مما لا شك فيه أن حدثا كبيرا كالثورة السورية وما اعتورها من تعثر وخذلان، والحرب التي طالت الشعب السوري، أن يقع الجميع في موضع التساؤل عن أسباب ذلك، وفي فضاء الإعلام الأزرق ووسائل التواصل الاجتماعي وفورة التعبير بلا رقيب ولا ضابط؛ صار كلٌّ يدلي بدلوه على اختلاف ثقافاتهم، ومستويات وعي كل منهم؛ إضافة إلى الحالات النفسية الموَّارة من الإحباط والكآبة إلى الغضب على كل شيء ولعن الواقع بكل ما فيه، وقد تكون تلك الانفعالات مبررة على اختلاف شطحاتها ومآلاتها لدى غالبية الناس من غير ذوي الرصيد العلمي أو الثقافي، لكن الأخطر هو تلك الحالة التي يتداولها مثقفون كثر حتى باتت إحدى مسلمات كثير منهم؛ في أن السوريين لم يتنظموا ولن ينتظموا ولن ينفعوا في أي عمل جماعي، وبعيدا عن الاتفاق أو الاختلاف المحموم حول ذلك؛ نجد تلك الرؤى قد استسهلت إطلاق الأحكام دون تلمُّس أسباب ما وصلنا إليه وسياقات العمل وارتجاليته.
ولئلا نغوص عميقا فيما لا يتسع له المقال؛ لعلي أشير إلى بعض ما هو متداول بدءا من سذاجة افتخار واحتفاء كثير من مثقفينا قبل عدة سنوات بسوري وجد مالا فأعاده لأصحابه وكأنها معجزة، وصولا إلى حالة جلد الذات السورية من قبل مثقفين في دول اللجوء والشتات؛ عند ارتكاب سوري لأي خطأ أو جرم لا تزيد نسبة حدوثه عنها في أي دولة مشرقية أو غربية، لسنا بوارد تبرير الأخطاء والجرائم؛ بل بقراءة نسبتها، وشكلها، ومستوى ردود الفعل العربية في مجتمع اللجوء، تلك الردود التي كان من الممكن لو تم تنظيمها أن تفيد في إنشاء حالة جماعية بسيطة مؤثرة ثقافيا؛ في دعوة السوريين للتعبير عن طبائعهم من ثقافة، ونشاط، وعلم واجتهاد، وتنوع وتعدد، مع الحفاظ على إعطاء صورة إيجابية عنهم في أي مكان ينشطون فيه.
لا يخفى على أحد أن عائلات كثيرة لم تقوَ على الهجرة وخوض غمار البحر فأرسلت أبناءها اليافعين ليحصلوا على اللجوء ثم يقوموا بلم شمل عائلاتهم، تلك المرحلة من عمر المراهقة وأمام صدمة انفتاح الحياة أمامهم وبعيدا عمن ينصح أو يضبط أفعالهم ويقدم لهم جزءا من أسس التربية والرعاية والإرشاد، جعلت جيلا من هؤلاء إلا ما ندر يذهب نحو الانغماس في حياة المهجر وعلاقاته المفتوحة؛ بل ويؤسس لقطع الصلة بآبائهم- الأمر الذي يستدعي دراسات معمقة حول وسائل استعادة شيء من هويتهم المنبتّة عن أصولها وعوامل تشكل هويات جديدة.
إن أي خطأ يرتكبه مراهق هنا أو شاب هناك من قبيل السير في حديقة وإصدار ضجيج يزعج الآخرين، أو رمي قمامة في غير مكانها المخصص، أو بناء علاقة عابرة مع فتيات أوربيات، صار يتصدر صفحات كثير من السوريين -الذين تحولوا إلى قوة جلد وتجريم فائضة- متكئا على مقولات: لا يمكن للسوري أو العربي أن ينصلح، لا ينفع هكذا شعب إلا دكتاتور، لا يمكن للعرب أو شعوب المشرق أن تنضبط إلا بقوة العسكر، متناسين أن خُلُق الانتظام والتأدب واحترام عقائد الآخرين وقوانينهم يحملها هؤلاء اللاعنون أنفسهم، وهم جزء من الشعب السوري أو العربي ويمثلون شطرا مهما منه؛ حتى إن نزعة التعالي على كل مخطئ قد أخذت سطوتها في نفوسهم ليس بسبب معرفة تحصَّلوها أو نمط حياة جديد تصالحوا معه؛ بل في شعور بضرورة أن يكونوا ملكيين أكثر من الملك وذهبوا نحو تعظيم المجتمع الأوروبي، متناسين بكل بساطة الضوابط الأوروبية التي شكلت نسقا من الانضباط مدعوما بعقوبات قانونية رادعة بدءا من الغرامات المالية وحتى السجن، ما شكّل ثقافة قيمية متسقة مع تلك القوانين، تساوقت مع إشعار الدولة للمواطن أن كل شيء في البلاد ملك له بالاشتراك مع الآخرين؛ الشارع، موقف الباص، الحديقة، وحتى حاوية القمامة، فصار يتبنى خلق الانتظام والتشارك هذا إضافة إلى روادع الضبط القانونية، وصار المواطن يبلِّغ عن المخالف لاعتبار أنها تخصه مثلما تخص غيره، حتى تندر بعض السوريين بمقولة أن “الشعب الألماني كله مخابرات أو كله مخبرون”.
إن هذا الخلق الاجتماعي والشعور بالمسؤولية والملكية؛ ما هو إلا انعكاس أو تجلٍّ لثقافة قرّت مع الزمن في أذهان الغالبية في دول امتلكت قدرة من الضبط وتشكيل ثقافة مشتركة كدول غربي أوروبا، لكن وبما أن أحاديث الجلد تغنت بأوروبا كلها قبالة مشرق متخلف وهمجي في نظرة جوهرانية جذرية، نجد أن بلغاريا وهنغاريا وصربيا ومقدونيا ودول شرق أوروبا تشيع فيها نسبة المخالفات في الأماكن العامة من ضجيج وإزعاج، أو انتشار القمامة في الشوارع، وحوادث السير، والتحرش، والمخدرات، والتسول، والمحرج لأصحاب تلك المقارنات؛ أن دول ألمانيا والنمسا وهولندا تحدث فيها كل تلك المخالفات من قبل مواطنيها وإن بنسبة أقل من تلك الشرقية، لكن تصورات بعض من حملوا عقدة هويتهم المشرقية لا ترى إلا بعين واحدة، وتصر على عقد مقارنة بين أبناء المشرق وأبناء الغرب على أنها مقارنة حقيقية بين شياطين وملائكة.
ثمة ثلاثة أحداث بسيطة حصلت هذا العام ومن قبل أوروبيين ومن قلب أرقى دولها المتحضرة؛ أحرجت مقارنات أولئك المثقفين فذهب الشعراء منهم إلى الكتابة في العشق والغزل، وذهب الكتاب والباحثون العتاة إلى الكتابة عن الإسلام السياسي، بقليل من توابل النسوية وخلطات المثلية الجنسية.
الأولى: بطاقات التنقل في سائر ألمانيا والتي كانت بسعر بسيط بقيمة 9 يورو بما يعادل ثمن وجبة إفطار بسيطة، وتكفي الألماني السفر في سائر ألمانيا لمدة شهر كامل، ولكي يوفر الناس مصاريف سفرهم وسياحتهم غصت محطات القطارات بالركاب، وتدافع الناس على أبواب القطارات بشكل يوحي أنهم جزء من ذاك الشرق ذي السكان الهمجيين الذين لم يعرفوا نظاما ولا حضارة.
النقطة الثانية: ارتفاع الدعم عن أسعار المحروقات في ألمانيا فغصت محطات الوقود بالسيارات التي ذكرتنا بطوابير سيارات بريطانيا، عندما أظهرت قنوات التلفزيون كيف أن أحدهم كان يحمل عصا معدنية أو هراوة ليحصل على دور في تعبئة سيارته.
النقطة الثالثة: هجرات العائلات الأوكرانية إلى ألمانيا وهولندا والنمسا، إذ نشرت صحف أوروبية عن محاولات التحرش والاستغلال من قبل متطوعين بالغين؛ أو موظفين في دوائر الهجرة وإدارة مخيمات اللجوء، وعن كمية الاستغلال والصورة النمطية التي حملها بعض من أبناء تلك الدول عن النساء الأوكرانيات ومحاولة استغلالهن جنسيا، أمام تلك الحالة المستجدة نكتشف أن الجنايات والجرائم والنوازع الجنسية ومحاولات الاستغلال ليست حكرا على جماعة بشرية دون غيرها، ولا يمكن إطلاق أحكام ناجمة عن قراءة ثقافوية مقيتة؛ تطلق تقييمات مانوية عن هذا الشرق المبتلى بنسبة كبيرة من مثقفيه أو مدعي الثقافة من لاجئيه المسكونين بعقدة الدونية والتبعية للغرب وثقافته، لدرجة أن نتمنى على مثقفينا هؤلاء في غمرة بحثهم المعرفي أن يقرؤوا نظرية أرنولد توينبي “التحدي والمحاكاة” والتي يمكن ترجمتها بتصرف بـ “التحدي والانبطاح”.