أتمعّن في صورهم، وأتناول “الألبوم” وراء الآخر ولا أملّ. صور عرس أبي وأمي، تنفض عن قلبي الغبار، و”تمسّجه” فيعود طريّاً ينبض بالفرح مهما اشتد به كرب. تأخذني تلك الوجوه الطبيعية، وتسريحات الشعر الأنيقة، والأزياء الكلاسيكية إلى زمنٍ جميل، أتمنى في كل مرّة أن ينبت لي جناحان، وأطير كنحلةٍ على ضفاف سواقيه لأرتشف ما أصادف من بساطة حتى الثمالة، تكفي لأعيش بقية العمر ضمن تعقيدات زمني هذا من دون حواس!
أسطورة أم حقيقة؟
صورٌ ملوّنة، وصورٌ بالأبيض والأسود، وصورٌ بالكاميرا الفورية، جميعها تردّد أهازيج أكاد أسمعها، بل وأشمّ رائحة البنّ المحمّص والحنّاء. تقول عمتي: “عرس الأخوان عمي وأبي تحدّثت عنه القرية كلّها، بل حضرته القرية كلّها، وكان هناك معازيم من مناطق مختلفة أيضاً، لم يدم سبعة أيام بلياليها الأسطورية وحسب، بل تلتها سبعة أيامٍ سمان كان السَمر رفيقها، أفتاني والدي بها كلّها”.
كلّما ساد الحديث عن الخوالي من الأيام، أندسّ تحت إبط الحكاية وأغمض عينيّ، وأجدني في مجلس الرجال أحضر التشاور؛ وكأني في مجلس مصغر للشيوخ الأمريكي تأهباً لمعركة مصيرية، تُرسم خططها بتوزيع المهام في يوم “المشوَرة”، ثم أراني أجود بالدعوات في يومين شاقين كاملين للأقارب والأباعد.
أعيش الرواية بتفاصيلها، فها أنذا شاهدة على بريقٍ يرقص في عيني الشاب “القبضاي” الذي أنهى حمل الحطب وأخذه إلى منزل العروس، فكافأته بـ”طاقية” نُسجت خصيصاً له، أراني تارةً بين الحسناوات أمدّ كفي ليضعن فيه حبال العجين ويزخرفنه بالدوائر وأوراق الجوري، وتارةً أنا فراشة بطرحةٍ بيضاء كطرحة شادية في أفلام الأبيض والأسود، ورود بيضاء، وميل كحل، ووجنتان لفحمها الخجل فتوردتا.
أغطّ قليلاً لأجدني فوق أحد الأسطح، أختلس نظرات من حلاقة العريس ورقصة أمه وأخواته، وألمح الفارس المغوار على صهوة الفرس بكامل أناقته، بعد ليلة أمضاها عند الجار الذي كاد أن يفتعل اقتتالاً ليستضيفه وحسم طول الخيط أنه الأقرب. أشارك في طهو الطعام كل يوم، وأخبز أرغفة التنور ليأخذها الجمع للعروس وربعها، وأستقبل في كل مرّة من يحمل “حملان” بسلال القش؛ أرفع الغطاء القماشي عنه فأجدها ‘حلاوة الجرش’ مع الدبس وأرغفةً مدهونةً بالسمن البلدي، جاء بها من أراد مباركة هذا العَقد الذي صار إلهاً.
أخبز أرغفة التنور ليأخذها الجمع للعروس وربعها، وأستقبل في كل مرّة من يحمل “حملان” بسلال القش؛ أرفع الغطاء القماشي عنه فأجدها ‘حلاوة الجرش’، جاء بها من أراد مباركة هذا العَقد الذي صار إلهاً
لربما هذا الافتتان بتيك التفاصيل، جعلني ألحّ بالرغم من معارضة أمي، على ارتداء ثوب جدتي الأحمر ذي التطريزات الذهبية في يوم الحنّاء الخاص بي. ربطت على رأسي منديلاً رصّعته الليرات الذهبية. تحلّقت الصديقات حولي وكانت ليلةً شهرزاديةً هربت من الليالي الألف، توجتني الشموع تبكي أيام العزوبية فوق الحنّاء المجبولة المزيّنة بالورود، ملكة هربت من دفتي كتاب قديم، والذي بدوره رشّ العطر على صوت جدتي فبات سحراً مستحقاً رمى بحباله فأبكاني:
ذبّل عيونه و… مدّ إيده يحنونه
يا أسمر السمر يا… يالعيروني فيك
إنت القمر بالسما… وأنا النجم حوليك
عندي تمر بطعمك… عندي تتن بسقيك
عندي محارم غوى… بطرّز وبعطيك
استمرت هذه الرود لساعة كاملة، مرّ خلالها شريط الصبا وسبقته ومضات طفولية، وأنا الأميرة النائمة في قارورة عطر.
تفاصيل عصيّة على النسيان
تضحك جدتي وتقول: “كنا هبل، فكيف لفتاة أن تقبل الوقوف على السلّم الخشبي المتهالك لساعات”. كان السلّم كنايةً عن “الأسكي” أو “الكوشة” كما تسمى في مصر، وكانت صديقتا العروس تضيئان وجهها باثنين من القناديل تحملانها طوال السهرة وتُبّت أيديهما إن تعبت، فوجه العروس هو القمر وأيديهما تحملان شمساً لتضيء بدر التمام.
تضحك العمة ويكاد يغشى عليها عندما تسرد لنا آلية تجميل العروس، “الماشطة” تظفر لها جديلتين تدسّ بهما الورود الملوّنة، وأخضر على الجفنين ودائرتين حمراوين رسمتا الوجنتين. تكاد لا تعرف نفسها إن نظرت إلى المرآة، ويأتي الأحياء جميعهم، الأطفال قبل أمهاتهن، ليتفرجوا على العروس، ففي بيت فلان عروس، إذاً هو الوجهة والمرام.
تضحك العمة ويكاد يغشى عليها عندما تسرد لنا آلية تجميل العروس، “الماشطة” تظفر لها جديلتين تدسّ بهما الورود الملوّنة، وأخضر على الجفنين ودائرتين حمراوين رسمتا الوجنتين. تكاد لا تعرف نفسها إن نظرت إلى المرآة.
“هالمسكينة تنام عالواقف”، وتعلل العمة تعب العروس التي ما غمض لها جفن منذ أشهر، ساهرةً على ضوء الكاز تطرّز جهازها، تطريزاً معقدّاً تعجز عنه أحدث المكنات، وتشتري كل ما يلزم من الخيط والإبرة حتى الصندوق الذي ستودع جهازها فيه؛ صندوق خشبيّ مرصع بالودع والفضة. يحملون جهاز العروس من بيتها. يسير الجمع سيراً على الأقدام ووجهتهم بيت العريس، كلٌّ يحمل قطعةً من الجهاز؛ مخدة، قبقاب، ولربما تقع الوسادة أكثر من مرة في الوحل إذا كان حظ العروسين سيئاً وحملها طفل.
“الموديرن” فرض نفسه
بقيت العادات لكنها تقلّصت، ولم تعد كتاباً منزلاً لا يُحرّف كما سابق عهدها، فهناك اليوم من يدعو الدائرة الضيقة من أهله وأهل عروسه إلى طاولة عشاء في مطعم، يتم فيها العرس. فتكاليف الزواج المرتفعة، والعقليّة “الموديرن” المتناقضة مع ما هو مرهق أودت ببعض الشبان إلى هكذا قرار.
على الضفة المقابلة، يرى مالك فركوح، أن عادات دخيلةً استُجلبت من الغرب وأُدرجت ضمن عادات الزفاف، ويضيف أنه اعتمد الأضواء الليزرية في يوم زفافه عام 2008، أما اليوم فباتت موضةً قديمةً: “اليوم بروبوزيل (عرض زواج)، ويحجز لها الشط كرمال يقلها marry me’، وباتشلر بارتي (سهرة وداع عزوبية)، يعني صاروا 5 أو 6 حفلات كل وحدة بكلفة عرس”.
يضيف، وهو المتحدر من حمص والمتزوج عام 2008: “كانوا تنين صاروا 12 إشبين وإشبينة، فريق كرة قدم، وكل وحدة فستانها بميزانية حمص كلها، فالأمر أصبح مرهقاً مادياً مما يدفع العريس إلى الدَين”. ويؤكد أن الطقوس الدينية لم تتبدل، “لربما استغنى الحاضر عن بعض التفاصيل، كانت خطوبته كنسيةً، بالرغم من استهجان من الجميع، فالخطوبة الكنسية انطوت مع أوراق الماضي الصفراء”.
وعن تلك الاختلافات، يبرر: “كما سار أبي من بيته إلى الكنيسة ترافقة السيارة بالأغاني الشعبية والزغاريد، سار هو يرافقه موكب من السيارات تطلق العنان لأبواقها، ولا يدري ولده مستقبلاً ماذا سيضيف وعمَّ سيستغني”.
الليالي السبع قد تمتد إلى ضعفها “التعاليل” أي سهرات السمر والغناء حاضر فيها كلّها، وليس مهماً إن كان العروسان مسلمين أم مسيحيين فالجميع حاضرون، وينسون ديانتهم ويظهرون سبحاتهم ليدبكوا دبكةً عونيّةً تتراص فيها الصفوف متحلّقةً حول الفرح
لكن ما لم يعد حاضراً على الأكيد، صفاء النفس، إذ يستشهد فركوح بقصة حدثت في عرس عمه في ستينيات القرن الماضي، “دخل أحد الأقارب؛ وهو نائب في البرلمان آنذاك عند حلاق الحي، فسأله هل تتحضر لعرس أقاربك، هزّ برأسه نعم، ودخل إلى زفة العريس وسط اعتذارات منهم، فقال: آثرت الحضور من دون دعوة؛ على أن نصبح حكاية تفكك أسري في مقص الحلاق الذي لا يرحم”، ويردف: “اليوم إذا ما في دعوة مع بطاقة منعتب وما منحضر”.
العادات تختلف بمناطقيتها
بالرغم من التنوع الثقافي للمحافظات السورية، إلا أنها تشترك في القاسم ذاته. تختلف عادات العرس بينها اختلافاً لا يعدّ جوهرياً، ففي دمشق تقول الحاجة عائدة مواليد 1939: “ليست كل الأعراس أيامها سبعة، فاكتفى بعضها بثلاثة؛ لنقل الجهاز ويوم لحمام العروس والنقش أو الحنّاء، وثالث للزفة. لربما استغنت العاصمة عن إطعام معازيم أعراسها، إلا أن البوظة والمحال والحلويات الشرقية حاضرة بعد أن جرت العادة بطبخ ‘الهريسة’ وهي القمح المطهو مع اللحم”.
يبدأ إعداد المرأة الشامية كشاعرة منذ نعومة الأظافر، أنيقة ورقيقة وحلوة المعشر، تحفظ العروس الكثير من أبيات الشعر والحكايات لتبهر عريسها، وقد ذكرت الأديبة السورية سهام ترجمان في ‘كتابها يامال الشام’، أن العروس عادةً أول ما تطلب من العريس “حق الشَعر”، ثمن شعرها الطويل الجميل بطريقة مغرية ورقيقة:
“فتاح جزدانك واعطيني حق شَعري
وياريش دردر على ضهري
وأنا صبية بأول جهلي
والليل طويل على مهلك ومهلي
فيبذخ المغدور لحقّ شَعرها الليرات الذهبية”
أما حلب، فقد تفنّنت في ضيافة شراب اللوز، والغريبة الإسطنبولية. وكما أخبرتني الحاجة فدوى: تفرّدت حلب بحفلة “المليك” والتي تأتي بين الخطوبة والعرس وفيها يتم تلبيس الذهب للعروس، سبعة أيام هو عرس حلبي أصيل وقد يمتد أكثر، وبعد العرس بثلاثة أيام تكون حفلة النقوط. تقول الحاجة فدوى (72 عاماً): “بقوا يجيبوا ‘خوجا’ مشان تغني يبقى صوتا حلو وتدق عالعود، وتتفتل هالصبايا عأغاني أيام زمان، والعروس بيناتن، وفي ‘الصباحية’ أي اليوم التالي للعرس، يجدد الحفل وتذبح الخرفان ويوقد تحت القدور”.
ينتهي العرس إلّا فصله الأخير والذي يسدل ستارته منديل يعلَّق على الحبل ليشهد الجمع المنتظر ذاك المشهد الأخير: العروس بكر عذراء “ماباس تمها غير أمها”، ليكون ختامها دم يرقص الجمع حوله مجدداً
ولحوران حكاية سطّرها سهلها بالكرم، فالليالي السبع قد تمتد إلى ضعفها “التعاليل” أي سهرات السمر والغناء حاضر فيها كلّها، وليس مهماً إن كان العروسان مسلمين أم مسيحيين فالجميع حاضرون، وينسون ديانتهم ويظهرون سبحاتهم ليدبكوا دبكةً عونيّةً تتراص فيها الصفوف متحلّقةً حول الفرح فالفرح يومذاك مستحقّ للجميع.
تقول الجدّة وداد (87 عاماً)، إن “العروس تُزف لعريسها كأميرة على فرس، والعريس بدوره ينتظرها في مكان عالٍ عند الباب وتدخل الفرس وينثر العريس النقود الفضيّة فوقها تعبيراً عن حسن الاستقبال. تدخل العروس وترحب الحما:
حوّطكِ بالله… وجندتك بالسيف
فيردّ العريس لأمه:
يامرحبا بهالضيف… ضيفاً يعلّلنا كل الشتا والصيف
ضيفاً يهرّجنا… ضيفاً يدرّجنا
ليردّد الجميع وراءهم للترحاب بالضيف الجديد.
تقول الجدة وداد إن ‘صمدة’ العروسين تكون في البيدر بعد انتهاء موسم الحصاد يوضع ‘البنك’ الذي يجلس العروسان عليه، في الكروم ليشهد القمح الذهبي مباركتهما. ‘الأُكرة’ و’المليحي’ هما الطبقان السائدان في العرس. ينتهي العرس إلّا فصله الأخير والذي يسدل ستارته منديل يعلَّق على الحبل ليشهد الجمع المنتظر ذاك المشهد الأخير: العروس بكر عذراء “ماباس تمها غير أمها”، ليكون ختامها دم يرقص الجمع حوله مجدداً.
تتحدث الجدّات الثلاث إليّ بشغفٍ عن أعراس زمان، لكن عند سؤالي الأخير: “ما الذي تذكرينه من عرسك يا تيتي؟”، تجلّت غصة في أصواتهن على التوالي والدهشة كانت تملأ ملامحي في كلّ مرة: أهي المصادفة؟ لا أدري أيّ حروف تسعفني لأكتبها. الجدّات تزوجن من دون عرس. الجدّة وداد أخبرتني وهي تضحك: “ما صرلي عرس، العريس أخد الخوري على بيت أخي وكلّلني لأنو أرمل”. والثانية بصوتٍ مهموس: “توفي والدي قبل 15 يوماً من عرسي فكتبنا كتاب وبس”، أما الجدة عائدة فسارعت إلى تبرير خسارة الحلم الأبيض، وبدأت بعصر ذاكرتها علّها تسعفها باسم المتوفى آنذاك الذي أخذ معه ذاك الحلم.
نور السيد _ رصيف22