ربما يتفق معي كثيرون بالقول إن الدولة التي لاصحافة حرّة فيها هي دولة خرساء.. واستطرادا فالمجتمع الذي ليس لديه منابر للحوار والبوح هو مجتمع معوّق لأنه يفتقد إلى أدنى ما يفترض أن يتوفر للبشر وهو حق الكلام.
قليلة هي الدول الخرساء في هذا العالم.. وبلدنا هو واحد من تلك القلة التي سلبت من (رعيتها) حق الكلام وحق الصراخ إذا ما اعتصرهم الألم!.
تصوروا.. يقال إن كل الأبجديات المستخدمة الآن في العالم تعود في جذورها للأبجدية الأولى التي هي أبجدية أوغاريت.. وياللغرابة أن البلد الذي اكتشفت فيه هذه الأبجدية هي سوريا (!) التي مُنع أبناؤها من حق الكلام والهمس، وفرض عليهم الخرس الوظيفي طوال نصف قرن ونيّف.
في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي حيث لم يكن عدد سكان سوريا يتجاوز أربعة ملايين نسمة، كانت تصدر في سوريا أكثر من 125 صحيفة ومجلة.. وفي دمشق وحدها كانت تصدر 67 صحيفة ومجلة بعضها يومي وبعضها أسبوعي.. في حلب أيضا كانت تصدر 27 صحيفة ومجلة و11 في اللاذقية و7 في حمص.. وعدد أقل في مدن أخرى.. هذه الصحف والمجلات لم تكن كلها سياسية بطبيعة الحال، لكن السياسة لم تغادر محتواها قط، وكانت متنوعة التخصصات والاتجاهات، بعضها سياسي صرف وبعضها ثقافي وبعضها ساخر وأخرى تعنى بشؤون الفكر والأدب والمسرح.
الكارثة السورية بدأت مع بداية الثلث الثالث من القرن المنصرم – والتي سبقتها إرهاصات الاستبداد الأولى منذ الوحدة وبعدها سيطرة البعث على السلطة
ليست المسألة بطبيعة الحال مسألة عددية لكمية المتاح إصداره من صحف ومجلات – على أهميتها – وهي واحدة من أهم نوافذ الاطلاع والمعرفة.. ولكن أيضا تكمن تلك الأهمية العددية فيما تؤشر إليه إلى العديد من القضايا منها مستوى الحريات المتاحة لملء كل تلك الصفحات بالآراء والمواقف والتوجهات السياسية المتنوعة، ومستوى الغنى الثقافي والمعرفي للمجتمع الذي يصدر تلك الكمية من الصحف ويقرؤها.. بل ويؤشر أيضاً إلى مدى سلاسة قانون المطبوعات الذي ييسر مسألة إصدارها وطباعتها وتوزيعها، واستطرادا حجم وطبيعة الحريات المتاحة قانونا للمجتمع والمحمية بالنص الدستوري.
الكارثة السورية بدأت مع بداية الثلث الثالث من القرن المنصرم – والتي سبقتها إرهاصات الاستبداد الأولى منذ الوحدة وبعدها سيطرة البعث على السلطة وتفرده بها والتي شكلت المقدمات الموضوعية لتلك الكارثة – عندما سطت حفنة من العسكر المهزومين على السلطة واحتكرتها لنفسها وأممت العمل السياسي بكليته عبر نص دستوري يحرم غير البعثيين من الاشتغال بالسياسة ويمنعهم من الوصول إلى السلطة التي جعلت مساحة خاصة للبعثيين وحدهم وبالتالي لم يعد ثمة حاجة لكل تلك الصحف والمجلات وصارت صحيفتا (البعث والثورة) المتماثلتان في الشكل والمحتوى هما صوت السلطة الذي لا يتعين على الناس سماع غيره من الأصوات أو قراءة غيره من الآراء، لتلحق بهم بعد بضع سنوات صحيفة (تشرين) التي حاولت ألا تكون مستنسخة عن سابقتيها في الشكل لكنها بقيت في الجوهر والمحتوى مجرد طبل ضمن فرقة تعزف لحنا نشاذا يخدش ذائقة السمع قبل أن يحول الرأس إلى مكب للقمامة الأيديولوجية السقيمة.
كنت واحدا من أولئك الكثيرين جدا الذين يرفضون ملء رؤوسهم بالسخافات والتفاهات بل وكنت أخجل أن أشتري أو أحمل بيدي تلك الصحف، فكانت الصحف والمجلات العربية وتحديدا اللبنانية التي يتيسر وصولها لنا في معظم الأحيان هي ملاذنا، والتي غالبا ماتتأخر بالوصول يوماً أو يومين عن موعد صدورها لأنه يتعين أن تعبر أولا تحت منظار الرقيب الذي غالبا مايروق له تمزيق صفحة أو صفحتين منها لأنها تتضمن مقالات وآراء لاتروق له ولا للسلطة التي كلفته بمهمة التنقيب بين الصفحات عما يمكن أن يكون مسّا بالذات السلطوية أو حتى انتقادا لأدائها أو مواقفها من قضايا (وطنية) أو عابرة لها، فمن المهم ألا يتسرب لعقولنا ما يمكن أن يشوه ما تريد أو ما ترغب السلطة أن يستقر بها من معلومات قوامها التضليل والتدجيل والتجهيل ومن آراء هي أقرب للقيء الأيديولوجي السقيم.
كانت الكتابة لتلك الصحف والمجلات الصادرة خارج الأسوار تجربة محفوفة بالمخاطر.. فنحن نتحدث عن زمن مغلق لم تكن وسائل التواصل الإلكتروني فيه متوفرة وشبكة الإنترنت لم تعرف طريقها بعد إلى السجن السوري الكبير.. وبالتالي كان يتعين عليك أن تكتب المقال وترسله بالبريد العادي الذي يخضع للمراقبة الأمنية ومن الطبيعي أن يكون العنوان المدون على مظروف الرسالة – وهو عنوان صحيفة أو مجلة بطبيعة الحال – لافتا ومستفزّا لحسّهم الأمني، مايوجب فتح الرسالة والاطلاع على محتواها حتى يطمئن قلب الرقيب أنك لا تسرّب أخبار الوطن وإنجازاته للعدو (!) ولم يكن دائما مصير تلك الرسائل وصولها لوجهتها، وإنما إلى ملف أمني ربما لا يستوجب استدعاءك مباشرة بالضرورة، لكنه رصيد عليك ستحين لحظة استحقاقه في يوم ما.
القدرة على التعبير والجهر بالآراء والمواقف بدت محدودة أيضا إذ لاتزال آثار لا محدودية البطش بادية الأثر في حياة الكثيرين
مع بدء الألفية الثالثة لم يعد ممكنا بقاء البلد بعزلة عن القفزات الهائلة للتواصل بين البشر عبر الأدوات والوسائل الإلكترونية، فأدخل الإنترنت لسوريا وبالتأكيد اتخذت كل إجراءات الربط والضبط والرقابة على ما يمكن الوصول إليه من المواقع والمعلومات، ولكن القفزات المذهلة في هذا الفضاء الغريب علينا أو الغرباء عنه بمعنى أصح، لم يكن من الممكن مجاراة سرعتها وتطور إمكانات تجاوز وكسر الحجب عنها، وصارت مساحات المعرفة أوسع وإمكانات الاغتراف منها أكبر ومع ذلك كان أثر ذلك محدوداً جداً أو غير باد للعيان ربما.. فالقدرة على التعبير والجهر بالآراء والمواقف بدت محدودة أيضا إذ ماتزال آثار لا محدودية البطش بادية الأثر في حياة الكثيرين.
الآن تتوفر لنا منابر ومساحات واسعة للجهر والتعبير عن الرأي مع توسع وتنوع وسائل التواصل الاجتماعي التي تتيح للجميع فرصة التعبير عن أنفسهم وعن آرائهم وعما يعتقدون وما لا يعتقدون به، لكن مع الأسف باغتتنا تلك الأشياء والأدوات ونحن لم نتعلم أبجدية الكلام والحوار بعد، واستؤصلت فينا ملكة الكتابة وجفت في مجاري عقولنا ما يمكن أن يروي تربتها المتقحّلة بفعل الصمت والخرس المديد.. وها هو واقعنا على تلك الوسائل الإبداعية يشي بحجم بدائيتنا..
كارثة أن تخرج من عتمة الكهف وجهالته إلى رحاب النور وفضاءاته، وتمسك بيدك هاتفا أكثر ذكاء منك لتتحدث أو تكتب من خلاله مقال رأي عن التنوير (!).
غزوان قرنفل _ تلفزيون سوريا