ما تزال فكرة تشكيل (ناتو عربي) التي وردت على لسان العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني، تثير الكثير من السخونة في وسائل الإعلام بكل أشكالها، وبعيداً عمّا قيل ويقال حول هذه الفكرة، إلّا أنه من المفيد معرفة السياق الذي دفع بها إلى الظهور، وما الذي يجعل ملك الأردن في عجلة من أمره للتبشير بمشروع كهذا، لم يزل في طور الرغبات أو الافتراضات، بل لعلّ الأهمّ من ذلك كله: ما التداعيات التي سيتركها هذا الطرح الجديد على المشهد السوري على وجه الخصوص؟
زيارتان قام بهما الملك الأردني إلى واشنطن، والتقى خلالهما الرئيس بايدن، وقد حملت الزيارتان رغبتين متناقضتين، كانت الزيارة الأولى في حزيران من العام 2021، وحينئذ التمس الملك عبد الله من بايدن أن يتيح له انفتاحاً ولو جزئياً على نظام الأسد، وقد تحقق له ذلك، وعلى أعقاب تلك الزيارة تقرر تزويد لبنان بالغاز والكهرباء عبر الأراضي السورية، تزامناً مع انفتاح تجاري وديبلوماسي أردني نحو دمشق، فضلاً عن فتح الحدود بين الطرفين وتفعيل حركة العبور والسفر والتبادل التجاري، في خطوة مستثناة من عقوبات قيصر التي تفرضها الولايات المتحدة الأميركية على نظام دمشق، ولم يكتف الأردن – آنذاك – بتلك الخطوة، بل أراد الخروج بها من إطارها المحلي الخاص، إلى فضاء إقليمي ودولي، أي أراد أن يجعل من انفتاحه على نظام دمشق مبادرةً تحظى بالتعميم، وربما رأى فيها مفتاحاً لبدايات حل سياسي للقضية السورية، ولتعزيز هذا المسعى قام الملك عبد الله بزيارة بوتين في شهر آب 2021، وقد تم الإعلان في أعقاب تلك الزيارة عما سُمّي آنذاك بمشروع ( خطوة مقابل خطوة)، ولعله من الطبيعي أن يلقى هذا المسعى الأردني دعماً روسياً واضحاً، باعتبار أن المبادرة الأردنية تتيح لنظام الأسد الخروج من عزلته العربية والدولية، وكذلك تتيح له فرصة لاختراق العقوبات المفروضة عليه، فضلاً عن شرعنة استمراره في السلطة. ولعله من الثابت أن الأردن كان مدفوعاً نحو هذا المسعى بجملة من الاعتقادات، لعل أولها اعتقاده بأن تحاشي خطر الميليشيات الإيرانية التي تتموضع في الجنوب السوري إنما يكون عن طريق دمشق، لظنه أن الروس ونظام الأسد قادران على ضبط تلك الميليشيات، وربما أدى هذا الانفتاح أيضاً إلى ترحيب إيراني من شأنه أن يجعل الأردن خارج دائرة الاستهداف الإيراني.
الزيارة الثانية لملك الأردن إلى واشنطن ( أيار 2022 ) حملت في طياتها نقيض ما تضمنته الزيارة الأولى، إذ كان من الواضح أن الترجمة العملية لمشروع ( خطوة مقابل خطوة) قد ضاعفت المخاوف الأردنية، ولم يعد الخطر الطائفي لميليشيات إيران وحده هاجساً أردنياً مخفياً، بل بات الأردن مهدّداً بجعله سوقاً للمخدرات التي باتت مُنتَجاً لملحقات إيران بامتياز، وحينذاك لم يكن أمام ملك الأردن سوى طلب الدعم من واشنطن لمجابهة التحديات التي باتت تراكمها ميليشيات إيران، فهل كان الفشل الذي انتهت إليه مبادرة ( خطوة مقابل خطوة) هو الحافز نحو الانتقال إلى فكرة إنشاء ( ناتو عربي)؟ قد لا تحتاج الإجابة إلى مزيد من التفكير، وخاصة في ظل خوف خليجي أردني من استمرار نهج إدارة بايدن المُهادِنة لإيران، ما يعني انزياحاً تدريجياً للمظلة الأمنية الأميركية الرادعة للخطر الإيراني، وفي هذه الحال لا بدّ من البحث عن مظلّة بديلة، فهل سيكون الطريق نحو إسرائيل هو السبيل نفسه لالتماس تلك المظلة الأمنية الجديدة؟
لم يعد الخطر الطائفي لميليشيات إيران وحده هاجساً أردنياً مخفياً، بل بات الأردن مهدّداً بجعله سوقاً للمخدرات
يشير الحراك السياسي بين الدول العربية، والخليجية على وجه الخصوص، إلى أن ثمّة إرهاصات أولية توحي بظهور تحالف يجمع دول مجلس التعاون الخليجي ومصر والأردن وإسرائيل، بهدف التصدّي للتمدّد الإيراني في منطقة الشرق الأوسط، وبعيداً عن التفاصيل المتعلقة بإمكانية نجاح هذا التحالف المفترض أو عدم نجاحه، وكذلك بغض النظر عن المرجعية التي سيُبنى عليها هذا التحالف، سواء أكانت الفكرة ذاتها التي طرحها شمعون بيريز في أواسط تسعينيات القرن الماضي أم سواها، إلّا أن ما يمكن تأكيده هو أن وجود إسرائيل في هذا التحالف المزمع إنشاؤه هو تعبير واضح عن حالة شديدة من الضعف العربي، استشعرت غياب الدعم الأميركي، ما دفعها للاستنجاد بمظلة الكيان الصهيوني التي هي الأقوى عسكرياً في المنطقة، أضف إلى ذلك أن المصلحة العربية المرجوّة من تحالف كهذا هي ليست مصلحة تحتاج إليها الشعوب، بل هي مصلحة أمنية تخصّ أنظمة الحكم فقط، ثم يمكن لنا بعد ذلك أن نتساءل: هل الأطراف العربية التي تنوي الانضواء في الناتو الافتراضي تدرك بدقّة طبيعة المشكلة القائمة بين إسرائيل وإيران، وهل الصراع القائم بينهما هو عبارة عن صراع مصالح واختلاف على حجم النفوذ ومساحته، أم هو صراع يعبر عن خلاف وجودي بينهما ولا يتوقف عند المصالح القريبة أو المباشرة؟
ما يبقى جديراً بالتوضيح هو أن فكرة (الناتو العربي) كانت لها تداعيات على مستوى آخر، أعني أنها أعادت من جديد أمام السوريين متلازمة ( الثنائيات) التي لا بدّ من الانحياز إلى أحد طرفيها، أعني أيهما الشرّ، وأيهما الأكثر شرّاً: إسرائيل أم إيران؟ وفي غياب الحسابات المنطقية لتلك المعادلة المغلوطة، تبقى ردود الأفعال هي ما يعمل على تغييب الوعي وانحراف البوصلة، فمن يرى أن إسرائيل ما تزال كياناً صهيونياً غاصباً لدولة فلسطين، وأن عداءها أو خلافها مع إيران لا يعطيها صك البراءة من جرائمها بحق الفلسطينيين والعرب، فهو مُتهمٌ بانحيازه لتيار الممانعة الأسدي الإيراني، بل ربما بات مُتهَماً أيضاً بتمسّكه بالإيديولوجيا القومية على حساب القضية السورية والتضحيات الهائلة للسوريين، ومن يرى أن التمدّد الإيراني بات أكثر خطورة من الكيان الصهيوني، بات متهماً بانحيازه للتطبيع مع إسرائيل، وثمة صوت ثالث لا يتجاهل عِظَمَ خطر إيران ودورها الإجرامي في دعمها للأسد، ولكنه في الوقت ذاته لا يرى أن مقاومة الإجرام الأسدي الإيراني يمكن أن تتحقق من خلال التحالف مع من هو أكثر إجراماً، ولئن كان، وما يزال جذر القضية السورية يتجسّد بمسألة التحرر من الاستعباد واستعادة الكرامة والحقوق المُغتصبة، فلا إسرائيل ولا إيران تملكان الأهلية الأخلاقية للتعاطي مع ما يريده السوريون.
حسن النيفي _ تلفزيون سوريا