من الصادم، بالنسبة لمراقب خارجي، أن يتطلب الأمر “فتوىً” بتحريم التعامل بالبضائع الإيرانية في مناطق الشمال الذي يقطنه أكثر السوريين ضراوةً في مناوءة النظام وحلفائه، وأكثرهم تضرراً من إجرام هؤلاء. وسيكون من الصادم أكثر لذاك المراقب، أن يعلم أن تلك الفتوى تأخرت نحو أربع سنوات، منذ أن بدأت ظاهرة انتشار البضائع الإيرانية في أسواق إدلب ومدن ريف حلب الشمالي والشمالي الغربي.
وتُظهر التجربة، أن من العبث الرهان على فتوى “المجلس الإسلامي السوري” في وضع حدٍ نهائي لوجود البضائع الإيرانية في أسواق المنطقة. فالجمهور هناك، لا يحتاج لتنبيه “ديني” إلى أنه يتعامل مع بضائع طرفٍ يساهم في قتله بصورة مباشرة. ذاك الجمهور ذاته، هو الذي ضغط “شعبياً”، وعبر وسائل التواصل، قبل نحو أربع سنوات، بصورة جعلت الجهات الرسمية تصدر تعاميم بمنع استيراد البضائع الإيرانية، والتعامل معها. لكن المنع الرسمي لم يُجدِ نفعاً في وضع حدٍ لتلك الظاهرة، باستثناء ربما، تغيير أغلفة البضائع الإيرانية، لإخفاء منشئها.
قد تُجدي “الفتوى” في تحريك الملف مجدداً، وتعبئة الجمهور ضد تداول البضائع الإيرانية. لكن من المرجح أن يكون الأثر جزئياً ومؤقتاً. ذاك أن هناك عوامل موضوعية تجعل من تغلغل البضائع الإيرانية أمراً يصعب وضع حدٍ نهائي له، إلا بإلغاء تلك العوامل.
ولتحليل تلك العوامل قد يكون من المفيد طرح بعض الأسئلة ومحاولة الإجابة عليها. أولى تلك الأسئلة، لماذا تنتشر البضائع الإيرانية في إدلب وأرياف حلب؟ يجيبك سكان في المنطقة أن رخص أثمانها، مقارنة بنظيراتها التركية والصينية وحتى المحلية السورية، يثير حالة من الإقبال عليها. ورغم سمعة البضائع الإيرانية المتعلقة بتدني جودتها، تلك التي جعلت انتشارها في أسواق مناطق سيطرة النظام، محدودة، إلا أن تدني دخل السوريين يزيد من فرصة هذه البضائع في الانتشار، حتى في مناطق سيطرة “المعارضة”.
لكن من أين تدخل البضائع الإيرانية إلى شمال غربي سوريا؟ قد يحلو لمسؤولي سلطات الأمر الواقع في إدلب وأرياف حلب، أن يحمّلوا مسؤولية تسلل هذه البضائع إلى المعابر غير الشرعية ونشاطات التهريب، سواء من مناطق النظام أم من نقاط التماس مع مناطق سيطرة “قوات سوريا الديمقراطية – قسد”. لكن التكلفة المالية والأمنية العالية، إلى جانب شهادات متواترة من تجارٍ، تؤشر إلى أن المنفذ الرئيس الذي تدخل منه هذه البضائع هو المعابر الرسمية، وفي مقدمتها “باب الهوى” في إدلب، و”السلامة” في ريف حلب. وتتم عملية الإدخال بعد تغيير الأغلفة للتعمية على منشأ البضاعة، وإدخالها على أنها تركية أو من منشأ آخر. وهنا يساهم عامل ضعف الرقابة وتدني الخبرة والكفاءات في تلك المعابر، في تمرير البضائع الإيرانية.
إلا أن عاملاً آخر، يساهم بصورة أكبر. إذ يبدو أن صفقات نوعية تُعقد بين تجارٍ ومسؤولين في سلطات الأمر الواقع هناك. وكما أن البضائع الإيرانية تمرّ تهريباً عبر المعابر غير الشرعية مع مناطق النفوذ الأخرى داخل سوريا، تمرّ وفق المعادلة ذاتها، من تركيا. كلمة السرّ هي الإتاوة لصالح الفصائل المتحكمة في تلك المنافذ.
لذلك من المفهوم ذاك الجدل الذي أخذ منحىً سياسياً، حينما نُوقشت هذه الظاهرة أكثر من مرة. فالمحسوبون على “الحكومة المؤقتة” التي تدير شمال وشمال غربي حلب، يتهمون “تحرير الشام” والمهرّبين من مناطق سيطرة “قسد”. فيما ينفي المحسوبون على “الإنقاذ”، الذراع الحكومي لـ “تحرير الشام”، ذلك. وبينما يتشدد الطرفان في منع نقل أو تهريب البضائع بين منطقتَي “المعارضة” – “إدلب، وريف حلب”، تتسلل البضائع الإيرانية بمرونة أكبر. ويصل الأمر إلى حد اتهام “تحرير الشام” بالعمالة لإيران. فيما يتهم آخرون كل الفصائل، بما فيها تلك المحسوبة على “الجيش الوطني”، بالمسؤولية.
ورغم تقاذف المسؤوليات، لا يبدو التفسير معقّداً كما يوحي به النقاش. إذ أن رخص أسعار البضائع الإيرانية، مع تهاوي دخل السوريّ، من جانب، يتعاضد مع مصالح التجار والمسؤولين، من جانب آخر، ليجعل الظاهرة عصيّة على الحلّ بـ “فتوى”. فعلى أرض الواقع، تقدم البضاعة الإيرانية خيارات يصعب تجاهلها في مناطق يفاقم العوز معاناة سكانها. فمن السيراميك ومواد البناء، مروراً بالتمور وحليب الأطفال، وليس انتهاءً بقشور الفستق المستخدمة للتدفئة، سيكون من قبيل الترف، أن تقول للسكان، اشتروا بدائل هذه البضائع، التركية أو المحلية السورية، بأسعار أعلى، على سبيل “المقاومة”. كما أشرنا، قد يفلح ذلك في حالة تعبئة مؤقتة وجزئية. لكن على المدى البعيد، لن تكونة هناك ديمومة لحالة التعبئة تلك. إذ تبقى الأولوية لسكان تلك المناطق، تأمين احتياجات الحياة بأقل تكاليف ممكنة. وتبقى الخيارات الحاسمة لمواجهة هذه الظاهرة، بعيدة المدى، وتتطلب تغيير الواقع، بصورة تتيح التخلص من أسباب انتشار البضائع الإيرانية، كخلق بدائل محلية رخيصة الثمن، مثلاً، والتي يتطلب تحقيقها بدوره، جذب استثمارات خارجية.
هكذا خيارات قد لا يكون توفيرها في مناطق تخضع للقصف اليومي، أمراً ممكناً في وقت قريب. وهكذا يبقى الرهان على حيوية الجمهور في تلك المنطقة، للجم هذه الظاهرة، وليس إنهائها تماماً، وهو ما راهنت عليه فتوى “الإسلامي السوري”.
إياد الجعفري _ المدن