كان التركيز الإعلامي خلال الأيام الأخيرة على التصريحات التركية المتعلقة بإمكانية الانفتاح على نظام بشار الأسد، والتعاون معا في بعض الملفات المشتركة، وخاصة ما يخص التعامل مع المجموعات الكردية المسلحة، وفي مقدمتها قوات “قسد” التي تسيطر على مناطق واسعة من شرق سوريا.
ووفق ما ذكرت صحف تركية، فإن الاتصالات بين الجانبين التي تتم عبر العراب الروسي، تمخضت عن مطالب متبادلة تتمثل بالنسبة للجانب التركي في تولي النظام “تطهير” المناطق الحدودية من الوجود الكردي المسلح، و”المصالحة” بين النظام والمعارضة، إضافة إلى تعاون النظام في قضية عودة اللاجئين من تركيا إلى مناطق سيطرته. أما النظام فقد طلب، وفق هذه التسريبات، تسلّم محافظة إدلب ومعبري كسب وباب الهوى والطريق الدولي بين شرق سوريا وغربها وشمالها وجنوبها.
والواقع أن ما يهم تركيا، في هذه العملية هو نقطتان أساسيتان: البحث عن “شريك شرعي” في محاربة قسد والتنظيمات الكردية المسلحة على الأراضي السورية، من جهة، وفي استقبال قسم من اللاجئين السوريين الموجودين على أراضيها، وهما نقطتان حساستان في السياسة الداخلية التركية، بالنظر إلى دخولهما سوق المزايدات الانتخابية مع المعارضة التركية، وتفاعل الشارع التركي مع حملات المعارضة التي تعد بتعامل مختلف حيال الملف السوري في حال فوزها بالانتخابات.
أما النظام السوري، فهو يسعى إلى مكاسب سياسية تتعلق بتحقيق مزيد من الشرعية الدولية، وسيكون مكسبا مهما له إذا حظي بتعاون تركيا معه، ما قد يفتح الباب أمامه لمزيد من الانفتاح الدولي عليه. والمسألة الأخرى التي لا تقل أهمية بالنسبة للنظام هي الحصول على مكاسب اقتصادية، حيث يأمل أن تؤدي هذه التطورات إلى تمكينه من الوصول إلى حقول النفط والغاز والقطن والقمح في شرقي البلاد، لكنه في الوقت نفسه لا يريد تحمل مزيد من الأعباء عبر عودة موسعة للاجئين إلى مناطق سيطرته، وهو العاجز عن توفير الاحتياجات والخدمات الأساسية للسكان والمناطق التي هي تحت سيطرته، ناهيك عن تحمل مسؤولية أكثر من خمسة ملايين مواطن في إدلب والشمال السوري، معظمهم من المعارضين له، بينهم نحو مئة ألف مقاتل، موزعين في إدلب ومحيطها والشمال السوري، وليس لتركيا نفوذ عليهم جميعا.
وبطبيعة الحال، مطالب النظام بتسلم إدلب، ليست جدية، وغير عملية، ولا يمكن أن تتم إلا ضمن حل سياسي يعالج مصير هؤلاء المقاتلين، ويرسم ملامح حل سياسي شامل، تقول تركيا إنها تريد أن يكون وفق قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة، وهذا يعيد العملية إلى النفق الذي تتوه فيه منذ سنوات بين سوتشي وأستانا وجنيف.
وفي ضوء، هذه المعطيات، فإن مربط الفرس بالنسبة لتركيا هو تعاون النظام معها في محاربة حزب الاتحاد الديمقراطي وجناحه العسكري ميليشيا قسد وتفرعاتها الأمنية، وهو الحزب الذي تعتبره أنقرة مجرد امتداد لحزب العمال الكردستاني الذي ينشط في تركيا، وتصنفه تنظيما إرهابيا.
الواقع أن العديد من كوادر هذا الحزب سواء من أصول سورية أم تركية هم أصلا أعضاء في حزب العمال المتمركزة قيادته في جبل قنديل على مثلث الحدود بين تركيا والعراق وإيران، وقدم بعضهم إلى الأراضي السورية بعد اندلاع الثورة عام 2011 وامتدادها إلى المناطق ذات الغالبية الكردية. وتشير كثير من التقارير والشهادات إلى أن النظام السوري أوكل للحزب السيطرة على المناطق ذات الغالبية الكردية بعد اندلاع الثورة خشية وقوعها بيد المعارضة السورية المسلحة، ولتفادي انخراط المكون الكردي بهذه الثورة، وذلك في إطار “التحالف” القديم بين الجانبين، منذ كان النظام يؤوي قائد حزب العمال عبد الله أوجلان في دمشق، قبل أن يضطر إلى التخلي عنه بضغط عسكري تركي عام 1998.
ومن هنا، فإن العلاقة بين النظام وقيادة قنديل، هي أقوى مما تبدو ظاهرا. وإذا كان النظام ضحّى بزعيم حزب العمال في حينه بعد أن هددت تركيا بالتحرك عسكريا ضده، فإن الوضع مختلف هذه المرة، حيث ليس بوسع تركيا القيام بشيء ضد النظام لأنها موجودة بالفعل عسكريا في الأراضي السورية، وفعلت ما بوسعها، وفق حساباتها، لإسقاط النظام لكنها لم تنجح. ويدرك النظام أنه حتى لو وافق على التحرك عسكريا مع تركيا ضد الوحدات الكردية، فإن خطوة من هذا النوع ستكون محدودة النتائج، لأن المناطق التي يسيل لها لعابه (حقول النفط والقمح) لا تهم تركيا كثيرا، بقدر اهتمامها بالمناطق الحدودية، في حين أن المناطق التي تهم النظام هي تحت الحماية الأميركية، ولا يستطيع لا هو ولا تركيا الوصول إليها ضمن المعطيات الحالية.
إذن، ما مصلحة النظام في إسقاط “الورقة الكردية” من يده، في وقت ليس واضحا فيه مصير الملفات الأخرى المتداخلة مع تركيا، وفي مقدمتها الاحتضان التركي للمعارضة المسلحة، وهل ستوافق تركيا على تفكيك تلك المعارضة، وهل هي قادرة على ذلك أصلا، بمعزل عن الحلول السياسية المباركة دوليا؟
كما أن المطالب التركية بعودة مئات آلاف اللاجئين إلى مناطق سيطرة النظام، ليست صفقة مغرية للنظام الذي يتبرم من ضيق ذات اليد، ولا بد أنه يريد أن يعرف أولا هل ستحظى هذه الخطوة بمباركة دولية، وتنفتح عليه تالياً أموال المساعدات الخارجية، ويحظى بمزيد من الشرعية الدولية.
ومبعث هذه التساؤلات هو إدراك طبيعة تفكير النظام الذي لا يبالي بمعاناة مواطنيه، ولا بمستقبل البلاد، بقدر اهتمامه بالفوائد التي سيجنيها هو بالذات من أية خطوة مع تركيا أو غيرها من الدول، وإلى أي حد ستطيل من مكوثه على كرسي السلطة، حتى لو كانت سلطة على أنقاض بلد.
عدنان علي _ تلفزيون سوريا