“تمتلك حضوراً مؤثراً، ولديها ثقافة وخبرة في العمل المجتمعي”؛ تقول نبال بركات، عن زميلتها في العمل، وشريكتها في إنجاز أهدافهن المشتركة، رابعة القادري.
قدِمت رابعة من ريف دمشق إلى لبنان، مجبرةً، عام 2012، هرباً من ويلات الحرب، وخوفاً من الاعتقال. “شعور بالذنب لم يفارقني منذ وطئت قدمي أرض لبنان، وسيل من الأسئلة يجلد ذاتي: كيف تخرجين من وطنك؟ كيف تتركين كل شيء وتهربين؟”، تسأل السيدة الخمسينية شاكيةً شعورها بالخذلان الذي بسببه حمّلت نفسها مسؤولية تقديم المساعدة لكل من كان مثلها، هارباً من الموت المحتّم.
أوّل وصولها إلى لبنان، أقامت رابعة وأولادها الأربعة، في منزلٍ مع ثلاثين شخصاً من أهلها وأخواتها، لتنتقل، بعد فترةٍ وجيزة، للسكن مع أولادها في بيتٍ مستقلّ، في منطقة البقاع، على طريق المصنع، “لأكون قريبةً من سوريا”، حسب قولها.
اتجهتُ نحو تدريبات الدعم التي وجدت أنها بمثابة نافذةٍ تفتح أمامي قلوب نساءٍ سوريات مثلي، فأستمع إلى قصصهن، وأحتضن معاناتهن.
التعليم على طاولات مطعم
لم ينقضِ أوّل شهرٍ من إقامتها في لبنان، حتى باشرت رابعة ممارسة العمل التطوعي. طلبت منها صديقتها، وهي مديرةٌ تُعنى بشؤون التلاميذ السوريين في دوام ما بعد الظهر بإحدى مدارس بلدة تعلبايا، أن تدرّس مادة اللغة العربية، كونها معلمةً سابقةً، ومجازةً في اللغة العربية. لكن مشكلةً نشأت بين صاحب المدرسة اللبنانية، ومديرة القسم السوري، كادت أن تودي بمصير التلاميذ إلى المجهول، إلى أن بادرت إحدى الجمعيات بتقديم الدعم لهم.
أقامت الجمعية مركزاً تعليمياً داخل مطعم الخان في بلدة تعنايل، محوِّلةً الطاولات إلى مقاعد مدرسية، في فترة ما قبل الظهر. إلّا أنّ النتيجة النهائية لم تأتِ على قدر الجهود المبذولة. “حينها، قدّم التلاميذ امتحاناتهم باسم الحكومة السورية المؤقتة، ونالوا ما عُرف بشهادة الائتلاف، التي لم تقدّم لهم أيّ منفعة، بل أضاعت سنةً من عمرهم، فعمدت بعض المنظمات إلى مساعدتهم بتوفير العمل لهم معها”، كما تقول القادري متأسفةً. بقيت مرارة الخيبة تراود رابعة، إلى أن بدّلت مسار التزاماتها.
سنوات الخدمة والخبرة
“اتجهتُ نحو القيام بتدريبات الدعم التي وجدت أنها بمثابة نافذةٍ تفتح أمامي قلوب نساءٍ سوريات مثلي، فأستمع إلى قصصهن، وأحتضن معاناتهن كلها”. برامج الدعم النفسي هذه، التي أطلقتها منظمات عدة في نطاق منطقة البقاع، وجّهت انتباه رابعة نحو مجالٍ جديدٍ غير التعليم.
بدأت القادري بأول تجربة لها في هذا النوع من المبادرات عام 2013، مع منظمة “لأنك إنسان”. “اكتشفتُ أنني قادرة على الاستماع إلى الآخرين، وتأمين الدعم لهم. قدّمت المنظمة لنا تدريباتٍ في التواصل والاستماع الفعّال. كنا نذهب إلى المخيّمات، وننظّم جلساتٍ للسيدات اللواتي أحببنني وأحببتهن. ومع مرور الوقت، باتت تلك الساعات التي أقضيها معهن، تمنحني شيئاً من الصلابة، وتبلور مهاراتي في الدعم النفسي، وتصقلها”.
“تأتي السيدة في البداية وهي تشعر بالخجل، لأنها في عُمرٍ متقدّم، وتريد التعلّم. نحاول أن نشجّعها، ونقدّم لها الدعم اللازم، إلى أن يراودها شعور بالفخر، فتطلع أولادها، وزوجها، وحتى أحفادها، على دفاترها!”
بموازاة ذلك، عادت القادري إلى ممارسة التعليم. كانت تدرّس التلاميذ السوريين في مدرسة “العالم الصغير” ببلدة تعلبايا، بالإضافة إلى عملها مدقّقةً لغويةً لصالح مواقع على شبكة الإنترنت.
في العام 2014، واصلت رابعة تقديم جلسات الدعم النفسي مع منظمة “النساء الآن“، وقد احتلّ موضوع مهارات التواصل حيّزاً متقدّماً في تلك الجلسات، لما كان يتركه من أثرٍ بالغٍ في نفوس النساء المشاركات، وعلى مستوى علاقاتهن مع أسرهنّ. ثمّ انتقلت، في العام 2017، للعمل مع منظمة “بصمات من أجل التنمية”، لتواصل إدارة جلسات الدعم النفسي في مخيّمات اللاجئين السوريين، كما في مركز المنظمة.
“خلال عملي مع مختلف المنظمات، لم أتوقّف عن تطوير نفسي، وحضور ورشات العمل والتدريبات. وكوني أكبر المتدرِّبات، كنت محطّ أنظار فريق التدريب في أيّ منظمة، وكان يتمّ اختياري لتدريب المدرِّبين. فكان من حسن حظّي أن أشارك في تدريب نظّمته “نداء جنيف”، وقد حصلت في ختامه على شهادة تدريب. كما قدّمتُ ورشاتٍ في القانون الدولي الإنساني، ويَسّرتُ مع منظمة “دار السلام” ورشات عملٍ في بناء السلام، وأقمتُ دورات محو الأمّية للسيدات”، تقول القادري معدّدةً مختلف التجارب التي خاضتها، والخبرات التي راكمتها.
سيّدات سوريات يصنعن التغيير
بعدها، حان موعد إطلاقها مبادرةً من نوعٍ آخر، بمؤازرة لاجئاتٍ أخريات. “نحن ست سيدات سوريات اجتمعنا على الفكرة نفسها، أي المبادرة لتلبية احتياجات النساء، على اختلاف جنسياتهن، في المجتمع الذي نتواجد فيه”، كما توضح. هذه الفكرة نتجت عن دورة قيادات نسائية أقامتها منظمة “النساء الآن”، امتدّت سنةً كاملةً، وأسفرت عن مطالبة المشاركات بتقديم فكرةٍ لمبادرةٍ جديدة، ومؤثّرة، وفعّالة.
“وجدنا أنّ التعليم هو أهمّ قضية”، وفق توضيح القادري. أمّا نبال بركات، البالغة من العمر 55 عاماً، والتي سبق لها أن مارست التعليم في سوريا طوال 18 عاماً، فيشغلها موضوع تمكين المرأة منذ زمن. “في لبنان، تفاجأتُ من نسبة الأمّية عند السيدات، ولم أكن ألاحظ هذه النسبة الكبيرة في سوريا”. لذا استأنفت بركات نشاطها التربوي في لبنان، بموازاة مشاركتها في إطلاق مبادرة “نحنا لبعض“.
“عندما أصبحت أقابل سيدةً غير قادرةٍ على الاعتماد على نفسها، وتسأل الآخرين للاستدلال على العناوين، وقراءة الأرقام، توجّهت إلى العمل في مجالٍ جديدٍ هو محو الأمّية للسيدات، بعد أن كنت أعلّم الأطفال. فالمرأة يجب أن تكون مستقلةً مثلها مثل الرجل، ولكي تكون كذلك، يجب عليها بدايةً أن تعرف القراءة والكتابة، وأن تكون متعلّمةً”. فتجربة محو الأمّية، على حدّ وصف بركات، تقلب حياة النساء رأساً على عقب، وتحوّلها نحو تغييراتٍ حياتيةٍ جذرية.
“تأتي السيدة في البداية وهي تشعر بالخجل، لأنها في عُمرٍ متقدّم، وتريد التعلّم. نحاول أن نشجّعها، ونقدّم لها الدعم اللازم، إلى أن يراودها شعور بالفخر، فتطلع أولادها، وزوجها، وحتى أحفادها، على دفاترها!”، تقول بركات، وتضيف: “نحن نعمل على تقوية شخصية المرأة، ونفسح أمامها المجال لطرح آرائها، والتعبير عن ذاتها، ومناقشة مختلف القضايا. تتفاجأ السيّدة من قدراتها، ذلك لأنه لم تُتَح لها سابقاً الفرصة الملائمة”.
في لبنان، تفاجأتُ من نسبة الأمّية عند السيدات، ولم أكن ألاحظ هذه النسبة الكبيرة في سوريا.
ولمبادرة “نحنا لبعض” أوجه متعدّدة، تحدّدها القادري قائلةً: “كان أوّل نشاطٍ للمبادرة هو محو الأمّية. ولأنّ السيدات في المبادرة يملكن خبرات ومهارات في الأعمال اليدوية، سعينا إلى تقديم التدريبات في هذا المجال، لمساعدة السيّدات، وتمكينهنّ اقتصادياً، من خلال صناعة الحقائب التي تبيعها السيدة، وتالياً تُحسّن وضعها الاقتصادي المتردّي. كما كان الهدف المحافظة على البيئة، من خلال إعادة تدوير أكياس النايلون غير المتحللة، وتحويلها إلى أشياء جميلة نافعة. ولم ننسَ جلسات الدعم النفسي، وجلسات التوعية بحقوق المرأة، وحقوق الإنسان”.
تستهدف المبادرة سيداتٍ من الجنسيات السورية واللبنانية والفلسطينية، حرصاً على تعزيز مفهوم السلم الاجتماعي بين المجتمعَين، اللاجئ والمضيف. كما يشكّل هذا الأمر، برأي السيدات اللواتي أطلقن هذه المبادرة، مصدر غنى، وظرفاً مؤاتياً للتعرّف إلى الآخر، والتواصل معه، وتكوين صداقات جديدة. وهذا ما أكّدته فدوى العطا بقولها: “نشعر وكأننا أخوات، ودائماً نسأل بعضنا عن البعض الآخر”.
تمكّنت السيدات المستفيدات من مبادرة “نحنا لبعض”، من إقامة معرضٍ لأشغالهنّ، والمشاركة أيضاً في معرض “وسهلاً”، الذي تقيمه جمعية “العمل للأمل”. نالت هذه المبادرة التي انطلقت عام 2020، دعم منظمة “النساء الآن”، ووصل صداها إلى عددٍ إضافيٍ من المنظّمات، فحازت تنويه جهات مختلفة، وتشجيعها، وحظيت بمركزٍ ثابتٍ لها في بلدة المرج بالبقاع، حمل اسم “نحنا لبعض”.
“تغيّرت حياتي!”
بعد سنةٍ من العمل الحثيث، وصل عدد السيّدات المستفيدات إلى مئة سيدة، من بينهن فدوى أحمد العطا، وهي لاجئة سورية تقيم في مخيّم الجراحية في البقاع.
لم تعد شخصيتي كما كانت عليه من قبل. أصبحت قويةً وجريئةً أكثر، لا أخشى التحرّك داخل المخيّم، وخارجه، كما أستطيع الخوض في مناقشةٍ من دون خجلٍ أو تردّد”. تغيير جذري باتت تتمتّع به فدوى التي أتت إلى لبنان من محافظة ريف دمشق، قبل تسع سنوات، وعمرها 39 سنة. وهي متزوجة ولديها سبعة أبناء.
“لم تعد شخصيتي كما كانت عليه من قبل. أصبحت قويةً وجريئةً أكثر، لا أخشى التحرّك داخل المخيّم، وخارجه، كما أستطيع الخوض في مناقشةٍ من دون خجلٍ أو تردّد”
“ابنتي بيان في الصف الحادي عشر. أعلّمها ما أتعلّمه في المركز، لأنّ هذا جيّد لمستقبلها”. تقول، وتضيف متابعةً: “تعلّمت في المركز ما أعرفه اليوم كله. فلا خبرةً سابقةً لي في أيّ مجال. أقوم بأعمال يدوية عدّة، منها حياكة الصوف، وصناعة حقائب من البلاستيك والخيش، بالإضافة إلى الخياطة، والتطريز، وتقديم الدعم النفسي. “وتشير فدوى إلى الفائدة المعنوية والمادية التي تنالها جرّاء الأعمال التي تمارسها. “الناس هنا في المخيم يستغربون قدرتي على العمل على البلاستيك، وكيفية تطويعه، لتحويله إلى حقائب أحصل مقابل بيعها على مردودٍ يساعدني اقتصادياً”.
فدوى، كما لاجئات سوريات كثيرات، استفدن من مبادرة تأمين النساء اجتماعياً، التي أطلقتها رابعة ورفيقاتها، وخضن غمارها على الرغم من التحديات كلها، إذ لا يعلم باحتياجات المرأة سوى المرأة. وانطلاقاً من هذا الواقع، تمكّنت سيداتٌ، بعددهن القليل، وأفكارهن الكثيرة، وإرادتهن الواحدة، من التأثير عميقاً في مجتمعهن، وفي شخصيات النساء اللواتي قابلناهن كلهن. فما مبادرتهن إلا دعوة مفتوحة لتحويل المعاناة والحاجة إلى قوةٍ، وإرادةٍ، وتغيير.
بشرى الدعاس _ رصيف 22