العدالة الانتقالية هي مصطلح عرفناه في سوريا عن طريق منظمات المجتمع المدني مع بدايات عام 2013، وعرفه العالم أجمع قبلنا بفترة تعتبر قصيرة نسبيًا، ففي تسعينات القرن الفائت صاغ عدد من الأكاديميين الأمريكيين هذا المصطلح لوصف الطرق المختلفة التي عالجت بها البلدان مشاكل وصول أنظمة جديدة إلى السلطة ومواجهتها الانتهاكات الجسيمة لأسلافها.
وقد اكتسب هذا المصطلح الأهمية الكبيرة منذ بداية تداوله وذلك لاهتمام الولايات المتحدة الأمريكية السياسي برصد انتهاكات الإنسان للحقبة الشيوعية في الاتحاد السوفيتي السابق.
ويشير هذا المصطلح إلى مجموعة التدابير القضائية وغير القضائية التي قامت بتطبيقها دول مختلفة من أجل معالجة ما ورثته من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان. وتتضمّن هذه التدابير الملاحقات القضائية، ولجان الحقيقة، وبرامج جبر الضرر وأشكال متنوّعة من إصلاح المؤسسات.
وأهمية هذه الإجراءات تكمن في فكرة إدانة مرتكب الانتهاك مهما طال الزمن على الجريمة وضرورة المساءلة وجبر ضرر الضحايا، ولاسيما المهمشات/ين منهن/م وضرورة الاعتراف بكرامتهن/م كمواطنات/ين وكبشر، حيث ترى أن تجاهل الانتهاكات الواسعة قد يكون مَهْرَبًا سهلاً ولكنه يدمر القيم التي يُبنى عليها أي مجتمع لائق، وأن من حق جميع المواطنات/ين حتى المهمشات/ين منهن/م أن يشعروا بالأمان في بلدانهن/م.
ولهذا كله كان مجرد تداول هذا المصطلح يثير الذعر في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام ويعتبر من أكبر الكبائر ومن المحرمات، وإلى الآن، حتى ضمن نشاطات وفعاليات المجتمع المدني في هذه المناطق، يمكن التغاضي عن فعاليات في الجندر والعنف القائم على النوع الاجتماعي مثلاً، ولكن لا يمكن تمرير أي إشارة أو تلميح لفعالية ما عن هذا المصطلح الذي يؤرق النظام السوري، من أن يأتي يوم وتطبق به إجراءات العدالة الانتقالية في سوريا.
ولأهمية هذا الموضوع في سياق عدد من المواضيع التي تهتم الحركة النسائية النسوية بمعرفة رأي النساء بها، والتي سبق مناقشتها مع النساء، وإصدار أوراق سياساتية حولها مثل العقد الاجتماعي والانتخابات والعدالة وغيرها، توجهت الحركة ضمن /12/جلسة استهدفت كل جلسة منها /10/ نساء من مختلف المناطق السورية بسؤال محدد، ما الذي تريده النساء من العدالة الانتقالية؟
ربما كان العامل المشترك بين كل الإجابات في بداية الجلسات هو الشعور بالحزن العميق، فالخسائر كبيرة جدًا وعلى كل المستويات، أية عدالة قد تعيد الابن والزوج والأخ والأرض والمنزل والذكريات وسنين العمر لملايين اللاجئات/ين والنازحات/ين البعيدات/ين عن بيوتهن/م وحض أمهاتهن/م.
تقول إحدى النساء: “نحتاج لعلاج نفسي بعد هذه الجلسة فنحن نحاول دفن أحزاننا في قلوبنا لنستطيع الاستمرار حتى يوم المحاسبة”.
وتدريجيًا مع الدخول في تفاصيل إجراءات العدالة الانتقالية من لجان تقصي الحقائق إلى المحاسبة والعدالة إلى الملاحقات القضائية والمحاكم حتى يتبين لنا أن الأغلبية العظمى من النساء لديهن اطلاع لابأس به عن هذه الإجراءات ويعرفن تماما أنه لا يمكن البدء بهذه الإجراءات قبل الانتقال السياسي، هن يدركن من مشاهدتهن للواقع أن التسويات التي جرت في الفترة الأخيرة في المناطق التي أعاد النظام سيطرته عليها ليست لها علاقة بالعدالة الانتقالية وإنما هي إعادة فرض لسلطة النظام، ويعتبرن أن المصالحات التي تمت في درعا مؤخرًا هي تسويات هشة حيث تعبر إحداهن قائلـةً: ′′هـذا النمـط مـن المصالحـات الهشـة والتسـويات لـن تكـون نموذجًـا نقبـل بـه فـي المصالحـات التـي ستتم أثنـاء تطبيـق مسار العدالة الانتقالية′′.
كل النساء يردنَّ إدانة مرتكبي الجرائم في سوريا، لكنهن يخفنَّ من أن يكون هناك تسوية ما مستقبلاً ويتم اللعب على هذا الموضوع.
تقول إحداهن: “من سيحاسب من؟؟؟ هل منظومة الأسد ستحاسب نفسها؟؟؟ هل المنتهكون والجلادون سيحاسبون أنفسهم؟؟؟”.
والسؤال الكبير الذي يؤرقهن إجابته هو، هل هناك فترة محددة لرصد الانتهاكات التي حدثت؟ وهل هناك منطقة محددة الآن وبعد تقسيم سوريا إلى ثلاث مناطق (ويراها البعض أربع مناطق حسب سيطرة قوى الأمر الواقع) لرصد هذه الانتهاكات؟
تتساءل أخرى: “من أين نبدأ؟؟ هل نتحدث عن الانتهاكات التي حصلت بزمن الأب أو الابن؟ هل نتحدث عن كل الانتهاكات التي حصلت في كل المناطق ومن كل قوى الأمر الواقع؟؟”
وبالدخول في التفاصيل يعدن استرجاع ذكرى مجزرة حماة والاعتقالات لسنوات طويلة بزمن الأب فالظلم لا يُنسى على حد تعبير إحداهن… والآن يؤكدن أن النظام بالإضافة إلى قوى الأمر ٍالواقع جميعهم قاموا ويقومون بانتهاكات مستمرة من الإخفاء القسري إلى الطرد من البيوت وإسكان آخرين محلهم إلى قلع أشجار الزيتون، هذه الممارسات قامت بها كل الفصائل العسكرية وعلى امتداد التراب السوري.
تشير إحداهن إلى أننا “جميعنا تكبدنا خسائر فادحة لا تعد ولا تحصى، جميع السوريات/ين دون استثناء، الخوف عنصر أساسي في حياتنا، لا نشعر أبدًا بالأمان حتى لو كنا في منازلنا لأن الميليشيات موجودة بكثرة وظاهرة في العلن والأسلحة منتشرة في كل المناطق وجميعهم فوق القانون”.
وتؤكد أغلبية النساء أن الشعب السوري بكافة فئاته تعرض لانتهاكات جسيمة وعلى كافة المستويات، لكن النساء تعرضن لانتهاكات وظلم أقسى بكثير، فهن حرمن من أطفالهن، حيث الكثيرات منهن قمن بتهريب أبنائهن الذين في سن الخدمة الإلزامية إلى الخارج، خوفًا عليهم من القتل.
تشير إحداهن إلى هذا بقولها: “أخرجناهم صغارًا ولا نعرف شيئًا عنهم، واليوم يتحدثون معنا كالغرباء”.
وتقول أخرى: “الجميع يعلم أن النساء تأذين بشكل مضاعف، وخاصة أثناء سيطرة داعش. العديد منهن لم يخرجن من منازلهن أبدًا، لقد تم إذلال النساء بشكل خاص، إضافة إلى حرمانهن من التحصيل العلمي”.
وهن يؤكدن على ضرورة وجود لجان تقصي الحقائق لتوثيق هذه الانتهاكات تمهيدًا للانتقال إلى المحاكم والملاحقات القضائية، قد يختلفن فيما بينهن حول نوعية المحاكم، هل المحاكم الدولية أفضل أم الوطنية أم المختلطة، بعضهن يعتقد أن المحاكم الوطنية مع وجود قاضيات/قضاة سوريات/ين مستقلات/ين ونزيهات/ين أفضل لأن أهل مكة أدرى بشعابها، بينما ترى الأخريات أنه يجب محاكمة المسؤولين الأساسيين في محاكم دولية، وحيث أنها تكلف كثيرًا وقد تطول فربما تكن المحاكم المختلطة هي الخيار الأفضل.
شددت جميع المشاركات على عبارة إحداهن: “صحيح أن القضايا ستطول في المحاكم وسنتعرض للعنف، ولكن في حال صمتنا ورضخنا للظلم سنتعرض للأسوأ”.
كما أكدن على ضرورة التمييز في إجراءات المحاسبة بين من أصدر الأوامر وبين العسكري الذي قام بالتنفيذ، لأنه ليس لديه القدرة على العصيان، وعلى ضرورة محاسبة من تلطخت يديه بالدماء بالدرجة الأولى، ولاحقًا من سرق أموال الشعب.
إحدى السيدات المشاركات عبرت عن العدالة التي يجب تحقيقها بعبارتها التالية: “نحن نطمح لتحقيق العدالة في سوريا على الظالم حسب درجة ظلمه، فعلى سبيل المثال محاسبة السارق تختلف عن محاسبة القاتل، والسجان الذي كان يساعد المعتقلات/ين بالسر ليس كالسجان الذي كان يعذبهم، لذلك يجب الحذر حين يأتي اليوم المنتظر”.
وحتى بموضوع جبر الضرر ترى النساء أنه يجب تعويض الجميع وكل حسب خسارته، رغم أنهن توافقن منذ البداية أن جبر الضرر لن يعيد الوقت ولا السنوات التي مضت في المعتقلات وتحت التعذيب، ولن يعيد الأب والابن والبنت، تعبر إحداهن “مستحيل أن يعوض أي مبلغ من المال ولا أي نوع أو مجموعة من الاستحقاقات يمكن أن تخفف أو تمحو وطأة هذه التجارب”.
وبحسب المشاركات يجب أن يكون التعويض جماعيًا من خلال الحجز على الأموال المنقولة وغير المنقولة للمجرمين والفاسدين، وأن تتم محاكمتهم واستعادة الأموال المنهوبة منهم.
وهن يطمحن إلى إعادة بناء مؤسسات الدولة بعد تنظيفها من الفاسدين، ووضع الأشخاص النزيهين والمستقيمين فيها فإعادة الهيكلة حسب رأيهن هي ضرورة قصوى حيث تعبر إحداهن عن الموضوع بالمثال التالي: ′′إن كان لدينـا شـجرة كبيـرة هـل نقطعهـا ونـزرع شـجرة صغيـرة غيرهـا؟، أو نعالجها لكـي تعطي الثمرة التي نريدها؟ لدينــا مؤسســات قويــة وعمرهــا ســنوات، لكــن الخطــأ فيهــا الإدارة العليا أي الــرأس′′.
النساء جميعًا وفي كل المناطق السورية يثقن بأن الطريق طويل لتحقيق العدالة الانتقالية، وقد يستغرق عشرات السنوات، وقد لا يكون هو الحل الجذري، لكنه طريق لابد من السير به لنعيد بناء سوريا؛ دولة لجميع مواطناتها ومواطنيها، حيث تقول إحداهن معبرة عن رأي أغلب النساء: “إن العدالة الانتقالية ليست العصا السحرية التي ستمحو جروح الماضي، لكنها يجب أن تكون بداية الطريق للوصول إلى المصالحة المجتمعية حتى نعيد بناء وطن سليم يحفظ مستقبل حفيداتنا/أحفادنا على الأقل”.
لقراءة الورقة السياساتية “العدالة من وجهة نظر السوريات” من خلال الرابط التالي:
سلمى الدمشقي _ الحركة السياسية النسوية السورية