبيت الأول من المجموعة الثلاثية، التي كانت تأتي بعدها.
ولقد جاء تصور هذه الكوميديا على الشكل الهندسي التالي: مركز الأرض الثابت في وسط الكون، ومن حوله تدور السماوات السبعسماء النجوم الثابتة المتحرك الأول، ومن دونه يوجد موطن الآلهة ويتواجد الشيطان الأكبر في وسط الأرض تحت مدينة القدس حيث يتمركز الجحيم. وتتفرع عن هذا الجحيم خمس دوائر تتواجد عند مدخل المدينة الإلهيةوأربعة أخرى تقع خارجها.
كما ثمة طرق تقود من مقام الشيطان بشكل معاكس لمدينة القدس حيث يرتفع المطهر، الذي يشتمل على: شط الجزيرة. ما قبل المطهر. والسطوح السبعة. وعلى قمة المطهر تتواجد جنة عدن. وتستهل هذه الرسالة الإلهية بالأبيات التي ينشدها “دانتي” قائلا:” حين وصلت إلى منعطف طريق الحياة، وجدت نفسي في وسط غابة قاتمة. لقد أضعت الطريق السوي، ولست أدري كيف وصلت إلى هنا. لقد كنت مثقلا بالسهاد، حين فجأة تهت وضللت طريقي…”.
وهكذا فسرت هذه الكوميديا من موقعها الخارجي، باعتبارها قصة رمزية تمثيلية لاعتناق “دانتي” للمسيحية من جديد، خروجا من حالة الخطيئة الأولى، عبر التضرع وطلب المغفرة، لغاية الوصول إلى حالة الصفاء والتحرر، من الأدران البشرية لرؤية الثالوث المقدس. يطول الحديث إن فصلناه في محتوى ومعاني الملحمة وقد أفسر الغاية دفع أي قارئ وباحث في الإطلاع إلى كل التجارب الأدبية التي أحدثت أثراً في تطور الفكر والوعي والنضح ومنه البلدان، الأدب يحدث إنقلاباً إن كان مدروساً، الأدب والوعي والخيال البشري قادر على رسم خارطة أوطان كاملة ولو كانت مدمرة، فما علينا سوى التركيز والفهم وتطوير المحتوى العقلي لذاتنا.