syria press_ أنباء سوريا
يصعب على كثيرين من المتابعين للشأن السوري تجنب إغراء المقارنة بين تجربة رفعت الأسد، وتجربة ابن شقيقه، ماهر، في السلطة. ويزداد هذا الإغراء طغياناً مع تشابه ظروف العشريتين اللتين انتهت الأولى منهما في الثمانينات بخروج رفعت بصورة شبه كاملة من المشهد السلطوي في البلاد، فيما تنتهي الثانية في العام 2021، بترسيخ مكانة ماهر الأسد ، بصورة تدفع للتشكيك في احتمال أن تنتهي تجربة هذا الأخير، بالصورة التي انتهت إليها تجربة عمّه، رغم تشابه المقدمات التي مهّدت لصعودهما.
وفيما يواجه رفعت الأسد، الثمانيني المرهق صحياً، جلسات استئناف حكم السجن عليه بفرنسا، بعد ثلاثة عقود ونيف من فقدانه لوزنه الهائل داخل نظام الحكم، يعزّز ماهر الأسد نفوذه باستخدام إرث عمّه ذاته. فالفرقة الرابعة التي يقودها ماهر اليوم، هي وريثة “سرايا الدفاع” التي قادها العمّ سابقاً، والتي تشكلت رسمياً عام 1984، بعيد حلّ “سرايا الدفاع”، لتتحول إلى حيزٍ خاصٍ لـ ماهر الأسد، منذ انخراطه فيها عام 1989، وصولاً إلى تسلّمه لقيادتها، رسمياً، عام 2018، بعد أكثر من عقدين، اعتُبر خلالهما، القائد الفعلي لهذه الفرقة.
ويصبح إغراء المقارنة بين تجربة الرجلين، أكثر دراماتيكية، حينما نتناول الشق المتعلق بكيفية جمعهما لثروتهما. إذ يبدو أن ماهر الأسد تلميذ نجيب للعمّ، مع فارقٍ يتعلق باختلاف كمّي بين ظروف العشرية الثانية من حكم بشار الأسد، مقارنة بظروف العشرية الثانية من حكم والده. فأبواب النهب تضاعفت عشرات المرات، وشمل اقتصاد الحرب خريطة البلاد بأكملها. فإذا كانت ثروة رفعت الأسد، المعروفة اليوم، تتجاوز الـ 800 مليون دولار، على أقل تقدير، وفق ما كشفت المصادر القضائية الفرنسية والاسبانية، حتى الآن، فكم ستكون ثروة ماهر الأسد؟! هذا الاختلاف الكمّي المرجّح، لا يؤثر على النوع. فالمدرسة التي أرسى العمّ رفعت، ركائزها، هي ذاتها التي تخرّج منها ابن الأخ، وتحوّل من تلميذ نجيب لعمّه، إلى أستاذ في فنّ نهب المال العام، والخاص السوري.
وكانت فصول المحاكمة التي تعرّض لها رفعت الأسد في اسبانيا خلال السنوات الأربع الأخيرة، قد كشفت عن ركائز مدرسته في جمع الثروة من مصادر غير مشروعة، خلال وجوده في السلطة. والتي تشمل بنوداً تبدأ بالابتزاز والتهديد، وفرض إتاوات على تجار ورجال أعمال، والتهريب، ونهب الآثار، واغتصاب ملكية العقارات، وليس انتهاءً بتهريب المخدرات. ناهيك عن الـ 300 مليون دولار التي حصل عليها لقاء مغادرته البلاد، عام 1984، والتي رجّح القضاء الاسباني أنها كانت من المال العام السوري، منحها له شقيقه، كي يحفظ كرسي الحكم له، ولابنه باسل، من بعده.
الركائز ذاتها، بنى عليها ماهر الأسد ثراءه غير المشروع. بعض تلك الركائز بدأت حتى قبل العام 2011، منها نهب آثار تدمر، وفق شهادات لمطلعين. لكن العشرية الأخيرة، فتحت أبواباً لم يكن ماهر الأسد قادراً على فتحها قبل ذلك. فاقتصاد الحرب أتاح له كل الموبقات التي سبق وأتاحتها معركة نظام الأسد مع معارضته الأخوانية في نهاية السبعينيات وحتى منتصف الثمانينات، مُضافاً إليها ركائز جديدة نوعية.
وتبقى تلك الدراسة التي صدرت عن برنامج “مسارات الشرق الأوسط”، في كانون الثاني/يناير 2020، تحت عنوان “شبكة اقتصاد الفرقة الرابعة خلال الصراع السوري“، للباحث أيمن الدسوقي، أعمق معالجة متاحة حتى الآن، لمداخل جمع الثروة غير المشروعة، التي اعتمدها ماهر الأسد، في العشرية الأخيرة بصورة خاصة.
وإن كان ماهر الأسد قد دخل عوالم تجارة الآثار منذ العقد الأول من القرن الحالي، فإن اقتصاد الحرب بعد الـ 2011، أتاح له عوالم أخرى، تجاوز فيها مدرسة عمّه، من دون أن يتخلى عن ركائزها تماماً. من أبرز العوالم الجديدة، تجارة الخردة، التي تذهب تقديرات الدراسة المشار إليها أعلاه، إلى أنها عادت بأرباح قُدّرت بحوالي 10 ملايين دولار شهرياً، خلال شهري كانون الثاني/يناير وشباط/فبراير من عام 2019، لصالح محمد حمشو، رجل الأعمال الدمشقي، الذي أوكله ماهر الأسد بإدارة هذه التجارة، لصالحه. فكم كانت الأرباح التي عادت لـ ماهر الأسد، إذاً؟ وإن كانت تلك تقديرات لأرباح شهرين فقط، فكم ستكون حصيلة الأرباح لأكثر من ثلاث سنوات من النشاط التجاري في هذا المجال؟!
وبخلاف حمشو، المقرّب من ماهر منذ نهاية التسعينيات، عزّز ماهر الأسد شبكته الزبائنية، بمواهب جديدة، من عَيّنة، خضر علي طاهر – “أبو علي خضر”-، الذي كان أهم متعهدي ظاهرة الترفيق المحسوبين على الفرقة الرابعة. تلك الظاهرة التي وُلدت مع تفاقم الصراع المسلح، وتطورت إلى أن تمكن ماهر الأسد بحلول العام 2018 من الهيمنة عليها، بعد إقصاء منافسيه الرئيسيين في هذا المجال.
وبالتوازي مع ظاهرة الترفيق، تفاقمت ظاهرة الترسيم –فرض إتاوات على مرور البضائع والأفراد عبر المعابر الداخلية بين مناطق السيطرة المختلفة-، والتي باتت بصورة كبيرة، من نصيب ماهر الأسد أيضاً، بحلول العام 2018.
لكن، كما أشرنا، فإن ماهر الأسد لم يتخلَ عن ركائز مدرسة عمّه، فكان حريصاً على تعيين رجال محسوبين عليه في مختلف مؤسسات الدولة السورية، وبصورة خاصة منها، تلك التي تتيح مصادر دخل كبيرة، في مقدمتها، المرافئ، التي كانت قبل العام 2011، تمثل 70% من حجم التجارة السلعية الخارجية غير النفطية، لسوريا. ناهيك عن تجارة الترانزيت المرتبطة بها. من دون أن ننسى أهميتها لتجارتَي الآثار والمخدرات.
وإن كان ماهر الأسد قَبِل التخلي عن نفوذه في مرفأ طرطوس لصالح الروس الذين حصلوا على عقدٍ لاستثماره عام 2019، إلا أنه بقي حتى الآن متمسكاً بمرفأ اللاذقية، الذي كان مصدر أكبر شحنة مخدرات في التاريخ إلى إيطاليا، بقيمة مليار يورو، في منتصف العام 2020.
بناءً على ما سبق، لا نستطيع التقليل من شأن المعلومة التي أعلنها رياض حجاب، رئيس الوزراء السوري المنشق، في تغريدة له، قبل عامٍ من الآن، تعليقاً على الصراع الذي خرج للعلن حينها، بين بشار الأسد، وابن خاله رامي مخلوف. إذ قال رياض حجاب إن هناك صراعاً آخر في الكواليس بين أسماء وبين ماهر الأسد وزوجته منال جدعان. وكان الظهور الإعلامي اللافت لتلك الأخيرة، لأول مرة في آذار/مارس الفائت، لتتحدث عن بطولة الفروسية التي تحتكر تنظيمها والإشراف عليها، وتحتكر ابنتاها -ابنتا ماهر الأسد- الفوز بميدالياتها، مؤشراً على رغبة بإظهار شيء من الندّية حيال أسماء الأسد.
كذلك، لا نستطيع التقليل من شأن تلك المادة البحثية اللافتة التي نشرتها مجلة “رصد الإرهاب” الصادرة عن مؤسسة جيمس تاون الأمريكية، في حزيران/يونيو 2020، والتي ترجمها مركز حرمون للدراسات، تحت عنوان “هل تخسر روسيا الجيش العربي السوري لمصلحة إيران أو اللواء ماهر الأسد؟”. وتشير المادة إلى أن قدرة ماهر الأسد على تعطيل خطط الروس لإصلاح القطاع الأمني والعسكري داخل نظام الأسد، ما تزال فاعلة. وكمثال لذلك، نجح ماهر الأسد في تجاوز الرغبة الروسية بإنهاء سطوته على معابر ونقاط تفتيش رئيسية في الداخل السوري، تشكل مصادر دخل ونفوذ هائل له. إلى جانب نجاحه في عرقلة السعي الروسي لعزل مدير مكتبه، وذراعه الأيمن، اللواء غسان بلال.
ومع التقاء المصالح بين الإيرانيين وماهر الأسد، في الحفاظ على حالة “الميليشاوية” القائمة كنتيجة لظروف الحرب، وفي مقارعة المساعي الروسية لإعادة ترتيب المؤسستين العسكرية والأمنية، بصورة تخلصهما من العوامل التي تنتقص من التراتبية الرسمية، مع ما يعنيه ذلك من تقليص نفوذ ماهر الأسد شخصياً، يبدو أن الأخير مضطر للتحول إلى حليف لإيران.
وعند هذه النقطة، نلحظ مفارقة في المقارنة المُغرية بين تجربتي رفعت، وابن شقيقه ماهر. فالأول كان حليفاً للغرب – فرنسا بصورة رئيسية-، والخليج – السعودية بصورة رئيسية-، اللذين لم يُسعفاه لحظة تطلب ذلك، بل كانا طرفاً في إبعاده عن السلطة. بينما يقف ماهر الأسد اليوم على الضفة الأخرى، كما يظهر حتى الآن، ليكون حليفاً للإيرانيين، أولئك الذين لا يتخلون عن حلفائهم بسهولة. وهكذا، فإن ولادة نفوذ خليجي مُحتمل في سوريا، عبر تمويل إعادة الإعمار، إن آلت مساعي التقارب السعودي – الأسدي، إلى نهاياتها المأمولة في دمشق وموسكو، سيضيف بعداً آخر للعبة توازن القوى داخل تركيبة النظام. فعلى الأرجح، ستكون إيران بحاجة لقوة داخل النظام توازن بها علاقتها مع بشار الأسد. فالأخير يحترف التلوّن وفتح القنوات مع مختلف الأطراف. وفي ذلك مهارة لا تخلو من الخطورة، ولا يمكن الاطمئنان لها. بينما تبدو العلاقة الإيرانية مع ماهر الأسد، مصدراً لنفوذ أكثر استدامة لهذا الأخير.
وبذلك، تبدو خاتمة تجربة رفعت الأسد، بعيدة جداً عن تجربة ماهر الأسد. والصراع المرتقب على خلافة بشار الأسد، سيكون وفق معادلات مختلفة عن تلك التي حدثت في منتصف الثمانينات. فـ ماهر الأسد، لن يكون “رفعت آخر”.
إياد الجعفري_ المدن