أعلنت وزارة الخارجية الهولندية أنّها أرسلت مذكرة دبلوماسية إلى الحكومة السورية حمّلتها فيها المسؤولية عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان والتعذيب بشكل خاص. واستندت الحكومة الهولندية في المذكرة إلى مسؤولية سوريا عن عمليات التعذيب ومخالفتها لأحكام اتفاقية مناهضة التعذيب التي وقّعت عليها سوريا.
وذكر موقع الحكومة الهولندية على الإنترنت: “إنّ الحكومة الهولندية تعتقد أنّ هناك أدلة كثيرة على أنّ سوريا ارتكبت انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان ضد السوريين، بما في ذلك التعذيب. وأضاف الموقع” “إنّ المنظمات الدولية أُبلغت مراراً وتكراراً عن انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان لسنوات، وتعرّض أعداد كبيرة من السوريين للتعذيب والقتل والاختفاء القسري والهجمات بالغازات السامة..”، وأكد الموقع أنّ “الحكومة الهولندية دعت الحكومة السورية إلى الدخول في مفاوضات معها لحل النزاع بينهما، وإلا ستلجأ هولندا إلى التحكيم الدولي في حال فشل المفاوضات ومن بعدها إلى محكمة دولية”. ومن جانبه أكد وزير الخارجية الهولندي “أنّ نظام الأسد ارتكب جرائم مروّعة مرة تلو الأخرى، وأنّ الأدلة دامغة، ويجب أن تكون هناك عواقب”.
وقبل مناقشة مدى أهمية هذه الخطوة الهولندية وبيان تأثيرها على وقف عمليات التعذيب في سوريا ومحاسبة المسؤولين عنها، لابد من التعريف بمحكمة العدل الدولية وبيان اختصاصاتها، والخطوات التي يجب اتباعها قبل الوصول إلى محكمة العدل الدولية، ومدى إلزامية القرارات الصادرة عنها.
تعتبر محكمة العدل الدولية واحدة من الأجهزة الرئيسة الستة للأمم المتحدة، فهي تنظر في الصراعات الدولية وتعطي وجهات نظر استشارية، حول القضايا القانونية الدولية التي ترجعها إليها الأمم المتحدة، وتعدّ آراؤها وأحكامها بمثابة مصادر للقانون الدولي، أي أنّها تختصّ بالفصل في النزاعات بين الدول وليس الأفراد، كالمنازعات على الحدود، أو النظر في مخالفة الدول للاتفاقيات الدولية. وهي لذلك تُحاكم دولاً وليس أفراداً، وتصدر أحكاماً بالتعويض للدولة الشاكية، أو تترك أمر التعويض للاتفاق بين الدولة الشاكية والدولة المشتكى عليها، وهي لا تصدر أحكاماً جزائية مثل التوقيف أو السجن. وهي بذلك أقرب للمحاكم المدنية، وقرارتها ليست لها قوة الإلزام إلا بالنسبة لأطراف النزاع وفي خصوص النزاع الذي فصلت فيه المحكمة، وهو حكم واجب الاحترام والنفاذ، وفي حال رفضت الدولة المحكوم عليها تنفيذ حكم المحكمة، فإنّ الدولة المحكوم لها تستطيع الطلب من مجلس الأمن تنفيذه جبراً من خلال قرار يصدر عنه بموافقة تسعة من أعضائه على الأقل شرط ألا يتم استخدام الفيتو.
وهي بهذا تختلف عن محكمة الجنايات الدولية التي تحاكم أفراداً وليس دولاً، لارتكابهم جرائم خطيرة كجرائم الإبادة وجرائم ضد الإنسانيّة وجرائم الحرب وجريمة العدوان.. وهذه المحكمة بخلاف محكمة العدل لديها مدّعٍ عام يملك سلطة إصدار مذكرة توقيف دولية، والمحكمة تحكم بالسجن على الأفراد ولديها سجن، كما تحكم بالتعويض للضحايا، وأحكامها إلزامية واجبة النفاذ على جميع الدول الموقعة على هذه الاتفاقية. ويمكن اللجوء إلى مجلس الأمن الدولي لتنفيذ الحكم الذي تتحكّم في قراره الدول الخمس دائمة العضوية التي تملك فيه حق النقض.
قبل أن تصل الشكوى إلى محكمة العدل الدولية، لا بدّ من المرور بخطوات إلزامية يجب على الدولة الشاكية سلوكها تبدأ بالاتصال مع الدولة المشكو منها ودعوتها إلى إجراء مفاوضات مشتركة للتوصل إلى حلّ ودّي حول القضية المتنازع عليها، وهو ما نصّت علية المادة 30 من اتفاقية مناهضة التعذيب موضوع المذكرة الهولندية: (أي نزاع ينشأ بين دولتين أو أكثر من الدول فيما يتعلق بتفسير هذه الاتفاقية أو تنفيذها ولا يمكن تسويته عن طريق التفاوض، يطرح للتحكيم بناء على طلب إحدى هذه الدول. فإذا لم تتمكن الأطراف في غضون ستة أشهر من تاريخ طلب التحكيم، من الموافقة على تنظيم التحكيم، يجوز لأيّ من تلك الأطراف أن يحيل النزاع إلى محكمة العدل الدولية بتقديم طلب، وفقاً للنظام الأساسي لهذه المحكمة).
وهو ما فعلته هولندا بإرسالها مذكرة دبلوماسية للحكومة السورية طالبتها فيها البدء في مفاوضات رسمية لتسوية النزاع بينهما حول مخالفة الحكومة السورية لأحكام اتفاقية مناهضة التعذيب، والاعتراف والإقرار رسمياً بمسؤوليتها عن عمليات التعذيب في السجون ومراكز الاحتجاز التابعة لها وإيقافها فوراً، وأن تتعهد الحكومة السورية بتقديم ضمانات للحكومة الهولندية بمنع تكرار هذه الانتهاكات في المستقبل، وأن تقدم أيضاً تعويضات لضحايا التعذيب. طبعاً من غير المعقول أن يستجيب النظام السوري لمطالب الحكومة الهولندية، ولا أن يعترف بحدوث عمليات تعذيب في السجون ومراكز الاعتقال التابعة له وهو الذي أنكر ذلك على مدى سنوات المأساة السورية.
في هذه الحالة ستلجأ الحكومة الهولندية إلى تفعيل خيار إحالة القضية للتحكيم الدولي، الذي سيفشل بدوره في حلّ النزاع، لأنّ النظام سيرفض الاستجابة للحلول الودّية. وهنا لن يبقى أمام الحكومة الهولندية إلا خيار تقديم شكوى إلى محكمة العدل الدولية، وهو ما أشار إليه وزير الخارجية الهولندي، بقوله إنّ الحكومة الهولندية قد تحيل الملف إلى هيئة تحكيم ثم إلى محكمة دولية، في إشارة منه إلى محكمة العدل الدولية. وهذه الإجراءات قد تستغرق ما بين 3 و5 سنوات حتى تصل الشكوى إلى محكمة العدل الدولية.
والحكم الذي سيصدر عن محكمة العدل الدولية بحق الحكومة السورية، لن يطال مرتكبي عمليات التعذيب، ولن يطال أية جرائم أخرى، كجرائم الحرب والإبادة والقتل بالكيماوي، بل سينحصر في مسألة مخالفة الحكومة السورية لاتفاقية مناهضة التعذيب ومطالبة الحكومة السورية بوقف عمليات التعذيب وتعويض الضحايا بالإقرار والاعتراف بارتكاب عمليات تعذيب والاعتذار عنها للضحايا، على غرار ما حصل في قضية “مقبرة سربينتشا” الجماعية، حيث حكمت محكمة العدل الدولية بإلزام صريبا بالاعتراف بمسؤوليتها عن المجزرة وتقديم اعتذار للضحايا. ولنفترض جدلاً أن محكمة العدل قضت بإلزام الحكومة السورية بدفع تعويضات مادية للضحايا كما تطالب الحكومة الهولندية وهو أمر مستبعد الحدوث، فلمن ستدفع هذه التعويضات وكيف؟ ومن هي الجهة التي ستحدّد الضحايا الذين يستحقون التعويض؟
استناداً للتجارب السابقة لمحكمة العدل الدولية، وخلافاً لما اعتبرها البعض من أنّها خطوة تاريخية ومهمة جداً، وبنى عليها أمالاً كبيرة على طريق محاسبة النظام السوري وإنصاف الضحايا، أرى أنّ الخطوة الهولندية جاءت متأخرة جداً، إذْ كان يجب أن تحدث منذ زمن بعيد، فالتعذيب لم يتوقف يوماً في مراكز الاعتقال الأسدية، وهي خطوة أقل بكثير من طموحات الشعب السوري، ولا ترتقي لمطالب الضحايا بتحقيق العدالة، فضلاً عن أنّها غير قادرة على محاكمة الأسد ولا المسؤولين عن التعذيب، وأنّها لن تستطيع وقف عمليات التعذيب ولا حتى الوصول إلى السجون السورية ومراكز الاحتجاز التابعة للأسد، نظراً لأنّ الحكومة السورية عندما صادقت على اتفاقية مناهضة التعذيب وضعت تحفظاً على المادة /20/ منها، والتي تجيز إجراء تحقيق في عمليات التعذيب وعمل زيارة لأراضي الدولة المتهمة بالتعذيب.
ومع ذلك أن تأتي متأخراً خير من لا تأتي أبداً، ونرّحب بأيّة خطوة من شأنها أنّ تشكل ضغطاً إضافياً على نظام القتل والإجرام في دمشق، ونرجو أن تؤسس هذه الخطوة الهولندية لمزيد من الخطوات والإجراءات الأخرى التي من شأنها أن تساعد في وقف مأساة الشعب السوري، وملاحقة كافة المجرمين وفي مقدمهم أركان نظام الأسد وسوقهم للعدالة.
كنّا نأمل من الحكومة الهولندية إحالة القضية إلى المدّعي العام في محكمة الجنايات، استناداً لوجود عدد كبير من الضحايا السوريين على أراضيها، وأن تعدّل تشريعاتها الوطنية وتفتح أبواب محاكمها أمام الضحايا السوريين لمقاضاة المسؤولين عن ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، كما هو الحال في ألمانيا والسويد والنمسا والنرويج، وهنا يأتي دورنا كسوريين متواجدين في أوروبا في تشكيل مجموعات ضغط ومناصرة مستمرة لدفع الدول الأوربية حتى تفتح أبواب محاكمها لمقاضاة النظام السوري وكافة المسؤولين عن عمليات القتل والتعذيب التي جرت وما زالت تجري في سوريا.
ليفانت – ميشال شماس