“ما تنسينا خبري الكل عنا لنقدر نطلع”، هي وصية عدد من المعتقلات السوريات داخل فرع فلسطين في العاصمة دمشق حملتها الناجية نور الشيخ قبيل خروجها من المعتقل لعائلاتهن.
تمتنع الكثير من العائلات السورية عن الإبلاغ عن السيدات أوالفتيات المفقودات للمنظمات الحقوقية المعنية، لأسباب مجتمعية، منها حماية الأنثى بعد خروجها من المعتقل، ما يخلق صعوبة في توثيق أعداد المفقودات داخل المعتقلات وبالتالي صعوبة المطالبة بهنّ.
مع بداية الحراك السوري في آذار عام 2011 اعتُقلت مئات السيدات السوريات على أيدي الأطراف المتنازعة، معظمهنّ على أيدي قوات النظام السوري، بحسب منظمات حقوقية.
أم زكريا، 50 عاماً، إحدى الناجيات من فرع الجوية بمدينة حلب، تقول لـ”روزنة”: “الكثيرات داخل الفرع لا تعلم عائلاتهنّ باعتقالهنّ، منهنّ قادمات من دير الزور أو محافظات أخرى”.
اعتقلت أم زكريا في آب عام 2018 بتهمة تعليم حمل السلاح للنساء، بينما هي معلمة في معهد تعليمي ليس إلا، واستطاعت بعد شهر من الخروج عبر دفع مبلغ مالي وصل إلى 7 آلاف دولار أميركي.
مخاوف المعتقلات
اعتقلت نور (30 عاماً) في آب عام 2014 بمحافظة حلب، وكانت في سن الـ 22 وهي في السنة الثالثة من الدراسة الجامعية “حسيت إنّي بكابوس لما اعتُقلت”.
عام وثلاثة أشهر من المعاناة في الزنزانة، لكن “الفقد أصعب شعور”، تقول نور إنه و خلال الأشهر الثمانية الأولى من اعتقالها دفعت عائلتها أموالاً طائلة لأشخاص ذوي نفوذ من أجل معرفة مكانها، دون فائدة، أولئك الأشخاص أوهموهم أنها في حلب بينما كانت في الأفرع الأمنية بدمشق.
كما العديد من السوريات، تعرّضت نور داخل المعتقل للتعذيب الجسدي والنفسي، في ظل مخاوف من عدم قدرة عائلاتهن للوصول إليهنّ أو إخراجهنّ.
أما أم زكريا فتمنّت الموت داخل المعتقل قبيل خروجها: “لما نسمع أصوات التعذيب أثناء التحقيق خلال 24 ساعة، واعترافات الشباب وقتلهم لا نتمنى إلا الموت”.
في إحدى المرات عندما هدّدها المحقق بضربها ووضعها على كرسي الكهرباء أَغمي عليها وأصابها نزيف، وحينما خرجت من المعتقل عانت أم زكريا من فقدان ذاكرة جزئي.
قليل من أبلغ عن فقدان النساء
أحمد قرنفل، مدير مبادرات المجتمع المدني في “اللجنة الدولية لشؤون المفقودين” يقول لـ”روزنة”: إنه خلال 4 سنوات من عمل اللجنة على ملف المفقودين السوريين، كان عدد الإناث المبلغ عنهنّ أقل بكثير من أعداد الذكور.
ويضيف: “وصلنا لمرحلة رأينا أن لا أحد يبلّغ عن النساء، فعندما كنا نجلس مع عائلة لديها معتقلان ذكر وأنثى، يتم الحديث عن الذكر فقط، وتُغيّب العائلة ذكر الأنثى المعتقلة” والمبرر، وفق قوله: “لحمايتها حين الخروج من المعتقل” وأسباب أخرى أبعد ما تكون عن العدالة، بينما بعض الأهالي يرفض استقبال الأنثى المعتقلة بعد خروجها.
ودعا قرنفل الناجيات من الاعتقال للإبلاغ عن النساء اللواتي كنّ معهنّ في المعتقل.
إحدى الناجيات من معتقلات النظام السوري، طالبت بعد خروجها بعدم الصمت عن جرائم الاعتقال والاختفاء القسري “كل المجرمين لازم يتعاقبوا مو أنا”.
خلال 4 سنوات وثّقت “اللجنة الدولية لشؤون المفقودين” 23 ألف شخص بين ذكور وإناث، و10 في المئة فقط من الإناث، وفق قرنفل.
منذ عام بدأت “اللجنة الدولية لشؤون المفقودين” بالتعاون مع منظمات المجتمع المدني ذات القيادة النسائية لدعم قضية المفقودات السوريات.
الناجية بسمة منصور تقول: “يؤسفنا بعد 10 سنوات من الثورة أننا لا نزال نحتاج إلى التوعية حول حقوق المرأة.. لنا حقوق ولسنا قاصرات” وتساءلت “لماذا الرجل عند اعتقاله يُسأل عنه جميع أفراد عائلته بما فيهم زوجته ووالدته؟.
السيدات وسيلة ضغط
استغلّت الأجهزة الأمنية في “فرع فلسطين” التابع للأمن العسكري في دمشق، وجود المعتقلات من خلال جعلهن كوسيلة للضغط على الشباب بهدف الاعتراف بالتهم المنسوبة لهم، تقول نور “نحن البنات كنا وسيلة ضغط على الشباب، يخبروهم: إذا ما حكيتوا رح نغتصبهن… كان المحقق يضربني قدام الشاب ليذله”.
استمر اعتقال نور لمدة عام و3 أشهر تنقّلت خلالها بين الأفرع الأمنية في حلب ودمشق، 7 أشهر منها قضتها في “فرع فلسطين” المعروف بالفرع “235” الذي يحظى بسمعة سيئة للغاية لما تسرب عنه تعذيب لمعارضي النظام وناشطي حقوق الإنسان.
في غرفة طولها متران وعرضها متر واحد داخل فرع فلسطين، عانت نور من التعذيب النفسي قبل الجسدي، هي و15 سيدة، مع أكثر من 6 أطفال “خلال 24 ساعة ونحن نسمع أصوات التعذيب”.
عملت نور في توثيق انتهاكات النظام السوري منذ انطلاقة الثورة، كما عملت مع المنظمات الإنسانية في حلب “منذ بداية الثورة خرجت في المظاهرات ووثقت الانتهاكات”، تقول لـ”روزنة”.
آلية التبليغ
وعن عملية التبليغ على المفقودين، أوضح قرنفل أنها آلية بسيطة ولا تحتاج سوى للوصول إلى انترنت والدخول إلى موقع “oic” مركز الاستفسار عن المفقودين، والإبلاغ عن الشخص المفقود عبر تقديم مجموعة معلومات عنه.
أي أحد يستطيع الإبلاغ عن الشخص المفقود، أم أو أب أو أخت، بشكل آمن وسريع، وفي إحدى المراحل تحتاج اللجنة إلى عيّنة من الحمض النووي “DNA”.
نسرين، إحدى المشاركات في حملة “قصتهن قصتنا” ذكرت أنها من منطقة فُقدت الكثير من نسائها وإلى الآن لم يتحدّث أحد عنهن، أو وثقت قصصهنّ “المفقودات لسنَ أرقام، هنّ واقع ويجب رفع الصوت لأجلهنّ.
وصمة مجتمعية
لم تصدّق نور أحد المحقّقين داخل “فرع فلسطين” حينما قال لها إنّ الاعتقال سيلاحقها كوصمة مجتمعية كل حياتها “ضحكتُ حينها”.
خرجت نور أواخر عام 2015 بإخلاء سبيل، أوّل سؤال تعرّضت له عند الخروج من الناس المتجمهرين حول الفرع الأمني بدمشق، “هل تم اغتصابك؟ كيف قدرانة تمشي وتحكي؟” تقول: “كنت في حالة صدمة”.
تعاني الكثير من الناجيات بعد خروجهن من المعتقل من وصمة مجتمعية قد تؤثر على صحتهنّ النفسية.
“بعد خروجي من المعتقل انصدمت، بدل ما اطلع كبطلة طلعت كحدا ملطّخ بالعار، عشت الوصمة المجتمعية”، تقول بسمة منصور إحدى الناجيات من المعتقلات.
منذ خروج نور من المعتقل تقدّم لها العديد من الشباب من أجل الزواج، منهم معتقلون، لكن كان الحاجز “معتقلة سابقة”: “أحدهم يقول سأستر عليكي والآخر يخاف أن أتحدث عن مرحلة اعتقالي أمام عائلته وآخر يريد أن أنسى الثورة”.
تُؤثّر تلك المواقف على نور”أنا بحاجة لشخص ينظر لي ويعاملني كشخص طبيعي وليس كشخص معتقل”.
تعمل نور حالياً مع عدد من المنظمات الحقوقية المسؤولة عن توثيق أعداد المفقودين بهدف “التوعية بألم المعتقلات والتوعية بأننا لسنا عورة” إضافة لذلك تحاول نشر الوعي بين عائلات المفقودات أمام العادات “البالية” التي تزيد من معاناة السيدة أو الفتاة وتحمّلها مسؤولية “الاعتقال” الذي لا ذنب لها به، بدل الوقوف إلى جانبها.
لجأت نور إلى تركيا مع عائلتها مطلع عام 2016، بعد علمها بنيّة الأجهزة الأمنية اعتقالها مرة أخرى.
منظمات المجتمع المدني ذات القيادة النسائية أطلقت مع “اللجنة الدولية لشؤون المفقودين” في التاسع من آذار الجاري حملة تحت عنوان “قصّتهن قصتنا” لتشجيع المجتمع السوري للتبليغ عن السيدات المفقودات.
الحملة انطلقت بالتعاون بين 18 منظمة مجتمع مدني و7 أفراد من القيادات النسائية، وفق ما ذكرت لـ”روزنة”.
وذكرت “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” أمس الثلاثاء، في تقريرها بمناسبة الذكرى الـ11 لانطلاق الثورة السورية، أنّ 9 آلاف و774 سيدة قيد الاعتقال أو الاختفاء القسري على أيدي أطراف النزاع والقوى المسيطرة في سوريا منذ آذار عام 2011 وحتى آذار عام 2022، بينهم 8 آلاف و96 سيدة على يد قوات النظام.
وكان الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، دعا في الـ 11 من الشهر الجاري ، إلى إيجاد حل سياسي في سوريا بعد 11 عاماً من الحرب، وحثّ على “العمل الجماعي” لإنهاء ممارسة الاعتقال التعسفي والاختفاء القسري لعشرات آلاف الأشخاص.
وأكدت منظمة “هيومن رايتس ووتش” في تقريرها الصادر في منتصف كانون الثاني الماضي، أن قوات النظام السوري تواصل الاعتقال التعسفي والإخفاء القسري وإساءة معاملة الناس في جميع أنحاء البلاد.
إيمان حمراوي _ روزنة