syria press_ أنباء سوريا
لا بد أن مفهوم العمل العسكري في البلدان التي حُكمت من قبل نظم شمولية لفترة طويلة من الزمن يختلف عن أي مفهوم سوي وسليم والذي يقضي بوجود قوى أمنية وعسكرية كأداة خدمة للمواطن وحمايته وحفظ أمنه واستقراره، في حين تعدّ هذه المؤسسة في النظم القمعية أداة تابعة للسلطة تُوظف لتمكينها ويباح لها استخدام كافة وسائل العنف في المجتمع دون محاسبة ولا مساءلة لتحقيق هذا الهدف الغير سوي من أصله.
هذه الحالة القمعية تُنتج بشكل بديهي ومستمر ودون استثناء حالة تشدد وتطرف مضاد تترجم بأشكال مختلفة، تؤدي بمجملها لانقسام المجتمع وتجاذبه بين تيارات استقطابية تمنع وصوله لحالة تناغم ضرورية لأي تقدم وتطور، فيلبث عالقاً في دوامة مقيدة بين العنف السلطوي والعنف المضاد الناتج عنه، من البديهي اذاً أن ارتباط طرفي الحلقة هو ارتباط كامل والانفكاك من أحدهما هو انفكاك من الآخر ولعل الحامل الأهم للخروج من هذه الأطر هو حامل المجتمع المدني الذي يُهمش دوره بشكل كامل بين أطراف الاستقطاب العسكري والراديكالي المقابل له تحت أي مسمى، تهميش يرتكز على اختلاف الأدوات والأهداف فأدوات هذه الأطراف متشابهة في استقطاب الجموع نحو الانقسام والصراع والتسليح بهدف استمراريتها بما يخالف توجهات المجتمع المدني نحو البناء لمصلحة المواطن وتحقيق أولوياته بالاستقرار والأمان.
لعل الوضع السوري والصراع القائم منذ عقد من الزمن أوضح مثال عن هذا النموذج ونتائجه وتعقيداته، فالثورة السورية بانطلاقتها الغير مشوهة كانت رداً على التراكم القمعي ذو البعد العسكري والأمني الهائل ضمن المجتمع وانفجار بديهي لنهوض حالة مدنية سليمة بمواجهة تيارات القمع والشعارات التي استنفذت واستهلكت سوريا وشعبها لعقود طويلة، هذه الحالة المدنية التي واجهت نظام الأسد، والتي كان يمكن لها أن تجمع السوريين، باتت أيضاً ضحية التطرف والتشدد المسلح المتعدد الأقطاب الذي نشأ في صفوف الثورة بينما هو يشكل جزءاً من المنظومة القمعية ذاتها.
من هذه الوقائع، نجد اليوم مخاوف مشروعة من قبل السوريين عند طرح مشروع عسكري للحل، تذهب هذه المخاوف باتجاهين الأول ألا يُعاد انتاج وتكريس الحالة العسكرية مستقبلاً والثاني ألا تزداد اقطاب التشدد المقابل تمكناً فالحصيلة بهذه الحال ستكون استمرارية الوضع الحالي من تقهقر دولة القانون والمؤسسات والدستور على حساب تصاعد الصراعات وانعدام الاستقرار بخلاف ما نطمح له في مسار سوي من نهوض على كافة الصعد، السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعلمية.
في الحين ذاته لا يمكن، في ظل الظروف الحالية من انعدام الاستقرار والأمن وتواجد ميليشيات وعصابات ومرتزقة يحاربون على الأراضي السورية، أن نتجاوز ضرورة وجود جهة عسكرية تضمن حسن سير العملية الانتقالية وعدم حصول حالة الانفلات التي يتخوف منها السوريون أيضاً وتتخوف منها دول المنطقة والمجتمع الدولي، في هذه الحيثية تذهب بعض الطروحات نحو وجود مجلس عسكري يحقق هذه المهمة بالتوافق مع القوى الدولية في المنطقة.
في ظل هذا الواقع فان توازن المهام التي ستقدمها أي جهة عسكرية للحالة المدنية هي ما قد تمنحها الشرعية لتكون جزءاً من الحل، أي أن المجلس العسكري لا يمكن أن يكون حاملاً منفرداً ورئيسياً للعملية الانتقالية بل يكون جزءاً من مجلس تعددي انتقالي يأخذ بعين الاعتبار البعد التخصصي والبعد الجغرافي في سوريا بحيث ينطلق من حوامل محلية تؤسس لمجلس حكم انتقالي يتضمن كتلة للعمل المدني والاجتماعي، كتلة عسكرية، كتلة سياسية وديبلوماسية، كتلة إدارية وتكنوقراط، كتلة اقتصادية وكتلة قضائية وقانونية وتلتزم ضمنه الكتلة العسكرية بالمحددات السياسية التي سيقوم عليها المجلس التعددي الانتقالي وفق تطبيق مهام محددة بفترة زمنية واضحة تعمل على نزع السلاح من كافة الجهات وإعادة هيكلة مؤسسات الجيش والامن بعيدا عن السياسة، وعن الحزبية، والعقائدية، والإيديولوجية، والطائفية، ووفقا للكفاءات وحصر مهامها بحفظ أمن الوطن والمواطنين، وعلى أن تلتزم الكتلة العسكرية خلال تنفيذ هذه المهام بمعايير حقوق الإنسان وتخضع في عملها للرقابة والمساءلة التي يجب تطبق على كافة الكتل الأخرى المشكلة للمجلس الانتقالي والتي تُحدد وفق آلية عمله.
مثل هذه المهام المشروعة تضمن أن يكون المجلس العسكري ذراعاً لتحقيق أهداف الثورة المدنية وعاملاً هاماً لإنجاح العملية الانتقالية وضمان الاستقرار والامن خلالها وبالتالي دافعاً لتسريع الانتقال السياسي وانهاء معاناة السوريين في كافة المناطق، ولابد أن الخطوة التي جرت مؤخراً بالسعي لتشكيل مجلس عسكري من الضباط المنشقين ذوي المواقف الواضحة ووفق هيكلية متماسكة تعد خطوة هامة في بلورة كتلة عسكرية قادرة على التفاعل من جهة مع الكتل المدنية والسياسية والحقوقية السورية في كافة المناطق من سوريا وقادرة على التفاعل من جهة أخرى مع القوى الدولية. هذه الخطوة ستتطلب كذلك المتابعة على عدة محاور، من حيث الالتزام برؤية سورية مشتركة تشكل أرضية لدستور سوري جديد مؤسس لدولة سوريا الحديثة، دولة القانون والمواطنة المتساوية بالمطلق والذي يقطع مع النظام الشمولي بكافة مرتكزاته، ومن حيث المهام المطلوبة من هذا المجلس وآلية تنفيذها.
خطوة في مسار العمل التراكمي السوري الساعي لحلول ناجعة، والتي، اضافة للحراك القانوني الهام في هذه المرحلة لمنظمات حقوقية على الصعيد الأوروبي والدولي لإدانة جرائم نظام الأسد، تعد مؤشرات على ثبات واصرار السوريين على السير قدماً وعلى كافة المحاور نحو التغيير الجذري، تغيير حتمي لتستمر سوريا بالحياة.
د.سميرة مبيض _ نواة من أجل سوريا