ما عاد السؤال: هل يتخلى بايدن نهائياً عن الملف السوري؟ صار السؤال: متى يحدث ذلك؟ وهو سؤال يتعلق بالمدى القريب، ربما تظهر إجابته في الأشهر القليلة المقبلة، وربما بعد أسابيع قليلة لا أكثر.
تصريحات قياديين في منظومة حزب العمال الكردستاني مؤخراً توحي باقتراب عودتهم إلى كنف الأسد، وموسكو تنشط كوسيط على نحو يوحي بأنها تضع اللمسات التفصيلية الخاصة بعودتهم وعودة مناطق شرق الفرات إلى السيطرة. التطور الأبرز “بالتأكيد” عودة المفاوضات النووية بين طهران وواشنطن، بالتوقيت الذي أرادته الأولى بينما تظهر إدارة بايدن كأنها تريد العودة إلى المفاوضات بأي ثمن.
والأثمان التي تريدها طهران تتوزع بين العواصم الأربع التي سبق لمسؤوليها التفاخر بالسيطرة عليها، وهي تريد قبض بعضها على الأقل أثناء المفاوضات كتعبير عن “حسن نوايا واشنطن”، وكتأكيد على أن الاتفاق النووي لن تتبعه ضغوط ومفاوضات تتناول توسع إيران الإقليمي، إلا إذا كانت المفاوضات للإقرار به. تحديداً الربط بين الملف السوري والمفاوضات مع إيران ليس بجديد، فهكذا كان الحال أيام إدارة أوباما، عندما راحت على وقع المفاوضات النووية “بجولاتها السرية أولاً” تنسحب منه لصالح إنقاذ بشار من السقوط.
الربط حضر بقوة أيضاً أيام ترامب، ورغم أنه شخصياً كان يودّ سحب قواته لصالح موسكو إلا أنه عدل عن قراره لئلا يأتي الانسحاب لصالح طهران، وأتى إقرار قانون قيصر ليضع في يده أداة ثانية للضغط غير المكلف، وقد استخدمت إدارته القانون بنشاط وحماس، بخلاف إدارة بايدن التي تبدو مهتمة أكثر بالحدّ من مفاعيله.
جدير بالتنويه أن سياسة العقوبات الاقتصادية لا تسقط هذا النوع من الطغاة، ولا تدفعه إلى تقديم تنازلات، لذا كان القانون مُعدَّاً للضغط على شركاء الأسد كي يتولوا الضغط عليه من أجل مصالحهم. أيضاً، اكتسب القانون أهميته وفعاليته من الوجود العسكري الأمريكي في شرق الفرات، وبقاء الموارد النفطية والمائية والزراعية خارج سيطرة الأسد.
بما يقل عن ألف عسكري أمريكي موجودين في سوريا وبقانون قيصر باتت واشنطن تطبق على خناق سلطة الأسد، وبأقل التكاليف، وتطلّ عسكرياً على طريق طهران-الضاحية الجنوبية. ولئن كانت فعالية قانون قيصر القصوى تأتي من السيطرة على موارد شرق الفرات فإن الانسحاب من هناك يعني دفن فعالية العقوبات، لأن تلك الموارد “من دون مبالغة في حجمها” تنقذ اقتصاد الأسد المنهار، وتعفي طهران وموسكو من المساعدات الضرورية لإنقاذه.
في الأثر المعنوي، سيُفهم الانسحاب من شرق الفرات كما هو حقاً، أي كدلالة على رمي واشنطن آخر أوراقها، ما يعني التخلي نهائياً عن عرقلة موسكو وطهران في سوريا. وسيكون من المرجح جداً عدم توسيع قائمة عقوبات قيصر لاحقاً، بمعنى تجميد القانون عند هذا الحد، لئلا تعطي الإدارة الأمريكية إشارة كاذبة قد تُفهم كاهتمام بالشأن السوري.
لقد شكا ترامب يوماً من أن إدارة أوباما، بتخليها عن سوريا، لم تترك له ما يفعله. وكان أن أعطاه الكونغرس سلاح العقوبات بإقرار قانون قيصر قبل نحو سنتين من الآن، وهو في أحد بنوده لا يجيز للرئيس تعليقه إلا وفق شروط وضوابط وأدلة على امتثال الأسد لها، والأهم أن له صفة القانون وإلغاؤه يعود إلى الكونغرس لا إلى الإدارة، وهي عملية تواكبها عادة نقاشات علنية، وتستلزم في النهاية وجود أغلبية مؤيدة للإلغاء. بالمقارنة، تطالب طهران إدارة بايدن بضمانات بأن تكون العودة إلى الاتفاق النووي نهائية، أي بضمان ألا ينسحب الرئيس المقبل منه كما فعل ترامب.
لا ألية قانونية أمريكية لمنح هذه الضمانات سوى مرور الاتفاق عبر مجلسي الكونغرس كمعاهدة يتم التصديق عليها، ومن شبه المؤكد أن إدارة بايدن لن تسلك هذا السبيل لعدم وجود أغلبية مؤيدة للاتفاق إذا أُنجز، ما يبقيه كاتفاق تنفيذي يمكن إلغاؤه من دون الرجوع إلى الكونغرس.
ما لا يستطيع بايدن إعطاءه على صعيد الضمانات لا يُستبعد أن يعوّضه بتقديم تنازلات لطهران في المجال الإقليمي، وهذه المرة بأقوى مما فعل أوباما وأكثر رسوخاً، بحيث يصعب على خلفه إذا كان جمهورياً استئناف سياسة ترامب أو سياسة شبيهة بها. هذا قد لا يلقى اعتراضاً ملحوظاً من وسطيي الحزب الديموقراطي، وفي الوقت نفسه يرضي تقدمييه الذين يأخذون على أوباما عدم المضي أبعد في سياسته وفرضها كأمر واقع على المدى البعيد. إنه بهذه الآلية “التنفيذية” يقوّض العراقيل القانونية الموضوعة أمامه، يساعده مزاج أمريكي سائد مؤيد بلا تمييز لسياسة عدم التدخل ما لم يُهدَّد الأمن القومي.
هكذا يستطيع بايدن دفن مفاعيل قانون قيصر بقرار يمتلكه، هو سحب قواته من سوريا، والذريعة جاهزة بتضاؤل خطر داعش الذي أتى بها. هذا لن يكون بالنسبة لإدارته ثمن يُعتد به ليقدّمه لطهران من تحت طاولة المفاوضات النووية، وموسكو جاهزة لإدارة تفاصيل هذه الخطوة، من إدارة خطوط الاشتباك فيها بين طهران وتل أبيب وصولاً إلى تدبير عودة منظومة حزب العمال إلى الأسد تقسيطاً.
لن تُضطر إدارة بايدن إلى اتخاذ قرار انسحاب على غرار الانسحاب من أفغانستان، وفي الأصل لا مقارنة بين حجم انخراطها هناك ووجودها في سوريا، ولا مقارنة بين الأهداف في الحالتين.
أغلب الظن أن الانسحاب من سوريا سيكون تدريجياً، وقد يبدأ بتسليم مناطق فيها آبار النفط والغاز أولاً، وتسليم قوات الأسد مهام حراسة الحدود مع تركيا، الأمر الذي يرضي أنقرة أيضاً لجهة إبعاد مقاتلي قسد عن حدودها. قد يحضر سيناريو درعا معدَّلاً بعض الشيء، فيكون تخلي إدارة بايدن عن الإدارة الذاتية الكردية متمهلاً حتى تعقد الثانية تفاهماتها مع الأسد بموجب الوساطة الروسية، لتبدو الإدارة قد وافقت على ما وافق عليه أصحاب الشأن من الأكراد.
لا يصعب التكهن بمصير التفاهمات مع الإدارة الذاتية وقواتها، سيناريو درعا الأخير جاهز في عقلية سلطة الأسد، وبيانات الإدارة الأمريكية التي تُعرب عن القلق من الأوضاع في سوريا، أو تدين “من دون شدّة” أفعال الأسد، جاهزة بدورها لتؤنس قانون قيصر المرمي في أدراجها.
عمر قدور _ المدن