قبل أيام، نفى الممثل السوري، مكسيم خليل، صحة أخبار متداولة عن مسلسلٍ تحت عنوان “ابتسم أيها الجنرال”، قِيل إن خليل سيؤدي فيه دور “حافظ الأسد”. أغراني هذا الخبر بتخيّل عمل تلفزيوني يسلّط الضوء على جوانب خفيّة من حياة الأسد الأب، لم يتم تناولها بشكل وافٍ. تحديداً، حياته العائلية، وتأثيره في شخصية ابنه، ووريثه، الذي يحكم البلاد منذ أكثر من عقدين. وأصبح هذا الإغراء أكبر، مع حلول الذكرى الثانية والعشرين لرحيل الأسد الأب. مما دفعني للقراءة في هذا الحيز بالذات. كيف أثّر حافظ في شخصية ابنه؟ ذاك الذي فاجأ الكثيرين ممن عرفوه قبل العام 1994 –تاريخ وفاة شقيقه باسل-. فـ بشار، تحوّل إلى جزّار، بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، بصورة صادمة لكل من كان يعرفه في مراحل دراسته الجامعية، وخلال تواجده في لندن. فهل كان للأسد الأب دورٌ في أن يصبح ابنه، بشار الأسد الذي نعرفه اليوم؟ هل كان للأب دورٌ في إيقاظ جوانب كانت خفيّة في شخصية الابن؟ بالتأكيد، نعم.
لطالما كانت النظرة الرائجة في أوساط الموالين والمناوئين، على حدٍ سواء، تنحو نحو منح الأسد الأب تقديراً أكبر، حتى لو خلا ذلك التقدير من القيمة الأخلاقية. فالأسد الأب، وفق كثير من المعارضين، مجرم وسفاح، وطائفي. لكنه كان محنّكاً. فيما الابن الذي حاول المزايدة على درجة إجرام والده، ما يزال وفق هؤلاء، أقل حنكة بكثير، مقارنة بوالده. حتى إن الشعار الذي أطلقه متظاهرون بعيد العام 2011، “يلعن روحك يا حافظ عل الجحش اللي خلفته”، يؤكد نظرة كثيرٍ من المعارضين، إلى الأسد الأب، بوصفه أكثر حنكة من ابنه. ونجد مواقف وتعليقات من موالين، توحي بالنظرة ذاتها. وهو أمرٌ كثيراً ما شكّل عُقدة لـ بشار، وفق مسؤولين وإعلاميين كانوا قريبين منه، في مراحل مختلفة من حكمه للبلاد.
لكن عُقدة بشار مع والده، لم تبدأ مع توليه مقاليد الحكم في العام 2000. بل بدأت قبل ذلك بكثير. ووفق البروفسور، ديفيد ليش، من حديث له مع بشار الأسد شخصياً، أخبره الأخير أن حافظ لم يكن أباً “من النوع الذي يقول: أحسنت، برافو. بل كان الأب الذي يقول الأشياء السلبية التي لا يجب فعلها”. أي كان الأب من النمط التسلطي التأنيبي، وهو عامل معروف لدى علماء النفس، بوصفه من أبرز أسباب التشوهات النفسية لدى الأبناء.
وكان لـ “ديفيد ليش”، قصّة مطوّلة مع سوريا. فالبروفسور الحاصل على دكتوراه من هارفرد، في تخصص دراسات الشرق الأوسط عام 1991، سبق أن عقد سلسلة اجتماعات مع بشار الأسد بين عامي 2004 و2009، أصدر خلالها كتاب سيرة ذاتية عن الأسد الابن، بعنوان “أسد سوريا الجديد: بشار الأسد وسوريا الحديثة”، في عام 2005. قبل أن يغيّر رأيه في الحاكم الذي روّج له يوماً، مقراً بقيادته “الفاشلة” للبلاد، بعيد ثورة العام 2011.
لكن ما يهمنا، في هذا السياق، تلك الإشارات لتأثير الأب على شخصية الابن. فبشار الذي تصادفت مرحلة دراسته الثانوية –أي مرحلة مراهقته، التي عادةً ما تلعب دوراً حاسماً في تشكيل الشخصية- مع تفاقم الصراع الدامي بين حكم والده، وتمرد الأخوان المسلمين، والحراك اليساري السلمي المعارض حينها. وعايش الابن مشاهد سحق التهديد الأبرز لحكم الأب، بأقسى أشكال القوة والعنف المفرط، وصولاً إلى ذروتها في مذبحة حماة عام 1982، وهي السنة التي نال فيها الابن، الثانوية العامة، ليدخل مرحلته الجامعية، وقد تكرست في المعايشة اليومية، صورة الأب الحازم، الذي يبطش ليُنهي الخطر الذي يحدق بحكم العائلة.
من تلك اللحظة، يمكن التقاط الأثر النفسي المزدوج للأب في تكوّن شخصية الابن. فالأب السلبي، غير العطوف، الذي يتدخل للتأنيب فقط، والصارم الذي يلجأ لأقصى درجات العنف لحماية مكتسبات العائلة، كان النموذج الذي عايشه بشار، في سِنِي مراهقته. بطبيعة الحال، لا يكفي هذا الجانب للتحليل النفسي لشخصية بشار الأسد، إذ إنّ هناك عوامل أخرى مكمّلة، صنعت تلك الجوانب الخفيّة من شخصية بشار الأسد، التي ظهرت بصورة خاصة، بعد العام 2011. منها، دور الأم، وتنمر الشقيق، وغيرها من العوامل البيئية والتربوية. لكن، وبمناسبة ذكرى رحيل الأب، يمكن لنا أن نقول، إنه لم يؤسس فقط لاستقرار معادلات القسر والقهر لصالح نظام الحكم، وفق ركيزة الطائفة – القبيلة – العائلة. بل كان أثره أبعد من ذلك، إذ زرع، ربما دون أن يدري، عوامل نفسية في شخصية الابن، الذي أورثه الحكم، بصورة تُؤهل هذا الأخير، كي يكون ديكتاتوراً لديه الاستعداد النفسي كي يبطش، مهما اتسعت رقعة الدم من حوله.
إياد الجعفري _ الطريق