syria press_ أنباء سوريا
“كتير كنت حاول كأي زوجة التحدث مع زوجي ومعرفة سبب رفضه المطلق إلي. وبعد عدة مرات قلي بكلّ صراحة: ماعاد قادر أقرب عليكِ.. حتى ما عاد قادر أتطلع بوجهك. ما بعرف شو صار معك بالسجن. ومافي شي بيضمنلي انو ما حدا لمسك”.
هذا ما تقوله لحكاية ما انحكت وحملة “لنحقق العدالة” المعتقلة السابقة علياء (٢٣ عام ولديها طفلان/ اسم مستعار).
لطالما حلمت علياء، خلال اعتقالها، بلحظة خروجها من المعتقل والعودة إلى بيتها وأطفالها (تمّ اعتقالها بداية عام 2015 من قبل فرع المخابرات الجويّة في دمشق نتيجة مشاركتها في العمل الإعلامي). تقول علياء “عندما كنت في السجن، كنت أفكر في أهلي وفي أوضاعهم، أفكر في ضمّ أطفالي إليّ، كأيّ معتقلة. كنت عم أنتظر اللحظة اللي رح يتم فيها الإفراج عني. الّلي كان يصبرني على العذاب الجسدي والنفسي اللي تعرضتله هو إنه بدي ضلّ صامدة لحتى ما انحرم من شوفة ولادي مرة تانية”.
دامت فترة اعتقال علياء ما يقارب الشهور الستة، وأفرج عنها في نهاية عام 2015، كانت علياء تعيش على أمل أن يتمّ الترحيب بها من قبل مجتمعها، سيّما وإنّها اعتُقلت نتيجة موقفها السياسي والإعلامي الذي تعتبره مشرّفًا، ولكنها خرجت لتجد زوجها يرفض الاقتراب منها كزوجة أو حتى الحديث معها.
بعد السجن… مجتمع يلاحق الناجيات
اليوم، وبعد مرور عشر سنوات على بدء الثورة السوريّة ومن ثمّ اندلاع الصراع في البلاد، لا يمكن أن يُستثنى أيّ طرف سياسي أو عسكري من التوّرط في ملاحقة المدنيين/ات السياسيين/ات والإعلاميين/ات. وبالطبع فإنّ للنظام السوري حصة الأسد من الاعتقالات بحق النساء، حيث أشارت “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” في تقرير موجز لها بمناسبة اليوم الدولي للمرأة إلى أنّ “ما لا يقل عن 9668 أنثى لا يزلن قيد الاعتقال أو الاختفاء القسري على يد الأطراف الرئيسيّة الفاعلة في سوريا منذ آذار 2011 وحتى آذار 2020، 8156 منهم مازلنَ قيد الاعتقال أو الاختفاء القسري على يد قوات النظام السوري، فيما لا تزال ما لا يقل عن 249 أنثى قيد الاختفاء القسري بعد اعتقالهن من قبل تنظيم داعش، و29 أنثى مازلن قيد الاعتقال أو الاختفاء القسري على يد هيئة تحرير الشام، فيما لا تزال 851 أنثى قيد الاعتقال أو الاختفاء القسري على يد فصائل في المعارضة المسلحة، وسجَّل التقرير وجود ما لا يقل عن 383 أنثى قيد الاعتقال أو الاختفاء القسري على يد قوات سوريا الديمقراطيّة”.
تمنت علياء لو لم يتم الإفراج عنها حسب وصفها، حيث بدأت تدرك أنّ العيش مع زوجها وترميم العلاقة ثانية بينهما شبه مستحيلة، وسيكون من الصعب عليها الاستمرار في ظل الحصار الاجتماعي الذي بات يلاحقها بأسئلة واستفسارات تتعلّق بمساحة جسدها.
في هذا السياق أصدرت منظمة “النساء الآن من أجل التنمية” بالتعاون مع “منصة عيني عينك”، تقريرًا بحثيًا بعنوان “ناجيات أم ليس بعد” من خلال اتباع منهجية تحليل 82 مادة صحفيّة كتبت من قبل الناجيات أنفسهن، وجاء في التقرير: “إنّ من أول وأهم الأشياء التي تمّ ذكرها في المقالات، وعلى لسان أغلب الناجيات، هو الرد العنيف من قبل الأشخاص المقربين/ات والمجتمع المحيط حول فكرة الاعتقال، فكانت وصمة العار تلاحق الناجيات في كلّ الظروف والحالات، إلّا بعض الاستثناءات التي لا تغيّر القاعدة، وقد وصلت ردود فعل المقربين/ات إلى حدود متطرفة جدًا، وجاء أغلبها من ذكور العائلة (الأب، الزوج، الأخ)، الذين رفضوا الناجيات بشكل مطلق، أو حتى وضعنهن بعد الاعتقال في حبس قسري في المنزل، أو تمّ تزوجيهن لغسل العار، أو إعلان وفاتهن وهنّ أحياء، وبعض الأمثلة التي وردت على لسان الناجيات التي يمكنها أن تشرح الأهوال التي اضطرت الناجيات، في لحظة خروجهن من المعتقل، التعامل معها، فبدلًا من ترميم ما تمّ كسره في الاعتقال، كان عليهن أن يواجهن مختلف الردود العنيفة تجاههن”.
شعرت علياء من الضرورة الانفصال عن زوجها إذ أنّ موقفه منها كان قاسيًا وأشد ظلمًا من ظلم النظام السوري لها، حسب وصفها، واعتبرت أنّ موقفه ذاك كان بمثابة الشعرة التي قصمت ظهر البعير.
تمكنت علياء من الانفصال عن زوجها، وهي تعمل الآن في المجال الإعلامي وتعيش مع أولادها في إحدى ضواحي دمشق، وتحاول أن ترمم ما كسر في داخلها نتيجة الاعتقال أولًا ونتيجة موقف زوجها ثانيًا.
جسمي مو للاستباحة..
وسام (اسم مستعار/ ٣٠ عامًا)، هي إحدى الناجيات من الاعتقال لدى النظام السوري، تعمل في مجال حقوق الإنسان، اعتقلت سنة 2013، من قبل الأمن العسكري في مدينة دير الزور، وفي عام 2014 تمّ تحويلها إلى سجن عدرا والإفراج عنها من قبل “محكمة الإرهاب” نتيجة تقارير كتبت عنها بسبب علاقاتها مع الجيش الحر.
تصف وسام موقف أهلها والمقربين/ات لها من دائرتها الاجتماعيّة الأولى بالداعم لها، ولكنها لم تسلم من أذى تحميلها مسؤوليّة اعتقالها من قبل أقربائها ومعارفها، وكأنّها المُلامة على اعتقالها. تقول وسام لحكاية ما انحكت وحملة “لنحقق العدالة”: “أهلي عم يتعرضوا لكتير ضغوطات وهنن دفعوا التمن.. نحن ست بنات وشب وأحيانًا لما حدا يتقدم لخطبة أخت من أخواتي ببطل يتقدم لما بيعرف إنه أنا كنت معتقلة، بحجة إنه أختها معتقلة. دائما بستغرب إنه أنا اعتقلت بس شو دخل أختي!”.
كثيرًا ما يُنظر ضمن المجتمعات الأبويّة لأجسام النساء على أنّها ملكية خاصة، وأي اعتداء عليهن يُعتبر اعتداءً على هذه الملكية الخاصة، فيتم تحميلهن المسؤوليّة بدلًا من محاسبة الأطراف التي ترتكب هذه الانتهاكات، لا سيما وأنّها، في معظمها، انتهاكات مُمنهجة تندرج ضمن العنف القائم على أساس النوع الاجتماعي.
في هذا السياق أشارت “الشبكة الأوروبية المتوسطيّة لحقوق الإنسان” في تقرير لها نشرته عام 2015 بعنوان “احتجاز النساء في سوريا سلاح الحرب والرعب” إلى ابتعاد الناس عن النساء الناجيات وأُسرهن “فمن جرّاء وصمة العار الناتجة عن الاغتصاب والاعتداء الجنسي، يُفضّل الناس الابتعاد عن النساء المحتجزات حاليًا أو سابقًا، ونتيجةً لذلك تواجه النساء المحتجزات غالبًا بعد الإفراج عنهن النبذ، إما من أُسرهنّ أو من مجتمعاتهن”.
بعد الإفراج عن وسام حاولت أن تستكمل حياتها وتطوي صفحة الاعتقال، حيث تبقى لها امتحانان جامعيان لتحصل على وثيقة التخرّج، إلّا أنّها لم تكن بمنأى عن الإزعاجات الذكوريّة التي تستبيح جسدها، فتقول: “كنت واقفة مع زميلي بالجامعة وكان في هوا كتير وطار إشاربي وبيّن جزء من كتفي. وكان زميلي عم يحاول ينزلي الإشارب فقلتله إنه ما بحب يلمسني. فقال لي لسه ما نسيتي لمساتهم جوا. وهون انصدمت وما عرفت احكي. بالعادة برد ولكن الصدمة بهديك اللحظة ولليوم بتذكرها ما لي عرفانة شو رد عليه وما بعرف شو الشعور اللي اجاني، هل هو شعور قرف أو كره إله.. ما بعرف… شعور مختلط.. كتير تأذيت من الحدث”.
النظرة المجتمعيّة قد لا تقتصر أحيانًا على توجيه أسئلة تنم عن تعرّض الناجيّة لأيّ نوع من أنواع العنف الجنسي بل قد ينظر البعض إلى الناجيّة على أنّها أصبحت “مُستباحة” على حدّ وصف وسام، التي تتابع القول: “في ناس حسيتها عم يعاملوني على إني شي مستباح، إنه مثلًا امرأة معتقلة سابقة فهي إذًا مغتصبة. إذًا جاهزة للممارسة الجنسيّة بنظرهم. كتير تعرضت لتلميحات من قبل رجال إنه وين المشكلة مثلًا لو صار ممارسة جنسيّة. أو من قبيل، لأنّه معتقلة سابقة بكون في رجال عندهم الرغبة بالزواج منها من قبيل بيكسب فيها أجر أو من قبيل الستر عليها، وكأنّه مفضّل عليها”.
تعيش وسام اليوم في مدينة أورفا التركيّة، واستطاعت مع ناجيات أُخريات تأسيس منظمة “ناجيات سوريات” وهي منظمة حقوقيّة وسياسيّة، مؤلفة من تسع ناجيات، وتحاولن استهداف ناجيات أُخريات، بحيث يكون لتلك الناجيات صوتٌ ودور ضمن مسارات العدالة الانتقاليّة. كما تعمل المنظمة على مناصرة قضايا الناجيات والناجين من خلال توفير أنشطة التمكين الاجتماعي والاقتصادي حسب احتياجات الناجيات وخبراتهن.
“بنتي برفع راسي فيها”
عام 2012 ظهرت “آلاء مورللي” على شاشات النظام السوري باسم “بنان الحسن” بعدما أجبرها النظام على الظهور، حيث بثّ التلفزيون السوري الرسمي مقابلة خاصة لها، بحجة أنّها لفقت تقارير لقناة الجزيرة. تمّ اعتقالها عندما كانت طالبة جامعيّة، لتلتصق بها تهمة جاهزة.
تقول آلاء لحكاية ما انحكت وحملة “لنحقق العدالة”: “بعدما ظهرت على التلفزيون بلشت الناس تجي لعنا وتزورنا. كان موقف بابا داعم لإلي. وقف بين الكل وقلّهم بصوت عالي انو بنتي طلعت على التلفزيون وأنا بالنسبة لالي بنتي بطلة”.
عندما يتعلق الأمر بالناجيات من الاعتقال، مباشرة تشير بعض الأصابع إلى الاغتصاب الجنسي، ولكن ماذا عن الاغتصاب الإعلامي الذي مارسه النظام السوري بحق معتقلات وأجبرهن على التحدث عبر شاشات إعلامه، بهدف المساس بالنساء نتيجة مواقفهن السياسية أو مواقف أقربائهن!
في عام 2013 بثت الفضائيّة السوريّة الموالية للنظام السوري وثائقي لثلاث معتقلات وهن: سارة العلو وفاطمة فروخ وفريال عبد الرحيم، تم إجبارهن على الحديث عن ممارستهن “جهاد النكاح مع مسلحين من فصائل المعارضة”.
كما بثّ النظام السوري عبر قناة الإخباريّة عام 2014 مقابلة لروان قداح، وقد كانت تبلغ من العمر 17 عامًا آنذاك، وعنونت القناةُ المقابلة بـ”أب يبيع شرف ابنته” حيث أُجبرت روان من قبل النظام السوري على الحديث عن غصب والدها لها لتمارس الجنس مع مقاتلين من الفصائل المعارضة.
وثقت “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” في تقرير لها بعنوان ” جرف الياسمين” عام 2015 قيام النظام السوري بإجبار ما لا يقل عن 11 امرأةً بينهن فتيات دون سن 18 للحديث عبر شاشات إعلام النظام السوري، بأنهنّ مارسن الجنس مع مقاتلي المعارضة وذلك بطلب من أهلهن.
تعتبر هذه الممارسات التي يقوم بها النظام السوري انتهاكًا للقانون الدولي الإنساني، حيث يحرم البرتوكول الثاني المُضاف لاتفاقيات جنيف، القتل والتشويه والتعذيب والمعاملة القاسية اللاإنسانيّة والمهينة للمعتقلات والمعتقلين، واحتجاز الرهائن والمحاكمات غير العادلة.
غير أن ما يفعله النظام السوري عبر إعلامه وبشكل متعمّد على ما يبدو هو اللعب على وتر “الشرف” حسب مفاهيم ووجهة نظر المجتمعات المحليّة في سوريا، إذ يلعب الإعلام على تأطير العقول من خلال بث مقابلات لعبت دورًا وتأثيرًا اجتماعيًا يتمحور حول أنّ النساء الناجيات أو المعتقلات سابقًا لم يكن سوى “لعبة جنسيّة” وربط الجنس بجسد النساء.
يشير الأخصائي الاجتماعي والباحث في مركز حرمون “طلال مصطفى” في حديث لحكاية ما انحكت وحملة “لنحقق العدالة” إلى أنّ من عادة الأنظمة الديكتاتوريّة ممارسة العنف الممنهج ضدّ النساء لإدراك هذه الأنظمة طبيعة المجتمعات التقليديّة ومنها المجتمع السوري، وحساسيّة هذه المسألة عند الناس، لا سيما وأنّ الجسد هو حامل لقيم العفة والشرف بالنسبة إلى الثقافة القيميّة التقليديّة، لذلك تركز الأجهزة الأمنيّة والدكتاتوريّة على اعتقال النساء، ليس لتعذيبهن فقط، بل ولكسر وتعذيب المجتمع والأهل حسب الثقافة التقليديّة.كما يتم الضغط في أحيان كثيرة على السياسي والمعارض من خلال إحضار زوجته والاعتداء عليها أمامه أو التهديد بفعل ذلك.
يضيف مصطفى أنّ “المجتمع الحاضن للناجيات من الاعتقال له دور كبير في زيادة آثار العنف وآثار الاعتقال بعد خروجها من المعتقل، بشكل عام المرأة ضمن الثقافة التقليديّة وضمن الأدوار الاجتماعيّة، يُنظر إليها على أنّها مواطنة من الدرجة الثانية والثالثة ومكانها هو البيت، وبالتالي هي المُلامة إن حصل لها شيءٌ ما، لأنّ مكانها هو البيت، وهي المُلامة لأنّها خرجت إلى المجال العام. المسألة مرتبطة بالقيم التقليديّة المتوارثة التي تختصر دور المرأة إلى مجرد حامل لقيم العفة والشرف، وحتى إن لم تتعرض للتحرش والاغتصاب ففي الذهنيّة العامة أيّ امرأة تدخل المعتقل تدور حولها إشارات استفهام”.
تعيش اليوم آلاء مع زوجها وأطفالها الخمسة في مدينة أنطاكيا التركيّة وتعمل ضمن منظمة “ناجيات سوريات”.
وحول هذه الممارسات الاجتماعيّة التي تلاحق العديد من الناجيات من الاعتقال تقول الأخصائيّة الاجتماعيّة “أماني سندة” لحكاية ما انحكت وحملة “لنحقق العدالة” :”دائمًا يتم النظر إلى الاعتقال من زاوية قانونيّة فقط ليتم معاقبة النظام. هل هناك منظمات قدمت دعم حقيقي ووفرت حياة اجتماعية للناجيات؟ نحن بحاجة إلى توعيّة حقيقيّة للمجتمع من أجل إحداث أثر تراكمي من قبل المنظمات والإعلام بعيدًا عن فكرة غشاء البكارة”.
لا ينصح بالتعامل مع الناجية بالمبالغة
في هذا الصدد تشير الأخصائيّة النفسيّة صهباء الخضر، والتي تعمل في مجال العلاج النفسي والعلاج المعرفي السلوكي إلى أنّ جزءًا من العلاج للناجيات بعد الاعتقال يكون من خلال إعادة تمكينهن بحيث يكن قادرات على مواجهة نظرة المجتمع إليهن، وتمكينهن من أجل دخول سوق العمل وتحسين علاقتهن مع الأقرباء، بالإضافة إلى تحسين نظرتهن لأنفسهن كي لا تتأثرن بنظرة البعض عنهن، ومحاولة الاندماج مع المجتمع وتحديدًا نتيجة تغيرات التي تواجهها الناجيات كالانفصال أو الحرمان من الأطفال أو الأهل، فقد لا يمكنهن تصحيح هذه الأحوال، وهنا يجب أن يكون التدخل كي يتم العمل على تأقلمهن مع المتغيرات الجديدة بأقل قدر ممكن من الخسارة النفسيّة. وتضيف الخضر لحكاية ما انحكت وحملة “لنحقق العدالة”: “أتمنى عند معاملة الناجيات ألا يتم التعامل معهن بالكثير من الرعايّة أو توجيه الأسئلة لهن، يكفي التعامل معهن على إنّهن ناجيات وقد عانين من تجربة محددة، نتيجة الحرب وانتهت هذه التجربة بنجاتهن، بما يساعدهن على تحقيق التوازن النفسي”.
لمى راجح _ موقع “حكاية مانحكت”