وقع في تاريخ 20 يوليو 1969 حدث كبير في تاريخ البشرية، فقد هبطت في هذا التاريخ الذي سيكتب بأحرف من ذهب أول مركبة فضائية أمريكية على سطح القمر. وأنه في 12 آب الأول أوغست الثاني، الذي سيكتب بأحرف من توتياء، هبط ضغط دم الرئيس السوري على سطح كوكب مجلس الشعب السوري.
وكلاهما، القمر ومجلس الشعب، كوكبان، القمر يدور حول الشمس ومجلس الشعب حول السيد الرئيس.
أيها الأسياد: مأهول تعبير علمي مترجم، يقصد به أنَّ بشرا من لحم ودم هبطوا على القمر، ليس رجلا آليا ولا كلبة مثل لايكا. وقد رأينا الأسد بشحمه ولحمه وضحكته هابط الدم، رابط الجأش، على كوكب المجلس كما أخبرنا هو، فنحن لا نرى الدماء وهي تجري أو ترتفع أو تضطرب في أنابيب الشرايين، وكان الضغط ثابتا دوما، مثل موقفه من القضية المركزية فلسطين الذي هبط أخيرا ترافقا مع هبوط ضغط دمه الدفاق.
لقد كان هبوط ضغط دم الرئيس السوري حدثاً سياسياً كبيراً، ومنحة عظيمة منحها الرئيس للشعب، وكانت مصحوبة بمنحة ثانية، هي أنه جاع يوماً أو بعض يوم، كما أخبرنا هو، ولم يُعرف سبب جوعه، ذلك أن المصادر بخلت بذكر السبب، هل هو الانشغال بالعمل أم هو الفقر الشديد والضنك، أم هو من الصيام تعاطفاً مع شعبه الجائع، لقد جاع رئيس سوريا وهبط ضغطه ولم يبق سوى سنوات قليلة، حتى يصاب بإسهال مثلاً، وهو مصاب بإمساك أبدي بالسلطة التي يطلق عليها اسم “المسؤولية” تحببا، وهي كناية مثل الكناية الشعبية لأم الخبائث بالدمعة.
ولم يقدّر الشعب هذه المنحة حق تقدير، وهي أثمن من كل المنح والعطايا التي منحها هو وأبوه طوال نصف قرن للشعب من عرق جبينيهما في “الفاعل”، وكانت المنح دائماً زيادة على الراتب، فوق ما يستحق الموظف في الدولة العتيدة.
وقد قلّت منح وعطايا الرئيس بسبب مؤامرات التجار الذين يعبثون بالعملة، وانتظر الناس منه خطاباً في أحوال الليرة والدولار يغتصبها كل ليلة وهي نفساء، فتكرّم عليهم بأن أخبرهم بأن ضغطه يهبط ويصعد، مثل ضغوط بقية الشعب من الجوع!
وذكّرتنا عطيته الثانية هذه، بعطيته الأولى عند ظهوره بقميص “نصف كم” أول توليه منصبه بالانتخاب الديمقراطي النزيه بالكم الكامل، وكان وقتها حدثاً ومنحة، فلم يظهر الأسد الأب بقميص نصف كم قط، عاش حياة شتوية مدة حكمه كلها، عاش بكم كامل محافظاً على عورته من الظهور، ومات محتشماً على سريره، كالعذراء البتول، ليس في حسابه سوى ستين ألف ليرة عذراء من عرق بوطه!
الوثنية لها وجهان أيها الأسياد من الإنس والجن، الوجه الأول: هو إسباغ البشرية على الإله، مثل أبطال الإغريق وأباطرة اليابان والصين، الوجه الثاني: هو إسباغ الصفات الإلهية على البشر كما هو الحال عند الرؤساء العرب.
هناك أيضاً صفة من صفات الإله، هي القوة، وليس أقوى من الرئيس، وقد دعمت بقوة رئيس دولة عظمى هو بوتين. ومن صفات الرئيس أيضاً أنه يقيم في الجنة، ولا يجوع فيها ولا يعرى، ولا يظمأ ولا يضحى، وقد جاع وهذا يبشِّر بهبوطه من الجنة.
إن الرئيس كان يحرص على صورة سوريا الفردوسية، هي يوتوبيا، مدينة فاضلة، مدينة الطوبى، ليس فيها مظاهرات، المظاهرات لا تخرج إلا في بلدان العالم الظالمة التي يكثر فيها الفساد، أو الدول العربية التي تعقد معاهدات سلام مع العدو، وسوريا دولة عادلة، فيها كل شيء: نقابات عمال، الطبابة المجانية، النقد البناء في مسلسلات بقعة ضوء ومرايا، والرئيس يتجول في الشوارع من غير حرس مثل عمر بن الخطاب أو أقل قليلاً، وليس له من متع الدنيا سوى سيارة رخيصة، من صنع سوريا، وفيها بثينة شعبان وأحمد حسون ودريد لحام، دين وعلمانية في فراش واحد، سوريا في عهده بلد فيها صفر مشاكل، ليس فيها سوى بعض الأخطاء الفردية والمطبعية.
عاشت سوريا الفاضلة السعيدة لحظات أرضية نادرة، منها الحزن والحداد إبان موت باسل، وعوقب سوريون على عدم الاكتراث بموته، وكان موته لدى الأكثرية عرساً لم يعلنوا عنه، وكدلك إبان موت الرئيس الأبدي، أجبر السوريون جميعاً على الحزن على فردين، وهو مكره على السرور رغم كل هذه الخسائر في الأرواح والبلاد.
لم يُر الأسد حزيناً قط، لم يعلن الحداد قط، لم يُرَ الأسد إلا ضاحكاً، ولم ينكس علم سوى في ذانكما التاريخين، ضاع نصف البلاد وكل المستقبل، والأسد سعيد، لذلك عُدت وعكة هبوط ضغط دم الرئيس السوري حدثاً سياسياً، يكتب بأحرف من توتياء.
عندي شك أن الأسد الأب الذي زعموا أنه لا يضع قدماً على قدم في أثناء الجلوس مع الضيوف كان يطمح أن يكون صنماً بشرياً. الأصنام وحدها لا تمرض ولا تتوعك، وهبوط ضغط الرئيس علامة على النزول درجة في السلم العالي، وكان قد منحنا خبر إصابة زوجته بالسرطان، وهذا يوحي بالنزول من جبل الأولمب، ولو لزيارات قصيرة.
لم يسقط الرئيس فجأة، كما يحدث للمرضى، لم يباغته الهبوط، لم تنقطع به المظلة، هو الذي زفَّ إلينا خبر هبوط ضغط دمه، لو وقع الأمر فجأة لفزعت الطائفة الموالية، وحدث ما لا يحمد عقباه، وقد أعلن الرئيس أنه سيتحسن بالماء والملح، وهما أرخص طعامين في سوريا، هو طعام الزاهدين الأخيار.
لم يهبط دمه إثر طلقة في الجبهة، لم يصب بأبو صفار، لم يمرض بأبو مريجع، ولا أم لزيقة، ولا أبو عدوين، ولا أبو “حريون”، ولا أبو حويط ولا أبو ماصخ.
لننتظر منحة ثالثة، مثلا كأن يعاقب الرئيس ابنه على تجاوز إشارة المرور بمخالفة سير، ربما بسجنه مع وقف التنفيذ لاصطدامه بحمار على الطريق، أو تجاوز دور الفرن او جرة الغاز. ربما يجري الرئيس عملية زائدة دودية، ربما يتبرع بالزائدة لأحد المرضى المحتاجين، أو أحد ضحايا الحرب الذين يتسولون على قارعة الطريق!
*أحمد عمر – “زمان الوصل”