هذه المبادرة الثالثة للأردن حيال المسألة السورية، في غضون عام وبضعة أشهر فقط. وبمراجعة المبادرتين السابقتين، وما تخللهما من تصريحات ومواقف وتحركات، وبالنظر إلى مصيرهما أيضاً، يبدو كأن السياسة الخارجية الأردنية تنتهج أسلوب التجريب، ولا تملك استراتيجية واضحة حيال الوضع المعقّد في سوريا.
ففي مطلع الصيف الفائت، قادت الأردن مسارَ تطبيعٍ عربي تجاه نظام الأسد في سوريا، بحماسةٍ كبيرة، عكَسَها سعيُ العاهل الأردني لإقناع الأمريكيين بإيجابيات الانفتاح على النظام. وبعدها، توالت اللقاءات بين مسؤولين من حكومة النظام ومسؤولين أردنيين، وارتقت مستوياته. وتجاوبت أطراف عربية أخرى مع المبادرة الأردنية، من بينها مصر، التي انخرطت في مشروع تمرير الغاز والكهرباء عبر الأردن وسوريا إلى لبنان، قبل عام. ذاك المشروع الذي كانت واشنطن ذاتها، هي عرّابته. لكن المشروع، وبعد عدد كبير من اللقاءات بين مسؤولي الدول الأربع المعنية، لم يرَ النور حتى ساعة كتابة هذه السطور، جراء فتور الحماسة الأمريكية حياله، ما جعل احتمالية تعرضه لعقوبات “قيصر”، واردة. ناهيك عن اشتراطات البنك الدولي لتمويله، والتي أصبحت أصعب، كتعبيرٍ عن غياب الضوء الأخضر الأمريكي. أما الأردن ذاته، فصار أمنه عُرضة للتهديد جراء تصاعد عمليات تهريب المخدرات، وازدياد النفوذ الميداني الإيراني، قرب حدوده. هكذا كانت نهاية المبادرة الأردنية الأولى.
وفي أيار/مايو المنصرم، فُوجئ المراقبون بانقلابٍ في الموقف الأردني، وصل إلى حد التلويح بتصعيد عسكري في جنوب سوريا، جراء تهريب المخدرات الذي وصفه مسؤولو الأردن بأنه “حرب”. وتحوّلت عمّان من عرّابة لمسار التطبيع العربي مع النظام، إلى عرّابة لمسار مضاد، عنوانه لجم الخطر الإيراني المتفاقم، انطلاقاً من سوريا. ووصل الأمر ذروته في حزيران/يونيو الفائت، حينما تبنى الأردن فكرة إنشاء “ناتو شرق أوسطي”، لمجابهة الخطر الإيراني، بالشراكة مع الأمريكيين والإسرائيليين، ودول الخليج. وهي المبادرة التي وُلدت ميتة، ولم تُبصر النور أيضاً.
ومنذ أيام، أطلق الأردن مبادرته الثالثة؛ إذ تلقف رهان النظام على مصطلح “التعافي المبكّر” الوارد في نص القرار الدولي رقم 2642، وجَعَلَهُ العامل الجاذب في مبادرته، لإغراء النظام بالتعاون. ويشير هذا المصطلح إلى العمل على توفير خدمات البنية التحتية الأساسية والتعليم والصحة، التي تقلل من احتمالية انتكاس الوضع في سوريا إلى حالة “الحرب”. وهو ما يرى فيه النظام مدخلاً لاستجلاب التمويل الدولي، للتخفيف من كارثية الوضع الاقتصادي في مناطق سيطرته.
ويبدو حسب تصريحات وزير الخارجية الأردني، أيمن الصفدي، أن المبادرة الأردنية تقوم على ركيزتين: دعم دول إقليمية وغربية (بالذات السعودية والولايات المتحدة الأمريكية)، ومبادلة تنازلات من النظام وحليفه الإيراني مقابل تمويل مشاريع بنية تحتية تحتاجها مناطق سيطرة النظام بصورة عاجلة، خاصة الكهرباء.
لكن لا توجد أية مؤشرات علنية، تؤكد أن الركيزة الأولى متوافرة أساساً. فرغم الرهان على عدم إدانة واشنطن لجهود التطبيع مع النظام خلال الاجتماعات الأخيرة للجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، إلا أن ذلك لن يكون كافياً كرافعة لمبادرة تتضمن تمويلاً دولياً لمشاريع في مناطق سيطرة النظام. ويكفي تعطيل واشنطن لمشروع تمرير الغاز والكهرباء إلى لبنان، نظراً لكون النظام طرفاً فيه، كمؤشرٍ على المزاج الأمريكي الراهن حيال الملف السوري.
أمَّا الركيزة الثانية للمبادرة، والتي تفترض تعاوناً من النظام وإيران، فهي استنساخ لرهان الصيف الفائت ذاته. والذي انتهى إلى تصاعد نشاط تهريب المخدرات إلى الأراضي الأردنية. فالأردن ما تزال تراهن على نظام الأسد بوصفه “دولة”. فهو كـ “دولة”، بحاجة لأي تمويل خارجي لبناه التحتية. لكنه كـ “ائتلاف عصابات” لا يمكن أن يتخلى عن مكاسب تجارة المخدرات التي تذهب إلى جيوب قادة متنفّذين، في سبيل إضاءة بيوت السوريين بالكهرباء، مثلاً. فإن أتى التمويل الدولي دون مقابل، وباستخدام ابتزاز المجتمع الدولي بالوضع الكارثي لحياة السوريين، فأهلاً وسهلاً به. أما إن كان سيأتي بمقابل ثمين، من قبيل نحو 3 مليار دولار سنوياً، أرباح تجارة المخدرات، فلا يملك رأس النظام القدرة، حتى لو امتلك الإرادة، على إنهاء هذه التجارة وقطع أرزاق شقيقه وكبار متنفذي أجهزته الأمنية والمسلحة. هذا كله، دون أن ننسى العامل الإيراني الذي لا يملك مصلحة مباشرة في التخلي عن ابتزاز الأردن، والمكاسب المالية لميليشياته في سوريا، من تجارة المخدرات، والتي تطلب عمّان أن يتم التخلي عنها لقاء بعض مشاريع الكهرباء والمياه والصرف الصحي وسواه.
وهكذا، يبدو أن مبادرة الأردن الثالثة وُلدت ميتة أيضاً، حتى لو أخذت مساراً من اللقاءات والحوارات. ذاك أن الركائز المزعومة لها، غير موجودة أساساً، ومن الصعب توفيرها على المدى القريب.
إياد الجعفري _ الطريق