مرّت محافظة درعا في سوريا، بين تموز/ يوليو 2018، ومطلع أيلول/ سبتمبر 2021، بعمليتَي تسوية، كانت الأخيرة بعد الحملة العسكرية التي شنّتها قوات الفرقة الرابعة على أحياء في درعا البلد، مع حصارٍ استمرّ شهرين تقريباً، وانتهى بالاتفاق على تسوية جديدة شملت معظم مناطق محافظة درعا، كان أبرز نقاطها تسليم السلاح الفردي بأعدادٍ محدّدة من كلّ مدينة، أو بلدة، وإجراء تسوية لأبناء هذه المناطق، أو شنّ عمليات عسكرية في حال الرفض، مع إجراء عمليات تفتيش كانت شكليةً في معظمها، وإعادة تموضعٍ للحواجز، والنقاط العسكرية.
ثلاث سنوات بين التسويتَين، برز خلالها صراع روسي-إيراني لبسط النفوذ على المحافظة، ولا يزال قائماً حتى الآن. فروسيا تسعى إلى إظهار نفسها القادرة على إحلال السلام، وإيجاد حلٍّ مثاليّ في محافظة درعا، يمكن تعميمه لاحقاً على الأراضي السورية كلها، بينما لإيران مشروع مختلف، تسعى من خلاله إلى التواجد بالقرب من الحدود مع إسرائيل من جهة، ومع الأردن من جهةٍ أخرى، التي تعدّها بوابةً كبرى لتجارة المخدّرات، وتهريبها، بمختلف أنواعها.
تسعى للتواجد بالقرب من إسرائيل والأردن من جهةٍ أخرى، التي تعدّها بوابةً كبرى لتجارة المخدّرات، وتهريبها، بمختلف أنواعها
أمّا النظام، فقد نكث بوعوده بعد التسوية الأولى، واستمرّ على النهج نفسه، بعد التسوية الثانية، ليعود إلى عمليات الاعتقال التعسفية، خاصّةً للمنشقّين، والمتخلّفين عن الخدمة العسكرية، ما أدّى إلى وفاة العديد منهم، نتيجة التعذيب في سجن صيدنايا العسكري، وملاحقة الناشطين والناشطات من أبناء المحافظة، واعتقالهم.
نتيجةً لذلك، وقف أبناء درعا، وخاصّةً فئة الشبّان، أمام خياراتٍ محدودةٍ تتلخّص كما يلي:
الأول، الانتساب إلى صفوف اللواء الثامن التابع لروسيا، وهو ما حاربه النظام بشتى الوسائل، خاصّةً في ريف درعا الغربي، وما يتمّ تداوله حالياً حول إمكانية حلّ اللواء، وإلحاق عناصره بشعبة الاستخبارات العسكرية.
اختار شباب درعا الخروج بشكلٍ غير قانوني، عن طريق التهريب، من المحافظة إلى لبنان، أو الشمال السوري، ومنه إلى تركيا، وعبر مهرّبين تابعين لحزب الله اللبناني، أو الفرقة الرابعة، أو الأجهزة الأمنية
الثاني، الانتساب إلى صفوف الفرقة الرابعة، وخاصّةً أبناء ريف درعا الغربي، وهو ما يضعهم بين فكَّي عمليات الاغتيال من قِبل الفرقة الرابعة، للرافضين الانضمام إلى صفوفها، ومن جهاتٍ تدّعي أنها من المعارضة، لمن وافقوا على الانتساب.
الثالث، الالتحاق بالخدمة العسكرية الإلزامية بشكلها الاعتيادي عن طريق شِعب التجنيد، وهو ما سيؤدّي إلى أن تكون خدمة هؤلاء العسكرية خارج المحافظة، على عكس اللواء الثامن والفرقة الرابعة اللتين يتواجد معظم المنتسبين إليهما من درعا، في المحافظة نفسها، بعد أن تمّ نقل قسمٍ منهم إلى خارجها، بعد التسوية الأخيرة.
الرابع، الخروج بشكلٍ غير قانوني، عن طريق التهريب، من المحافظة إلى لبنان، أو الشمال السوري، ومنه إلى تركيا، وعبر مهرّبين تابعين لحزب الله اللبناني، أو الفرقة الرابعة، أو الأجهزة الأمنية.
مشقّة الهروب
كان خيار الخروج من المنطقة، على الرغم من المخاطر المحيطة به، وارتفاع أجور المهرّبين، هو الخيار المفضّل لدى الكثيرين من الشبّان، وخاصّةً الرافضين لعملية التسوية.“الوضع ما بطمن بنوب”… ما الذي يحدث في درعا؟التحوّلات العشائرية في درعا بعد تسوية 2018… التعافي البطيءالتحوّلات العشائرية في درعا منذ بداية الحرب السورية… الانكفاء له أثمانه
باتت الحياة في محافظة درعا صعبةً للغاية، خاصّةً بالنسبة إلى فئة الشبّان الذين وجدوا أنفسهم بعد التسوية أمام واقعٍ يهدد حياتهم بمختلف جوانبها، فالنظام وحلفاؤه يحاولون بسط سيطرتهم بكل الأشكال، بما فيها الاغتيال لمن يرفض عمليات التسوية، كما أن الخدمة العسكرية الإلزامية تشكّل تحدّياً وخطراً من نوعٍ آخر، إذ يخشى الشبّان أن يتمّ نقلهم إلى جبهات قتال من كانوا بالأمس رفاقهم في المعارضة، ويبقى الاعتقال أحد أبرز مخاوف الشبّان، خاصّةً على الحواجز، أو من خلال مداهمات الفروع الأمنية، بمساعدة منتسبين محليين.
لم يترك النظام أيّ أملٍ لنا في البقاء في سوريا، فقد داهمت دورية أمنية منزلي في نهاية العام 2020. عندها، اتّخذت قرار المغادرة إلى لبنان، فالبقاء يعني الاعتقال، والتصفية
يقول محمد الكركي، أحد الهاربين إلى لبنان، لرصيف22: “لم يترك النظام أيّ أملٍ لنا في البقاء في سوريا، فقد داهمت دورية أمنية منزلي في نهاية العام 2020. عندها، اتّخذت قرار المغادرة إلى لبنان، ولم أكن أملك خياراً آخر، فالبقاء يعني الاعتقال، والتصفية، خاصّةً أنني من معارضي التسوية”.
من جهته، يقول عبد الله من ريف درعا الغربي، لرصيف22، إنه “مطلوب للخدمة العسكرية، ولذلك فضّل المغادرة نحو الشمال السوري، ومنه إلى تركيا حيث يقيم الآن في إسطنبول”، مشيراً إلى أنه استفاد من مهلة تأجيل الخدمة التي منحها النظام للمطلوبين للخدمة العسكرية، مطلع العام 2021، من أجل استخراج جواز سفر، ليغادر عن طريق أحد المهرّبين إلى إدلب، ومنها إلى تركيا، في رحلةٍ لم تخلُ من المخاطر والابتزاز والاعتداءات.
حالف الحظ عبدالله خلال مروره من مناطق النظام، لكنه اصطدم بمخاطر أخرى في الشمال السوري، كانت بدايتها عمليات ابتزازٍ ماليٍّ من حواجز هيئة تحرير الشام عند الدخول إلى محافظة إدلب
ويؤكد عبد الله، أن “الحظ حالفه خلال مروره من مناطق النظام، بعدم التوقّف على الحواجز، لكنه اصطدم بمخاطر أخرى في الشمال السوري، كانت بدايتها عمليات ابتزازٍ ماليٍّ من حواجز هيئة تحرير الشام عند الدخول إلى محافظة إدلب، حيث يتمّ فرض إتاوات تصل إلى 100 دولار، عند كل حاجزٍ، بالإضافة إلى خطرٍ يتمثّل في احتمالية الاحتجاز للتحقيق، وهذه النقطة تختلف من شخصٍ إلى آخر، بالإضافة إلى التفتيش الدقيق للأشخاص، ولهواتفهم”.
أيمن، شاب من مدينة درعا، تعرّض خلال رحلته من درعا إلى الشمال، للابتزاز مرّتين؛ ففي المرة الأولى قام المهرّب بتسليمه مع آخرين معه إلى أحد حواجز النظام في حمص، حيث تم احتجازهم أياماً عدّة، قبل أن يطلق سراحهم مقابل مبلغ 700 دولارٍ عن كلّ شخصٍ، وترافق الاحتجاز مع الضرب والإهانة. أما الابتزاز الثاني، فقد كان من قبل الشرطة العسكرية التابعة للمعارضة في مناطق درع الفرات، حيث تم اعتقالهم بتهمة الاشتباه في أنهم جواسيس للنظام، واحتُجزوا ليومين، وأُخلي سبيلهم بعد دفع مبلغ 500 دولارٍ عن كلّ شخصٍ منهم.
وتتفاوت المبالغ المدفوعة في الحالات التي يقوم فيها النظام، أو قوات المعارضة في الشمال، حسب كلّ شخصٍ، وعمله، وماضيه، خلال سنوات الحرب، لكن بشكلٍ عام لا يعدو أيّ شخص أن يكون وسيلةً للنظام، أو المعارضة، لكسب الأموال.
بحسب الروايات التي حصل عليها رصيف22 من شُبان استطاعوا أن يصلوا إلى وجهتهم، تختلف طرق تهريب الأشخاص تبعاً للأوضاع الميدانية على الأرض، ولكن هناك طرق رئيسية معتمَدة من قبل المهرّبين التابعين أصلاً للنظام
في حالة عمار، وهو ناشط مدني من ريف درعا، فقد حاول الخروج إلى لبنان عن طريق أحد المهرّبين، لكن حاجزاً للنظام اعتقله في محافظة حمص، وتم نقله إلى سجن صيدنايا العسكري، وبقي فيه نحو ثلاثة أشهر حتى اضطر أهله إلى دفع نحو 15 ألف دولار حتى تمكّنوا من إخلاء سبيله، وإعادته إلى درعا. وعلى الرغم من هذه التجربة، يؤكد لرصيف22، أنه “في انتظار فرصة مناسبة لإعادة المحاولة، إذ يشعر بتهديدٍ حقيقيٍّ بالقتل نتيجة نشاطه خلال السنوات الماضية”.
المال أولاً
وبحسب الروايات التي حصل عليها رصيف22 من شُبان استطاعوا أن يصلوا إلى وجهتهم، تختلف طرق تهريب الأشخاص في بعض الأحيان، تبعاً للأوضاع الميدانية على الأرض، ولكن هناك طرق رئيسية معتمَدة من قبل المهرّبين التابعين أصلاً للنظام، ومن قبل ضباطه، وتحصل عملية التهريب كالتالي:
يتولّى استلام كافة الأشخاص أياً كان انتماؤهم، ضبّاط في الأمن القومي مرتبطون بحزب الله اللبناني، وهم ضبّاط سوريون. ويتمّ تقسيم الأشخاص حسب الانتماء
يتمّ النقل من محافظة درعا من نقاط تجمّع عدة في المحافظة، وذلك حسب كل منطقة، إذ تم تقسيم نقاط التجمّع إلى ثلاث نقاط رئيسية:
الأولى، الريف الشرقي، “نقطة نقل المطلوبين للخدمة العسكرية”، ويتمّ النقل من درعا إلى دمشق عن طريق اللواء الثامن الروسي.
الثانية، نقل عناصر تنظيم داعش وحراس الدين، “أياً كان تواجدهم في المحافظة”، ويُجمعون في ريف درعا الشرقي، أو في منطقة بئر القصب في ريف السويداء، ويُنقلون عبر مهرّبين تابعين لحزب الله، والمخابرات الجوّية إلى دمشق.
الثالثة، ريف درعا الغربي، ويتمّ نقلهم من المنطقة إلى دمشق عن طريق الفرقة الرابعة.
بشكلٍ عام، تتم عملية النقل من محافظة درعا إلى دمشق على أوتستراد دمشق-درعا الدولي، حتى الوصول إلى دمشق، صحنايا تحديداً، وهي نقطة التجمّع الثانية، والنقل من بئر القصب إلى دمشق يتم عبر أوتستراد السويداء-دمشق، وصولاً إلى نقطة التجمّع الثانية.
يتولّى استلام كافة الأشخاص أياً كان انتماؤهم، ضبّاط في الأمن القومي مرتبطون بحزب الله اللبناني، وهم ضبّاط سوريون. ويتمّ تقسيم الأشخاص حسب الانتماء، إلى: مطلوبين للخدمة العسكرية والاحتياطية، ومقاتلين إسلاميين، وأشخاص متّهمين بارتكاب جرائم جنائية، وبعد ذلك يتمّ النقل بواسطة سيارات تابعة للنظام يقودها “ضبّاط حصراً”، من الفرقة الرابعة، أو المخابرات الجوّية، أو الأمن العسكري.
يدفع المطلوب للخدمتين العسكرية والاحتياطية 1800 دولارٍ، والمطلوبون لأيّ نوعٍ من أنواع الجرائم الجنائية 2000 و2500 دولارٍ. أما المقاتلون الإسلاميون، داعش-حرّاس الدين-تحرير الشام-التحرير الإسلامي، فبين 3500 و5000 دولار
وفي المرحلة الثالثة، يتمّ تقسيم الأشخاص حسب وجهتهم: الخارجين إلى لبنان، يتمّ نقلهم عبر بلدة وادي خالد في لبنان، أما الخارجين إلى البادية والسخنة، فيُنقلون من حمص إلى تدمر، ومنها إلى هاتين المنطقتين، ومعظمهم من تنظيم داعش. وهناك الخارجون إلى الشمال السوري، إدلب وريفها، عفرين والباب، وهؤلاء يتمّ نقلهم إلى ريف حلب، نبل والزهراء حصراً، ومنهما يتم توزيعهم إلى ريف إدلب، هذا بالنسبة إلى مقاتلي حرّاس الدين، والفارّين إلى عفرين، والباب، وبالنسبة إلى الأشخاص العاديين. أما الخارجون إلى مناطق قسد، ودير الزور، فيتمّ نقلهم من حمص إلى مدينة الميادين، وهناك يستلمهم القيادي في قوّات الرضوان التابعة لحزب الله، ويتمّ إيصالهم إلى المناطق التي يريدونها.
أحد أهمّ المسؤولين عن عمليات النقل، هو القيادي في حزب الله، قوات الرضوان، واسمه حيدر الدرويش الملقّب بـ”أبو حسين”، ويُطلَق عليه لقب “ملك الحدود”
ووفق معلومات رصيف22، تختلف أسعار النقل حسب كلّ شخصٍ وانتمائه:
المطلوب للخدمتين العسكرية والاحتياطية 1800 دولارٍ، والمطلوبون لأيّ نوعٍ من أنواع الجرائم الجنائية 2000 و2500 دولارٍ أمريكي. أما المقاتلون الإسلاميون، داعش-حرّاس الدين-تحرير الشام-حزب التحرير الإسلامي، فبين 3500 و5000 دولار.
وهناك عمليات تهريب معاكسة تتمّ من لبنان، أو الشمال، أو مناطق قسد، إلى درعا والجنوب السوري، وهذه تتمّ بالطريقة، والآلية، والتكلفة المالية نفسها.
فوفق معلومات رصيف22، قام ضابط برتبة رائدٍ في الفرقة الرابعة من بلدة الحديدة في ريف حمص، والمقابلة لبلدة وادي خالد، بنقل قياديٍّ في تنظيم حرّاس الدين، يُدعى “أبو البتّار”، وهو عراقي الجنسية، من ريف إدلب إلى محافظة درعا، في شهر كانون الأول/ ديسمبر 2020، مقابل مبلغ مالي تجاوز الأربعة آلاف دولار.
كذلك، فإن أحد أهمّ المسؤولين عن عمليات النقل، هو القيادي في حزب الله، قوات الرضوان، واسمه حيدر الدرويش الملقّب بـ”أبو حسين”، ويُطلَق عليه لقب “ملك الحدود”.
يجبر النظام وحلفاؤه، الشبّان من أبناء درعا على مغادرتها، فإفراغ المحافظة من العنصر الشاب يدخل ضمن مخططاتهم، لبسط السيطرة الكاملة على المنطقة. ومن جهةٍ أخرى، تشكّل عمليات التهريب مورداً مالياً مهمّاً لتغطية كل العمليات التي يقومون بها، في المنطقة.
عاصم الزعبي _ رصيف 22