تتعهد الحكومة التركية باقتراب إنشاء منطقة آمنة في الشمال السوري، تعيد نحو مليون لاجئ إليها، ما يطرح فرضيات حول منطقية إحداث بيئة اقتصادية في تلك المنطقة تسمح للسوريين العائدين بإيجاد سبل جديدة للعيش.
وكان الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، كشف، في 3 من أيار الحالي، عن مساعي الحكومة التركية لإعداد مشروع لضمان عودة مليون لاجئ سوري “عودة طوعية” إلى بلادهم، بحسب ما نقلته قناة “A Haber” التركية، في تصريحات عاد لتأكيدها مع مجموعة من المسؤولين الأتراك.
وقال إن الحكومة التركية بالتعاون مع منظمات المجتمع المدني التركية والعالمية، تسعى لإنشاء مشروع سكني وخدمي كامل.
وتحظى تركيا بنفوذ في مناطق شمال غربي سوريا، بريف حلب الشمالي والشرقي، ومنطقة إدلب، إلى جانب منطقتي رأس العين وتل أبيض، في شمال شرقي سوريا.
خطة تفوق طاقة المنطقة الاستيعابية
البيئة الاقتصادية في الشمال السوري، سواء في المناطق الغربية أو الشرقية أو حتى في المناطق الواقعة تحت سيطرة النظام السوري، لا تسمح بأي حال من الأحوال باستيعاب أعداد كبيرة، بحسب ما قاله الباحث الاقتصادي خالد تركاوي، لعنب بلدي.
ويمكن لمجموعة من الأشخاص أن يكونوا قادرين على تأمين أنفسهم، ولكن عندما نتكلم عن مجتمع (تجمعات) فلا تزال الأوضاع في بداياتها، بحسب تركاوي.
وفيما يخص الغذاء، فإن عددًا كبير من النازحين والسكان لا يستطيعون تأمين احتياجاتهم منه، بينما يوجد عدد كبير من المقيمين في المخيمات والخيم مهددون بعوامل الجو، عدا عن أنها لا تعدو أن تكون مكان سكن مؤقت لعدة أيام وليس لسنوات.
كما يوجد عدد كبير من العاطلين والعاطلات عن العمل، وإعادة عدد كبير من الشباب سيجعل هؤلاء إما عاطلين عن العمل وإما منخرطين في الشأن العسكري بتنظيمات معتدلة أو حتى متطرفة، بحسب الباحث.
عدد النازحين في شمال غربي سوريا بلغ حوالي 2.8 مليون نازح داخليًا، منهم 1.7 مليون نازح يعيشون في المخيمات.ويعاني أكثر من 75% من السكان من انعدام الأمن الغذائي في شمال غربي سوريا (أي 3.1 مليون من أصل 4.4 مليون شخص)، وهناك مليون شخص إضافي معرضون لخطر انعدام الأمن الغذائي، بحسب تقرير أممي لعام 2022. |
هل تتحمّل المنطقة اقتصاديًا؟
عن مدى قدرة المنطقة اقتصاديًا على تحمّل المزيد من الوافدين إلى مساحة جغرافية محددة، لا تزال تعاني في الأساس من عدة عوامل وركائز للسوريين الموجودين فيها حاليًا، أوضح وزير الاقتصاد في “الحكومة المؤقتة”، عبد الحكيم المصري، في حديث إلى عنب بلدي، أن قدوم مليون سوري آخر إلى جانب السكان الموجودين، بما يقارب 25% من عدد السكان الحالي، سيؤثر بالتأكيد في ظل وجود نسبة بطالة وفقر مرتفعة إلى جانب أزمة السكن.
بحسب الخطة التركية، ستجهز المنطقة بمنشآت اقتصادية، وبعدها يمكن لمن يريد العودة بشكل طوعي إليها، لكن وبحسب المصري، فإن المعوق الوحيد في مجال التنمية هو وجود الكثير من المشاريع ذات التكاليف المرتفعة التي لا يستطيع أن يقوم بها أحد لتحسين المنطقة، مثل مشاريع الري وتأمين مياه الشرب.
إلى جانب صعوبة الاستثمارات في هذه المناطق، فالمستثمر ليست لديه قناعة حتى الآن بالعمل في المناطق “المحررة” على الرغم من وجود سبع مناطق صناعية، بدأ قسم منها يعمل في بعض المعامل مثل منطقة الباب والراعي.
في المقابل، توجد مشاريع مهمة بدأت بالنشاط في المنطقة، إذ ضرب الوزير أمثلة بتخفيض المدينة الصناعية في منطقة الراعي أسعار الأسمنت لحوالي 15 دولارًا أمريكيًا للطن، بينما بدأ معمل لصناعة الأكياس الخاصة بالمحاصيل الزراعية نشاطه، في الوقت الذي كانت كل هذه المنتجات يتم استيرادها.
الاستثمار.. بنصف قدم
توجد حاليًا في المنطقة استثمارات تركية وسورية أيضًا، ويمكن أن تأتي شركات أجنبية إذا وجدت فعلًا تسويقًا في المنطقة.
لكن من أهم المعوقات أمام المستثمرين عدم الاعتراف حتى الآن بقوانين ووثائق مؤسسات “المناطق المحررة”، ما يسبب مشكلة في شهادات المنشأ إلى جانب تحويل الأموال، بحسب الوزير.
وكشف الوزير عن إعداد قانون خاص بالاستثمار، إلى جانب مجلس اقتصادي من أجل الاستثمار.
لكن لا يوجد تنسيق جدّي حتى الآن بين وزارة الاقتصاد في “الحكومة المؤقتة” وبين الحكومة التركية بخصوص مشروع “المنطقة الآمنة” من حيث تفاصيله الاقتصادية، وما يحصل حاليًا يقتصر على عمل منظمات وجهات تركية في بناء البيوت، لا توحي ببدء الخطوات الحقيقية للمنطقة بعد، بحسب المصري.
ستة متغيرات
من جهته، حدد الباحث الاقتصادي في مركز “عمران للدراسات الاستراتيجية” محمد العبد الله، في حديث إلى عنب بلدي، مجموعة من المتغيرات التي تبرز في قضية العودة الطوعية وارتباطها بالجانب الاقتصادي، وهي كالتالي:
أولًا: الكثافة السكانية
الكثافة السكانية في المناطق التي أُدرجت في خطة العودة، وفق ما تم تداوله من الجانب التركي، مرتفعة، إذ يتجاوز عدد القاطنين حاجز 2.5 مليون شخص، وهي نسبة كثيفة في منطقة جغرافية لا تتجاوز مساحتها 8500 كيلومتر مربع.
وبالتالي، تشير التوقعات إلى ارتفاع مستوى الكثافة السكانية في هذه المناطق فوق المستوى الطبيعي.
وستفرض هذه الكثافة العديد من التحديات المعيشية وارتفاع معدلات البطالة والفقر ضمن هذه المناطق، وبالتالي، يفترض أن تتم هذه العودة على شكل دفعات لتخفيف العبء الاقتصادي والاجتماعي المرتبط بها.
ثانيًا: قطاع الإسكان
إن أحد التحديات الأساسية التي يواجهها القاطنون في هذه المناطق خلال الأعوام الماضية إيجاد المسكن، وعلى الرغم من الحركة الكبيرة في قطاع الإسكان والتعمير التي تشهدها هذه المناطق، لم تتمكن نسبة كبيرة من تأمين سكنها المناسب لأسباب اقتصادية، من حيث الأسعار المرتفعة للشراء وللإيجار التي تفوق قدرة نسبة كبيرة من القاطنين.
وبالتالي، ستمثّل العودة، في حال لم تتواكب مع ما تعهدت به الحكومة التركية من تأمين السكن لجميع العائدين، أزمة جديدة للمقيمين في العثور على السكن، وبالتالي تأثر استقرارهم الاجتماعي.
ثالثًا: البيئة الاقتصادية والمالية
لم تشهد المنطقة منذ عام 2016 أي مؤشرات فعلية للنمو الاقتصادي والتنموي، وبالتالي، يوجد ثبات نسبي لمستوى فرص العمل المولدة في مختلف القطاعات الإنتاجية، ومرد ذلك بشكل أساسي إلى انخفاض مستوى الاستثمار الخاص في هذه القطاعات، بسبب حالة عدم الاستقرار الأمني، وغياب جهات حوكمية رسمية تضمن حقوق المستثمرين، يضاف إلى ذلك الصعوبات المرتبطة بالاستيراد والتصدير وما يرتبط بها من متطلبات.
كما أن جلّ الحركة الاقتصادية تتركز في قطاعي التجارة والإسكان غير المولدَين لفرص العمل القادرة على امتصاص هذه النسب المرتفعة من البطالة للمقيمين والعائدين.
استحداث مصارف
وفي جانب القطاع المالي، لا يزال هذا القطاع غير محوكم، ويفتقد للمصارف والمؤسسات المالية اللازمة لمواكبة حركة الاستثمار المتوقعة، والأمر لا يزال يقتصر على وجود بعض فروع مؤسسة البريد التركية (PTT) التي تقدم بعض الخدمات المالية.
وعليه، يرى العبد الله أن الخطوة المقبلة ستتمثّل بإتاحة الفرصة لدخول المصارف الخاصة والحكومية التركية، وغيرها من المؤسسات المالية المهتمة بالعمل ضمن هذه المناطق، بعد رفع العقوبات عنها (أعفت وزارة الخزانة الأمريكية مناطق شمال شرقي وشمال غربي سوريا من العقوبات باستثناء عفرين وإدلب).
كما يمكن تأسيس هيئة محلية للاستثمار ذات ذراع تنفيذية، بالتعاون والتنسيق مع الجانب التركي، لتحديد الخارطة الاستثمارية المناسبة لهذه المناطق من حيث القطاعات والفرص المتاحة ضمنها للمستثمرين.
إلى جانب تفعيل غرف الصناعة والتجارة والمكاتب المالية التابعة للمجالس المحلية باعتبارها الكيانات الحوكمية في هذه المناطق.
تشجيع الاستثمار
للمستثمرين السوريين المقيمين في تركيا والأتراك من الصناعيين وأصحاب الشركات التجارية دور مأمول لفتح فروع لهم ضمن هذه المناطق، عبر تقديم تسهيلات ائتمانية وامتيازات وضمانات حكومية معيّنة لتسهيل حركة الاستيراد والتصدير، والحصول على شهادة المنشأ التركية للمواد المصنعة ضمن هذه المناطق.
وبالتالي، ستسعى الحكومة التركية لضمان نجاح هذه الاستثمارات في مرحلتها التأسيسية، بحيث تكون محفزًا لاستقطاب استثمارات أكبر مستقبلًا، بحسب الباحث محمد العبد الله، إلى جانب تذليل العقبات الموجودة لدى المستثمرين المحليين لاستثماراتهم المنشأة ضمن هذه المناطق.
والخطوات المرتبطة بالجانب الاستثماري تمثّلت بشكل واضح بتأسيس اللبنات الأولى للمدن الصناعية في المدن الكبرى خلال العامين الماضين، والتي يمكن اعتبارها ركيزة أساسية لتنمية هذه المناطق إذا ما تم إيلاؤها الاهتمام اللازم لنجاحها وتأمين جميع متطلباتها اللوجستية والفنية.
رابعًا: سوق العمل
يشهد سوق العمل الحالي حالة تنافسية كبيرة على فرص العمل المتاحة بين القاطنين في هذه المناطق، وفي حالة عودة هذا العدد ستزداد حدة التنافس بشكل كبير ومؤذٍ، بحسب الباحث محمد العبد الله.
وبالتالي، يتطلّب الأمر إجراء إحصاءات لنسبة البطالة وتوزع العاملين في القطاعات المختلفة للوصول إلى تقديرات دقيقة تراعي الحفاظ على الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي للمقيمين فيها.
وخرجت مؤخرًا مظاهرات لبعض المقيمين ترفض خطة العودة، لاستشعار هذه الفئات بالتهديد القادم على أمنهم الاقتصادي.
مع الأخذ بعين الاعتبار الجهود التي عملت عليها منظمات المجتمع المدني من خلال مشاريعها التدريبية والتنموية لرفع مستوى تأهيل الأفراد وإكسابهم المهارات اللازمة لدخول سوق العمل، والتي ستتأثر بشكل واضح في ظل المنافسة الكبيرة المحتملة مستقبلًا على فرص العمل، بحسب العبد الله، فالعائدون اكتسبوا مهارات عمل في تركيا تفوق تلك الموجودة لدى أقرانهم من المقيمين.
خامسًا: البنية التحتية
البنية التحتية في هذه المناطق لم تكن بذاك المستوى من التجهيز قبل عام 2012، وقد تدهورت بشكل كبير في ظل سنوات النزاع بسبب القصف والتخريب والتعدي على الممتلكات العامة والحفر الجائر للآبار الجوفية، ولا تزال بعض المناطق تعاني من مشكلات نقص المياه والكهرباء والصرف الصحي والطرق المعبدة.
ويعتقد الباحث محمد العبد الله، أن نجاح مشروع العودة مرتبط بشكل أساسي بمدى القدرة على إعادة تأهيل البنية التحتية لتكون قادرة على تخديم ما يقارب من أربعة ملايين سوري تقريبًا، وهي أقرب ما تكون إلى عملية إعادة إعمار مصغرة متكاملة ضمن هذه المناطق.
وبالتالي، سيكون التركيز المستقبلي منصبًا على تطوير البنية التحتية من خلال الشركات التركية التي سيعهد لها بهذه المهمة، وهي شركات ذات مستوى عالمي وذات قدرات جيدة لتنفيذ هذه المهمة حال توفر التمويل اللازم لها.
وكانت العديد من الشركات التركية تترقب عملية إعادة الإعمار في سوريا للحصول على فرصة ضمنها، وقد تكون هذه خطوة لها على هذا الصعيد، إذا ربطنا ذلك باستثناء بعض هذه المناطق من قانون العقوبات، وبالتالي امتلاك هذه الشركات حرية أكبر في التحرك بالجانب المالي والاستثماري.
أخيرًا.. البيئة الأمنية
ختامًا، فيما يرتبط بالبيئة الأمنية، يرى الباحث محمد العبد الله أن عودة هذه الكتلة البشرية في ظل بيئة أمنية هشة تفرض تحديات كبيرة على مستوى الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي للعائدين والمقيمين من السكان المحليين والنازحين.
المقوّم الأساسي لنجاح هذه العودة سيرتبط بشكل كبير بمدى القدرة على ضبط الواقع الأمني، وإشاعة جو من الطمأنينة للعائلات والتجار والمستثمرين وغيرهم من الفئات الأخرى.
ويرى العبد الله أن هذه المهمة ليست من السهولة بمكان في ظل التعقيدات المرتبطة بالواقع الأمني ضمن هذه المناطق والمناطق المجاورة.
لكن في نفس الوقت، تعوّل الحكومة التركية على كسب التوافقات الإقليمية والدولية لإنجاح مسعاها في تأسيس المنطقة الآمنة، وتعزيز استقرارها الأمني والاجتماعي لتحقيق جملة من المكاسب السياسية والأمنية والاقتصادية.
وتدير السلطات التركية اقتصاد المنطقة، عن طريق المجالس المحلية التي أسهمت في إنشائها وتعمل على تمويلها، من خلال تزويدها بالخدمات وتسهيل الاستثمار فيها ودعم التجار والصناعيين، وطرح عملتها الوطنية، ومدّها بمؤسسات مالية.
وكانت عنب بلدي أعدّت تحقيقًا بعنوان: “تركيا تشكّل اقتصاد الشمال السوري.. لمن تعود المنفعة؟”، سلّطت الضوء فيه على الإسهام الاقتصادي التركي في مناطق الشمال السوري والعوائد الاقتصادية لكلا الجانبين.
ديانا رحيمة _ عنب بلدي