باعتبار “سوريا البعث” بلدًا تحكمه سلطةٌ حلّت محلّ الدولة، سلطة شمولية بالمعنى الكلاسيكي للشمولية، فقد كان على أفراد هذا البلد الاستجابة لمتطلبات هذه الشمولية، أي: لا أحزاب معارضة، لا إعلام معارض ولا شبه معارض، ولا حزب وطني يشارك في الحكم، الجميع تحت قانون الطوارئ، وهذه كلها تعبيراتٌ عن قواعد أساسية تُبنى عليها السلطة الشمولية، من قمع واغتيال للحريات بكل مساراتها، وقتل الديمقراطية كنتيجة حتمية.
في مثل هذه الحالة، كيف يتعامل (الفرد) السوري مع ذاته؟! هل مسموح له كمواطن اكتشاف ذاته؟ هل هو قادر على التفكير بأنه (ذات) مستقلة؟ بل هل تركت تلك السلطة وقتًا للمواطن يفكّر في مَن هو؟ وأين هو؟ وما مكانته في هذا الفضاء العام والخاص؟ قد تكون هذه أسئلة فلسفية كبيرة، أو تحمل طبيعة من باب الترف المعرفيّ، لكنها في الحقيقة أسئلة بمنتهى الواقعية والراهنية. وما تحويلها إلى (ترف) وكماليات فكرية إلا نتيجة تشويهها من قبل النظام وخطابه، الذي لم يضع يومًا في نهجه أن يذيع ثقافة التفكير واكتشاف الذات، حيث لا ذات للفرد إلا عبر وسائل التثقيف والسياسة السلطوية، بدءًا من طلائع البعث حتى النقابات التي فُرّغت من أي مضمون نقابي حقوقي لها. أي لا مجال للمواطن أن يسمي نفسه ذاتًا إلا من خلال تماهيه مع تلك القنوات التي تدور كلها في فلك البعث وأفكار السلطة وغاياتها. إن هذا أشبه ما يكون بتعميم ثقافة القبيلة أو القطيع السياسي، فلا يحق لأحد الشعور بفرديته ولا فرادته، مطلوب أن يكون هناك مسوخ متشابهة كلها تسعى على عماها. لقد كانت تلك الأسئلة مطمورة تحت رماد واقع مشخّص له مقومات وتفاصيل لا تحصى وأمثلة غفيرة على طحن الفرد السوريّ، وجعله كمّا بيولوجيًّا مهملًا يتدبر شؤونه الحياتية الضرورية في حدها الأدنى، لينام منكسرًا مطفَأً لا وقت لديه حتى لتنمية علاقة طبيعية مع أهل بيته. وكل ما كان يعانيه هو عبارة عن نتيجة غياب هذه الأسئلة التي لا ننكر طبيعتها الفلسفية، لكنها أيضًا ذات مضمون سياسي واجتماعيّ وأخلاقي بحت، فمن يحق له إقصاء الهاجس الفلسفي عن حياة الفرد ومشروعه اليوميّ؟
حين يجد السوريّ نفسه مُجبرًا على الانخراط في تنظيمات شعبية سلطوية ليؤمّن لقمة عيشه، فمن أين له أن يمدّ نظره إلى معرفةٍ وتفكيرٍ نقديّ ومشاغل معرفية تساعده في توطيد إحساسه بذاته كإنسان يعيش في هذا العالم؟! ومن أين له أن يكتشف قيمته ومعناه، وهو مجرد آلة تستقبل المعاني التافهة والمسطّحة التي يتكرم بها النظام السلطوي عبر فعالياته السياسية والاجتماعية المسخرة كلّها لتمجيد القائد وتعزيز صورته المقدسة حتى في مخيلة الأطفال؟ لا يمكن فصل الحياة اليومية للسوريّ عن المشروع الأسديّ التخريبيّ الذي حل محلّ المشروع الوطنيّ التنويريّ. ولكي يعرف الفرد أهميته وقيمته ومكانته، يجب أن يتوفر له فضاء حرّ من السياسة والتفكير والتثقيف والدراسة، من حقّه أن يجرّب ويختبر شخصيته وإمكاناته الخاصة، وكذلك الجماعية التي يمكن له أن يوظفها في سبيل نموّ ذلك المشروع الوطنيّ الحقيقي، من حيث إنه مشغول لجميع أفراد الوطن، وليس حكرًا على السلطة وأزلامها، إذ سوف ينقلب الوطنيّ حينئذ إلى سلطويّ فئويّ ضيّق.
الفرد السوريّ كان غائبًا ومغيّبًا في آن واحد معًا. غيابه وتغييبه كانا عملًا منهجيًا عبر آليات السلطة. غائب بحيث لا تاريخ شخصيًا له، ولا يولي كبير أهمية لتاريخه كشخص في جماعة لها إرثها وذكرياتها وتاريخها القريب على أقل تقدير، فكان يبدو بلا ذاكرة ولا سيرة ذاتية حاضرة ومنزرعة في الزمن والمكان، فوجود مثل هذه السيرة الخاصة يقتضي مسافة كبيرة بينه وبين السلطة، بينه وبين سيرة النظام ورغباته القسرية، مسافة بين أسلوبه في العيش وبين الأسلوب المعمّم من قبل النظام وثقافته العسكرية الهجينة التي لا يُعرف لها أساس من رأس، كما يقال. لم يكتب الفرد السوري سيرته الخاصة، لأن هناك خطابًا موحّدًا يُملي عليه حتى سيرته، يحدد له حتى مشاعره في بعض المناسبات، من أجل قهره وقتل روحه، وحصره في سياق عموميّ متشابهٍ لا مميزات له ولا فروقات نوعية. ففي ظل السلطة البعثية ونموذجها الثقافي الأمني العسكري، ممنوع أن يكون هناك علامات فارقة إلا تلك التي تكتب في وثائق السجل المدنيّ كحالات بيولوجية لا قيمة لها! فانتشار العلامات الفارقة، ثقافيًا ومعرفيًا وإبداعيًا وسياسيًا، يعني أن هناك أفرادًا آخرين لا يشبهون النظام، خارجين على نموذجه الشمولي، أفرادًا استطاعوا الاختراع والابتكار والمبادرة، ولكن هذا كان حلمًا مستحيلًا على السوريين، لذا مُنع أي حراك مستقلّ، مهما كان متواضعًا، وتم الإجهاز على يقظة (ربيع دمشق) على سبيل المثال، بعد موت الأسد الأب، لأن النظام أدرك -بحسّه الأمني المتأصل- أن ربيع دمشق سوف يفتح الباب على مبادرات من كل الأصعدة في الحياة السورية، وسوف يسمح لمجتمع سوريّ أن يعيد تشكيل مشاغله وأسئلته ولغته، يعني أنه سوف يولد فرد سوريّ واعٍ لا يرى رؤية النظام ولا يفكر بعقليته. أما ما حدث في انفجار آذار 2011، فقد أخرج جنون النظام بلا هوادة، إذ صُدم صدمة حقيقية وأُسقط في يده، ووجد نفسه أمام فشل كل استراتيجيات القهر والسحق والمحوِ والإذلال. وجد أن هذا الفرد السوريّ كان يتحرك في الرماد، وينتظر الساعة التاريخية لينفجر. لهذا لم يقصر أيضًا في محوِ صحوته الكبرى، وتشويه مضامينها، والانتقام منها ببغض وشراهة دموية متوحشة لا نظير لها.
الفرد السوريّ طوال عقود كان محرومًا من ذاته، لا ذات له، يشكّل النظام له مواقيت حياته، ويتدخل في أتفه شؤونه العادية واحتياجاته الطبيعية، كلنا نعرف أن أي عمل ينوي المواطن تحقيقه، فلا بدّ له من موافقات أمنية عديدة ورشاوى وولاءات ممسوخة، لم تكن تعني هذه الموافقات الأمنية إلا تأكيدًا واضحًا من النظام، عبر أجهزته الأمنية، أن الفرد السوريّ واقع تحت المراقبة والسيطرة، ولا يحق له حتى الحصول على حقوقه الصغيرة. لا يحق له التجمع من أجل عرس أو احتفال جماعيّ أو مناسبة دينية رمزية، لا يحق له الفرح والحزن إلا بموافقات أمنية!
لا بدّ إذًا أن يُمحى كل ذلك لإرادة سلطوية قاهرة تلغي كل إرادات السوريين كأفراد، إرادة السلطة ترفض الاعتراف بأن هناك مواطنين خلاقين لهم مشيئتهم وخياراتهم الخاصة، فلا مشيئة إلا مشيئة السلطة وثقافتها، ولا تاريخ إلا الذي تذيعه منصات (الدولة – السلطة)، وعلى السوريين نسيان تاريخهم حتى الذي يعايشونه! عليهم نسيان تاريخ سورية قبل الحركة التصحيحية، وإذا كان هناك تاريخ حديث لسورية فإنه يبدأ من “ثورة البعث”. بل إن تعبير (سوريا الحديثة) كان ملازمًا لحافظ الأسد الذي تم تظهيره على أنه “باني سورية الحديثة” تلك. سورية الحديثة التي قضت على الديمقراطية والليبرالية السائدة قبل ثورة البعث، سورية الحديثة التي أجهزت على حرية الصحافة وتعددها وتنوع مشاربها. وفي سبيل ذلك، لا بدّ من تزوير الوثائق والمعلومات، وإذا كان تزويرها أمرًا فاقعًا، فينبغي طمسها كليًّا من الوجود.
أنتج النظام الأسديّ سوريين مؤمنين بألا رئيس سوى الأسد الأب والابن والحفيد! أنتج ثقافة (سوريا الأسد) بالفعل، عبر تكريس المقولة على مدار الساعة. أي إن مستقبل السوريّ كفرد محسوم منذ الآن، هو ومستقبل أولاده. وعليه أن يدرّب أولاده وأحفاده على أن يمحوا إرادتهم وذواتهم، ليصبحوا رعايا صالحين للولاء فقط. ولاء يعبّر عنه أناسٌ مسحوبو الإرادة والفكر، مجبرون على الاقتناع بأن النظام الأسديّ واقعةٌ إلهيةٌ حدثت مرة في التاريخ ولا يجوز أن تزول ولا تتغير. لم تكن تلك الحالة خافية على كثير من السوريين الذين رأوا أنفسهم أمام سيادة ثقافة سلطوية ممزوجة بثقافة قداسية من أجل إكمال الصورة الميتافيزيقية للأسد، نقصد بها الهالة الطهرانية التي تحيط بمكانته، وما فعله بعض شبّيحة الثقافة والإعلام من ربطها بهالة دينية موروثة. تمّ هذا للقضاء على رغبات الأفراد الحقيقية في أن يجدوا رئيس البلاد يتغير ونظامه يتبدل، وفقًا للدستور ولفلسفة فكرة الجمهورية، فالخروج على الحاكم صار يعتبر خروجًا على ذات الإله، وكما الحال في النظام الملكيّ، صار الرئيس ظلّ الله على الأرض، لا يجوز إسقاطه، بل لا تجوز معارضته.
كيف يمكن في هذا السياق المشوّه أن يُولد مواطنٌ سوريّ فردٌ حرّ واعٍ لذاته قادر على صناعة تاريخه وواقعه؟ فرد يسأل ويبحث ويطمئنّ إلى عواقب تفكيره وبحثه؟ لقد انكسرت ذات السوريّ وتهشّمت وتم إجبارها على الانسحاب لصالح (ذات) السلطة وفرديتها. وذاتُ السلطة ليست إلا نظامًا متكاملًا غير قائم على قوانين سياسية معروفة في تاريخ الفكر السياسي، ويحق للسوريين أن يسألوا عن (نمط سلطة سوريّ خاص) على طراز (نمط إنتاج آسيويّ)! وإن كان هذا التساؤل من باب الكوميديا السوداء.
وإلا؛ فكيف يمكن تفسير أن حقوق المواطن العادية في العمل الوظيفيّ مثلًا لا يمكنه الحصول ببساطة عليها إلا إذا كان مواليًا لحزب البعث؟ أو لإحدى دكاكينه الحزبية التي سماها الأسد (جبهة وطنية) كنا نتندر عليها ونقول: “أحزاب الجبهة لصاحبها حزب البعث”؟ كيف تصبح مؤسسات الدولة حكرًا على هؤلاء، ومن المفترض أن تكون مؤسسات الدولة للجميع؟ أليست هذه حالة فاقعة من محو الفرد وقسره بالعنف الرمزي والمادي على الاندراج في جماعة السلطة مواليًا مفرّغًا من إنسانيته؟ لا يوجد إلا في فقه الدولة الشمولية القاهرة أن حقوق العمل ينبغي أن تكون لمن يعلن ذلك الولاء.
أخيرًا، وتلخيصًا لما سبق: لقد تم استبعاد الفرد السوريّ من التاريخ، وراح مرغمًا يطمس ذاته بذاته، ويقتل خصوصياته، من أجل قبوله في (المجال العام) الذي سيطر عليه النظام، وهذا المجال العام من طبيعة السياسة والمدنية، وليس مادة للمساومة والتفاوض، لكن (الدولة – السلطة) السورية أنجزت، بعبقريتها المتوحشة، ما لا يمكن لمنطق فهمه: لقد احتكرت (المجال العام) وجعلته (قطاعًا خاصًّا)! وربما كان هو القطاع الخاص الوحيد المسموح به في “سوريا الأسد”.
محمد علاء الدين عبد المولى _ مركز حرمون للدراسات